الاثنين، 30 ديسمبر 2019

ترجمة "وليمة متنقلة" لهيمنغواي: هل أشبعت القراء حقاً؟


في الفترة الماضية بدأت إحدى الصديقات قراءة كتاب "وليمة متنقلة – A Moveable Feast" لإرنست هيمنغواي. هذا الكتاب الصغير لديه مكانة خاصة في قلبي، وقصتي معه طويلة.. القراءة الأولى، القراءات اللاحقة، تطور أهمية الكتاب عندي، اختلاف تجارب القراءة، كمية الناس الذين أهديتهم الكتاب وصدعتهم به... إنه كتاب عزيزٌ غالٍ، ولذلك سعدتُ بقراءة الصديقة له، رغم أنها كانت – كما سيتضح – قراءةً تشوبها خيبة الأمل. ورغم ما أحاط بقراءة الصديقة من مشاكل، فقد كتبتْ عنه بعض الملاحظات التي تشير لجوانب مهمة في الكتاب، ويمكن الاطلاع عليها في هذه التغريدات على تويتر.


غلاف الطبعة الأولى من الكتاب

وبالعودة إلى موضوعنا، فأنا شخصياً قرأتُ الكتاب وأعدتُ قراءته بالإنجليزية. الصديقة قرأته بترجمة الدكتور علي القاسمي العربية. وأثناء قراءتها شاركتني – بطبيعة الحال! - إحدى فقرات الكتاب التي يتحدث فيها هيمنغواي مع صديقه إيفان شيبمان عن الأدب الروسي ودوستويفسكي وتولستوي (تاج راسي وراسكم!) – لهذا قلتُ سابقاً "بطبيعة الحال"، 90% من الرسائل التي تصلني من الأصدقاء عبر تويتر رسائل عن تولستوي!

الفقرة التي شاركتني إياها الصديقة من الترجمة العربية هي التالية:

وقلت: "كنت أفكر بدوستويفسكي. كيف يستطيع رجل أن يكتب بذلك الأسلوب السيئ، سيئ لدرجة لا تُصدَّق، ومع ذلك فإنه يحرك مشاعرك بعمق؟"
فقال إيفان: "قد يكمن السبب في الترجمة، فالترجمة هي التي أظهرت تولستوي بصورة جيدة."
"أعرف ذلك. أتذكر كيف حاولت أن أقرأ تولستوي عدة مرات فلم أفلح حتى عثرت على ترجمة كونستانس غارنيت".
وقال إيفان: "يقولون إن بوسع الترجمة تحسين الأصل. وأنا متأكد من ذلك على الرغم من أنني لا أعرف الروسية. ولكننا – كلينا – نعرف الترجمات. بيد أن الحرب والسلام جاءت مترجمةً، روايةً رائعة حقاً، بل أفترض أنها الأعظم، وبإمكانك أن تقرأها مرةً تلو أخرى."

وقد بدأت الصديقة تتساءل عن أثر الترجمات على الأعمال الأصلية وعن فكرة أن الترجمة ربما بوسعها "تحسين الأصل"، ولكن قبل أن نتعمق في ذلك أكثر كانت حاستي العنكبوتية (نكتة عن سبايدرمان) قد أنذرتني بأن شيئاً ما غير سليم هنا... صحتُ في ذهني "إلى سيارة الوطواط!" (نكتة عن باتمان) وانطلقتُ إلى النسخة الإنجليزية لمراجعة الأصل.

الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

شهر في سيينا لهشام مطر: نحن هنا نتعلم كيف نعيش.



منذ فترة اكتشفتُ أنني ارتكبتُ خطأً فادحاً. رواية "في بلاد الرجال" لهشام مطر صدرت سنة 2006، وأنا بكل حماقة تعطلتُ في قراءتها 11 سنة! خطأ فادحٌ فاضح في هذه الحياة التي لا وقت فيها لقراءة كل شيء ولذلك نتمنى أن نقرأ ما يستحق القراءة قبل أن تُغلق كل الكُتب. ولكنني حاولت تصحيح هذا الخطأ. قرأتُ "في بلاد الرجال" سنة 2017، بعد 11 سنة من صدورها، ولكنني قرأتُ كتاب "العودة" المدهش سنة 2017، هذه المرة سنةً واحدةً فقط بعد صدور الكتاب في 2016. تقدمٌ جيد، أليس كذلك؟ حسناً، لقد حرصت على أن أتقدم أكثر.

كتاب هشام مطر الجديد "شهر في سيينا" A Month in Siena صدر بتاريخ 17 أكتوبر 2019. لماذا أعرف تاريخ صدور الكتاب بهذه الدقة؟ لأنني لأول مرةٍ في حياتي أطلب كتاباً قبل صدوره، وقد وصلني عبر البريد بتاريخ 17 أكتوبر بالضبط. لقد حاولتْ الظروف أو الصروف أن تتواطأ ضدي وضد الكتاب، هذه مشاغل وهذه هموم وهذه صاحبة الفخامة الكآبة وهذه حوادثٌ مؤلمة، ولكن هذا التواطؤ لم ينجح إلا في تعطيلي أسبوعين أو ثلاثة فقط!

حين قرأت "في بلاد الرجال" صُدمت: كيف تعطلت لهذه الدرجة؟ كيف لم أنتبه لهذا الكتاب الممتاز ولهذه الرواية التي قد تكون إحدى أفضل الروايات اللاتي قرأتهن؟ وحين قرأت "العودة" لم أُصدم، بل فقط تأكدت أن هشام مطر كاتبٌ وشاعرٌ حقيقيٌّ جداً، وشعرتُ بأن "العودة" كتابٌ اقترب كثيراً من درجة الكمال. والآن وقد قرأت "شهر في سيينا" فها أنا ذا أزداد يقيناً فوق يقيني بأن هشام مطر من أفضل الكُتَّاب المعاصرين.

اللغة تشبه الذاكرة أليس كذلك؟ نستخدم كلمات من ذاكرتنا للتعبير عن شيء جديد أو بالأحرى لتذكير بعضنا بعضاً بشيء قديم لنفهم شيئاً جديداً. وأظن أن المقارنة كذلك نوعٌ من أنواع اللغة الذاكرية. ولذلك سأبدأ بهذا الاستذكار: لقد ذكرني الكتاب بإدوارد سعيد وخورخي لويس بورخيس وعبدالفتاح كيليطو. سنجد عقلانية وأناقة إدوارد الأكاديمية، وسنجد شغف بورخيس بالتفاصيل والأحلام والخيال، وسنجد فضول كيليطو وهو يحاول فك ألغاز الأعمال الفنية. ولكن هذا لا يعني أن هشام مطر ليس موجوداً، بل موجود، فالعقلانية عقلانيته والأناقة أناقته، والشغف شغفه وأحلامه وخياله، والفضول فضوله، واللغة لغته الرائعة المدهشة بدقتها. ولهذا السبب كذلك، لحضور هشام في كتابه الجميل هذا، فقد ذَكَّرني بكتاب "وليمة متنقلة" لهيمنغواي، ذلك الكتاب الصغير الذي أهديت منه نسخاً عديدة، والشيء بالشيء يُذكر فقد تحدثت وأوصيت وأعرت وأهديت كتابي هشام مطر "في بلاد الرجال" و"العودة" عدة مرات كذلك. وهذه الذكرى القديمة عن كتاب هيمنغواي الذي كتب فيه عن تجارب شبابه في باريس بجمالٍ حميميٍّ (أو ربما بروستي) مُدهش تقودني لوصف الذكرى الجديدة التي هي كتاب هشام هذا.

"شهر في سيينا" كتاب يتحدث فيه هشام عن شهرٍ أمضاه في مدينة سيينا الإيطالية بعد الانتهاء من تأليف كتابه "العودة". "العودة" كتابٌ جميلٌ ويقترب من درجة الكمال كما ذكرتُ سابقاً، ولكن جماله هو ذاك الجمال الشاعري، جمال قصائد الرثاء التي تتمكن بمعجزةٍ سليمانية من تذويب فضة الحزن وتشكيل الجمال منها. حين كتبت عن "في بلاد الرجال" قلت إنه كان كتاباً مرهقاً، "العودة" لم يكن مختلفاً في إرهاقه العاطفي الجميل. في كتاب "العودة" يذكر هشام عادته في الذهاب إلى المتاحف ليختار لوحةً ويقف أمامها لزمنٍ طويل يدرس كل تفاصيلها. هكذا قد نفهم لماذا قرر هشام أن يذهب إلى سيينا ليشاهد اللوحات السيينية الغامضة التي قال عنها:

"كانت تقف منفردةً، لا من العصر البيزنطي ولا من عصر النهضة، طفرة بين الفصول، مثل الأوركسترا تُدوزِن أوتارها في الاستراحة."

الأربعاء، 31 يوليو 2019

ثلاث دقائق مع جوردان بيترسون


في الأيام الماضية كالعادة وجدتُ نفسي في نقاشٍ ندمت عليه وإلخ. مواقع التواصل الاجتماعي يا رجل أو يا امرأة، مشكلة والله. المهم، النقاش كان يدور حول السيد جوردان بيترسون. دكتور علم النفس، المفكر، الفيلسوف، المؤلف، المحاضر، المؤثر، الجهبذ، العبقري، الشهبندر، الفرزدق، الكل شيء. ولأني أحب الصداع، لكن لا أحبه كثيراً، قررت أن أجلس مع جوردان بيترسون لمدة ثلاث دقائق فقط. ليس حرفياً طبعاً، ولكن أن أُحلل له مقطعاً مدته ثلاث دقائق.




ترجمتي للكلام في المقطع:

"قرأتُ اقتباساً مرةً، لا أذكر من القائل. ربما كان روبرت هينلاند بحق السماء، مؤلف خيال علمي، ذلك يخطر ببالي، لكن في الأغلب لم يكن هو. الفرضية تقول أن الرجال اختبروا الأفكار وأن النساء اختبرن الرجال. يعجبني ذلك إلى حدٍّ ما. [الفرضية] فيها شيءٌ ما، أتعلمون. بالطبع هذا تعميم مبالغٌ فيه، ولكننا أيضاً لا نعلم إلى أي مدى اختبرت النساء الرجال عن طريق الاستفزاز المحض، يحدث ذلك كثيراً! لأنك إذا كنت تريد أن تختبر شخصاً ما، فأنت لن تخوض معه حواراً صغيراً، أنت سوف توكزه بشدة! سوف تقول، أوكي أنا سوف أهاجمك وأرى أين نقاط ضعفك. ويبدو لي، في وسط هذا الاحتجاج الدائم واستغلال العار [ربما يقصد التشهير أو إثارة الخجل]، وكل ذلك مما يرافق هذا النوع من الحراك الراديكالي تجاه المساواة، بأن هناك كميةٌ ضخمة من الاستفزاز. يا إلهي سوف أقول أيضاً، رغم أنني لا يجدر بي ذلك، ولكن، أنا لا أؤمن بذلك ولكني أحاول فهمه. لقد شعرتُ أنه كان مضحكاً تماماً عند صدور [رواية] 50 درجة [من الرمادي]، شعرت أنه مضحكٌ لدرجة مجنونة أنه في نفس الوقت الذي تعلو فيه مطالب سياسية هائلة بالمساواة الراديكالية، وفيما يخص السلوكيات الجنسية، أن تكون الرواية الأسرع مبيعاً التي رآها العالم يوماً هي عن السادومازوخية والخضوع [في الجنس]، لقد كان الأمر مثل: أوه واو، حسناً، نحن نعلم أين يذهب اللاوعي بهذا أليس كذلك! وأحياناً أفكر، لأن أحد الأشياء التي أحاول فك غموضها، الأمر ليس كأنني أؤمن بذلك، أنا فقط أقول لكم إلى أين وصلت حدود تفكيري، هو أنه لدينا هذا التحالف المجنون بين النسويات والإسلاميين المتطرفين، الذي لا أفهمه. أعني أن عدم تظاهر النسويات بشكل لا ينقطع حول السعودية هو شيء يتجاوزني، لا أستطيع فهمه مطلقاً. وأتساءل أيضاً، أتساءل، كما هو الحال، وهذا الفرويدي في داخلي، هل هناك انجذاب أتعلمون، هل هناك انجذاب ينشأ بين أولئك الإناث الراديكاليات تجاه تلك الهيمنة الذكورية الشمولية التي نجحن في طردها من الغرب. هذا شيء عجيبٌ التفكير فيه، ولكنني في نهاية المطاف لدي عقلية تحليل نفسي، وأفكر بالفعل في أشياء مثل هذه، لأنني لا أستطيع أن أرى أي سبب عقلاني لذلك، السبب العقلاني الوحيد لذلك قد يكون أن الغرب يجب أن يسقط وبالتالي فإن عدو عدوي هو... [مداخلة من محاورته: صديقي]، بالضبط، آه، أظن أنني أخطأت في ذلك [يقصد عبارة "عدو عدوي صديقي"] [محاورته: عدو عدوي صديقي] نعم بالضبط [محاورته: ولهذا فإن الإسلاميين يميلون للتصويت لليبراليين أيضاً]، نعم كذلك، ذلك قد يكون الحال. ولكنني لن أتخلص من توجسي تجاه هذا التوازن اللاواعي لأنه بينما تتزايد هذه المطالبة بالمساواة وبالقضاء على الذكورية سيتكون هناك شوق في اللاوعي للنقيض التام لذلك. كلما صرخت أكثر مطالباً بالمساواة كلما ازداد إعجاب لاوعيك بالهيمنة."

حسناً، هذه كلام جوردان بيترسون. حاولت نقل المعنى بأكبر قدر ممكن من الأمانة ومن الوضوح في الترجمة، وعلى كل حال رابط الفيديو موجود في الأعلى لمن يرغب في التأكد من صحة الترجمة، مع ملاحظة أني تفاديت في الترجمة بعض الأمور العادية التي تظهر عند الكلام، مثل تكرار كلمة بسبب لعثمة أو نطق غير سليم، أو مثل كلمة like التي تعتبر من الكلمات الزائدة في الكلام (حذفتها فقط حين كانت زائدة). باستثناء ذلك أظنني نقلت كلامه ومعانيه بأفضل ما في استطاعتي. والآن، أريد الجلوس قليلاً ومحاولة تحليل هذا الكلام... بسم الله نبدأ.

الخميس، 4 يوليو 2019

كتاب صنعة الشعر لبورخيس: الخيانة الأدبية والترجمة المأساوية



1

كنتُ أُقلِّب كتب الشعر عندي لاختار ديواناً جديداً أقرأه. في مثل هذه الكآبة ومع كل القلق والهواجس قد تستعصي علي القراءة أحياناً، ولكن كتب الشعر خفيفة ومليئة بالعاطفة، وأنا أحتاج الآن للخِفة والعاطفة. وجدتُ كتاب This Craft of Verse للأرجنتيني العظيم بورخيس (أقول "الأرجنتيني" لأنني بصراحة لا أعرف وصفاً أدبياً يوفيه حقه! أشعر بأن كاتب وشاعر لا تعبران عن سحره). طالما أقرأ الكثير من الشعر في هذه الفترة فلعل قراءة كتاب عن الشعر ستكون مفيدة، لعل هذا الكتاب سيساعدني على فهم الشعر والإحساس به أكثر، كما أن بورخيس هو أحد كُتابي المفضلين جداً والذين أستطيع أن أقرأ لهم في أي وقت وفي أي مزاج.



بدأتُ قراءة الكتاب. هو عبارة عن ست محاضرات ألقاها بورخيس عن مواضيع متعلقة بالشعر (والأدب بصفة عامة). لقد كان هذا الكتاب شعاع نور يخترق ظلمات كآبتي كل يوم. كل يوم أجلس لقراءة محاضرة واحدة مستمتعاً إلى أقصى حد بعبقرية بورخيس وشاعريته وجماله وشخصيته، لقد أتعبني وراءه بالتخطيط في هذا الكتاب! وكم هو تعبٌ جميلٌ طبعاً! وكعادة كل الكتب العظيمة كنت كل يوم أتحسر على إكمال المحاضرة، وأعد المحاضرات المتبقية بأسى، ولكن أُعزي نفسي بأني ما زالت أمامي عدة كتبٍ لبورخيس لم أقرأها بعد!

إنه كتابٌ عظيمٌ بالفعل، وأظن أنني سأصنفه مرجعاً في النقد والنظريات الأدبية وسأعود له كثيراً (كما هو حالي مع غالبية كتب بورخيس! لا جديد!)، ولكنني لا أريد الحديث عن الكتاب في هذه التدوينة، أريد الحديث عن شيء آخر...

بعد أن أكملتُ الكتاب، وحين كنتُ ما زلتُ مغموراً بنشوة روعته، راودني فضولٌ لمعرفة إذا ما كان بعض الأصدقاء والمعارف في تويتر قد قرأوه وتحدثوا عنه. دخلتُ لأبحث عن الكتاب، وجدتُ بعض التعليقات عنه واكتشفتُ أنه تُرجم للعربية. بحثتُ عن ترجمة الكتاب وحين وجدتها استغربت: الكتاب ترجمه صالح علماني.

لماذا استغربت؟ سؤال منطقي يا عزيزي القارئ؛ ففي النهاية الأستاذ صالح علماني أشهر مترجم عن الإسبانية إلى اللغة العربية واسمه في عالم العربية بشهرة أسماء ماركيز ويوسا! فلماذا أستغرب ترجمته لكتاب مؤلفه أرجنتيني لغته الأم الإسبانية مثل بورخيس؟ حسناً، سبب استغرابي هو أن بورخيس ألقى تلك المحاضرات بالإنجليزية. قد تقول لي أيها القارئ العزيز: لحظة لو سمحت، كيف عرفت ذلك؟ حسناً، عرفته لأنني قرأت الكتاب بالإنجليزية، الكتاب الذي أصدرته جامعة هارفرد التي ألقى فيها بورخيس محاضراته هذه سنة 1967 (سأشير له باسم: كتاب هارفرد). ربما ستسألني: لعله ألقاها بالإسبانية والكتاب مترجم إلى الإنجليزية؟ كلا، بورخيس كان يُتقن الإنجليزية أفضل من أهلها! ولا داعي للمزيد من الجدال هنا، فالمحاضرات بصوت بورخيس نفسه موجودة على الإنترنت! هذا رابط المحاضرات الست كاملة على يوتيوب، ويمكن البحث عن المحاضرات منفصلة فهي موجودة كذلك.

ولكن، عادي، أليس كذلك؟ يمكن للمرء أن يُترجم من أكثر من لغة، خاصةً إن كانت لغة عالمية مشهورة ومتداولة مثل الإنجليزية. ولكنني استغربت، بذرة الفضول زُرعت ولم يكن لي بدٌّ من ملاحقتها أو زراعتها؟ سقايتها؟ مهما كان التشبيه المناسب، المهم أنني لم أرتح وقررت أن أتفحص ترجمة صالح علماني أكثر.

وهنا انهالت علي الصدمات...

الأحد، 2 يونيو 2019

إفلات الأصابع: حين تجد كاتباً يستحق أن تتمسك به






الفترة الماضية كانت (ومازالت) فترةً صعبةً في حياتي، لا أعلم بالضبط هل سأنجو من عاصفة الظروف هذه أم أنها ستبتلعني وسأطير في وسطها مثل تلك البقرة في المشهد الشهير من فيلم Twister! شكراً مقدماً على تعاطفكم. على كل حال، في وسط هذا الحال المزري مررتُ على تعليق لصديق يتحدث عن رواية شد اهتمامي. الصديق هو يزن الحاج، أعتبره قارئاً شغوفاً أحترم آراءه وإن اختلفتُ مع بعضها، ويعتبره آخرون رقيباً متعالياً على الذوق العام ومترجماً سيئاً (هذه نكتة سيفهمها يزن، فلا داعي للتعصب!). يزن طرح سؤالاً: "هل جربت يوماً شعور الغرق في رواية؟". ذاكرتي سيئة ولا أذكر بالتحديد الروايات أو الكتب التي كان لها هذا التأثير علي (باستثناء كتب تولستوي طبعاً! ولكن هذه استثناءات لا أقيس عليها)، ولكنني إن لم أذكر السبب فإنني أذكر النتيجة وأعرف ذلك الشعور. لذلك: نعم، جربت هذا الشعور، لقد أثرت فضولي، أرجوك استمر. يتابع يزن في تعليقه فيقول: "لا أعني الغرق في أحداث الرواية فقط، بل الإحساس أن الرواية ابتلعتك. متاهة مغوية لا يملك المرء إلا الاستسلام لسردها المرعب من فرط الجمال. كذلك هي رواية محمد خير "إفلات الأصابع". ينبغي أن تُمنع مثل هذه الروايات لأنها تسبب الإدمان." ما حدث تالياً أظن أنه متوقع، في وسط العاصفة التي أعانيها (آسف على الدارما) قررتُ أنني أحتاج لبعض الغرق. وجدتُ الرواية وقرأتها.

صورة لي مع الظروف...

حسناً، لا أعرف من أين أبدأ، والسبب أنني لدي ملاحظات إيجابية وأُخرى.. فلنقُل "بنَّاءة" لنبتعد عن الكلمة الشينة التي تبدأ بحرف السين! أظن أنني سأتتبع انطباعاتي كما راودتني أثناء القراءة، هيكلية سيئة ولكن الله غالب علينا لستُ مُحترفاً!
أول ما لاحظته حين بدأت القراءة كان أن الرواية بالفعل تسحب المرء نحو أعماق متاهتها، ربما لم أغرق كلياً، ولكنني كنتُ أشعر بأنني يجب أن أتابع القراءة، كان السرد بالفعل يفرض عليك أن تستسلم له كما ذكر يزن. المؤلف محمد خير نجح في كتابة قصص تقيدك بألغازها وتدهشك في أحيانٍ أخرى. وهنا يجدر بي أن أذكر ملاحظة معينة. محمد خير استخدم أساليباً متاهية، إن جاز لنا التعبير، ففي بعض الأحيان تجد نفسك عالقاً في حلم أو ربما هلوسة أو في خليط حلهلوسي من الذكريات والمشاعر والأفكار التي لا تعرف هل هي واقعٌ أم خيال – حلهلوسي نحت من حلم وهلوسي، لا شكر على واجب. هذه الأساليب كانت أحياناً تأتي بصفتها منعطفات تبتعد عن خط السرد الأساسي للقصة (مثلاً أحد الشخصيات يسترجع ذكريات، أو يركز على مشاعره، إلخ)، وهي منعطفات خطيرة لأن الكاتب يُجازف بأن يضيع القارئ (يَضيع ويُضيِّع!) خاصةً حين تكون القصة لغزاً أحداثه مشوقة؛ فالقارئ حين يجلس على طرف مقعده متحمساً، كما يقول التعبير الشائع، قد ينزلق من على المقعد ويرمي الكتاب إن طالت تلك الانعطافة! أو يشعر بالملل، أو يستغرب هذا التعمق في تفاصيل لا داعي لها (كما قد يظن القارئ! تشويق!). محمد خير حقق شيئاً بارعاً جداً، فقد وجد التوازن المناسب لهذه الانعطافات السردية: بمجرد أن تشعر باقتراب الملل أو فقدان الاهتمام يعود بك محمد خير فوراً إلى الأحداث الرئيسة واللغز الذي شدك من البداية! أظن أنه على مدى الرواية كلها لم تطل تلك الانعطافات إلا مرة أو مرتين، وهذا ليس عيباً بقدر ما هو إنجاز حين ندرك أن الأمر حدث بهذه الندرة!

السبت، 2 مارس 2019

المدن غير الموصولة: وللعبقرية مفاتيح أيضاً.







هذا الكتاب الرشيق الأنيق تحمستُ له جداً عند صدوره. ركضتُ خلفه إنترنتياً حتى تمكنتُ من شرائه، والفضل في ذلك يرجع لناشري الكتاب: دار بلسم؛ فقد سألتهم مرة عن شراء الكتاب من خارج مصر، ولم ينسوني! بل تابعوا الموضوع معي وأشاروا علي بمحاولة شراء الكتاب من مكتبة ديوان. اشتريته فوراً، وبقيتُ لقرابة أسبوع أتفقد البريد كل يوم، مع أني من المفترض أن أعلم أن الموضوع قد يأخذ وقتاً، بريد دولي وما نحو ذلك، لكن كل يوم أُلقي نظرةً متشوقة على كومة البريد في المبنى. وحين وصل الكتاب، فوراً أخرجته من طرده وجلستُ أقرأه وبصراحة أنقذني من يومٍ آخر من الكآبة واللافائدة.

لماذا تحمستُ للكتاب كل هذا الحماس؟ حسناً... من أين نبدأ...

الكتابة: محمود قطب

هذا تقسيم غريب لهذه التدوينة، لكن أظنه مفيد. على كل حال، نعم، فلنبدأ بالكتابة. الكتاب مجموعةٌ من القصص القصيرة، تتفاوت ما بين بضعة أسطر إلى صفحتين أو ثلاث، في كتاب من القطع المتوسط، باللغة العربية. حتى الآن كل شيء طبيعي والأوضاع مستقرة، ولكن اسمحوا لي بأن "أدخل عليكم بالعرض" كما يُقال وأن أخبركم بأنها قصص ذكرتني بجبران خليل جبران وتولستوي وبورخيس! مفاجأة؟ حسناً، قد لا تكون مفاجأة لك أيها القارئ العزيز، ولكنها كانت مفاجأةً لي! وقبل أن يتحمس أحد ويقول لي هدي أعصابك وخف علينا، أرجو متابعة القراءة.

سأعترف بأن توقعاتي للكتاب كانت عالية قليلاً، لديَّ اطلاعٌ بسيط على كتابات المؤلف، وكنتُ متحمساً لإخراج الكتاب الذي سيجمع بين النصوص والرسومات. ولكني كنتُ أتوقع شيئاً مثل الكوميكس (القصص/الروايات المصورة)، ولم يخطر ببالي أن تدفعني نصوص الكتاب إلى استحضار عظماء مثل جبران وتولستوي وبورخيس! فكيف ذكرتني هذه القصص بهم؟ دعونا نطرح سؤالاً آخر قبل ذلك: ما تصنيف هذه القصة؟

أهي قصص أطفال؟
قصصٌ للنشء والمراهقين؟
أم قصصٌ للبالغين؟

بصفتي أنتمي إلى فئة البالغين (على الأقل وفق شهادة الميلاد) فإجابتي على هذا السؤال أن نصوص الكتاب نصوص "مُتجاوزِة" أو "مُخترِقة". ماذا تتجاوز وتخترق؟ التصنيفات العمرية أو الأدبية. هذه القصص تتجاوز وصفها بأنها قصص للأطفال، وتخترق وصفها بأنها للنشء، وتصل إلى البالغين وربما تتجاوزهم كذلك (ملحوظة عابرة: أتحدث الآن عن القصص، لكن هذا الكلام ينطبق على الكتاب كله!). لقد ذكرتني القصص بتولستوي مثلاً لأنني ربطتها بالقصص التي كتبها تولستوي للصغار، وأذكر قصصه للصغار ليس للانتقاص من قيمة "المدن غير الموصولة" بل لبيان شيء عبقري في الكتاب، فمن مظاهر عبقرية تولستوي (الذي هو تاج راسي وراسكم) اتقانه لكتابة أدب الأطفال والنشء (وحتى الأدب الوعظي الموجه للكبار) بحيث لا تقول القصة مباشرةً ما الدرس الذي يجب علينا تعلمه، ولكنها تعلمنا الدرس عن طريق الحكاية وحدها. مثال ذلك مثلاً قصة "تخيل مدينةً نصف مغمورة في البحر"، أو قصة "تخيل مدينة معلقة في الهواء"، أو قصة "تخيل مدينة يراها سكانها مستودع الحكمة"، أو كل القصص في هذا الكتاب الصغير الرائع! الفكرة تصلك بوضوح أيها البالغ المثقف ما شاء الله عليك! وإن كنتُ مراهقاً أو حتى طفلاً فإنك ستشعر بالدرس، ستفهمه. وهذه القدرة التعليمية لقصص هذا الكتاب هي من مفاتيح العبقرية الكامنة فيه.

ولكن، هذه القصص ليست فقط للأطفال أو المراهقين، فقد ذكرتني كذلك بجبران وقصصه الرمزية. قصص جبران الرمزية لا أظنها مكتوبة للأطفال، فهي فلسفية أكثر من أن يفهمها الصغار، ولكنها تحمل ذلك الطابع الطفولي والبسيط، وهنا سأستحضر تولستوي من جديد، لأقول بأن "البساطة" في الكتابة، سواءً لغوياً أو سردياً، ليست عيباً بل فناً لا يُتقنه كثيرون. وهذه الرمزية في قصص محمود قطب لا تتوقف عند الرمزية الفلسفية الجبرانية (لعل أبرز مثال عليها قصة "تخيل مدينةً نصف مغمورة في البحر" أو قصة "تخيل مدينةً بلا خريطة")، بل تصل أيضاً إلى مستويات الرمزية العجائبية البورخيسية، وهنا لا أحتاج لمثال لأن كل المتاهات التي تلف وتدور في مدن محمود قطب لا بد أن تستحضر للذهن بورخيس، ناهيك عن قصص السكان وعاداتهم الغريبة والعوالم العجيبة التي ابتكرها محمود قطب. فالقارئ البالغ عمرياً، ولو أن بلوغ بعض القراء عقلياً مشكوكٌ فيه، ولكيلا يزعل أحد فأنا أقصد نفسي! أين كنا... القارئ البالغ، الذي يُتوقع منه أن ينظر أبعد من مجرد حبكة أو خيال قد يشد الصغار، سيجد في هذه القصص الكثير من المعاني والحكم، ولعله سيُفكر مثلي: هذه قصة يمكن إسقاط معناها على أوضاع هذه البلاد أو تلك، وهذه قصة يمكن إسقاط معناها على هذا الخلاف الفكري، وهذه قصة يمكن إسقاط معناها على هذه الظاهرة الاجتماعية أو النفسية، إلخ إلخ إلخ. وهذا ثاني مفتاح من مفاتيح عبقرية هذا الكتاب: الرمزية البارعة. وأقول الرمزية "البارعة" لأنني فاشلٌ في الكتابة ولم أجد كلمة أصف بها الرمزية التي لا تكون واضحةً لدرجة الابتذال ولا تكون غارقةً في الغموض لدرجة الامتناع! فقلتُ أنها بارعة لأنها جاءت موزونةً توازناً بارعاً. يعني، برع الكاتب في الكتابة البارعة ببراعة. وصلت؟ تمام.