الأحد، 2 يونيو 2019

إفلات الأصابع: حين تجد كاتباً يستحق أن تتمسك به






الفترة الماضية كانت (ومازالت) فترةً صعبةً في حياتي، لا أعلم بالضبط هل سأنجو من عاصفة الظروف هذه أم أنها ستبتلعني وسأطير في وسطها مثل تلك البقرة في المشهد الشهير من فيلم Twister! شكراً مقدماً على تعاطفكم. على كل حال، في وسط هذا الحال المزري مررتُ على تعليق لصديق يتحدث عن رواية شد اهتمامي. الصديق هو يزن الحاج، أعتبره قارئاً شغوفاً أحترم آراءه وإن اختلفتُ مع بعضها، ويعتبره آخرون رقيباً متعالياً على الذوق العام ومترجماً سيئاً (هذه نكتة سيفهمها يزن، فلا داعي للتعصب!). يزن طرح سؤالاً: "هل جربت يوماً شعور الغرق في رواية؟". ذاكرتي سيئة ولا أذكر بالتحديد الروايات أو الكتب التي كان لها هذا التأثير علي (باستثناء كتب تولستوي طبعاً! ولكن هذه استثناءات لا أقيس عليها)، ولكنني إن لم أذكر السبب فإنني أذكر النتيجة وأعرف ذلك الشعور. لذلك: نعم، جربت هذا الشعور، لقد أثرت فضولي، أرجوك استمر. يتابع يزن في تعليقه فيقول: "لا أعني الغرق في أحداث الرواية فقط، بل الإحساس أن الرواية ابتلعتك. متاهة مغوية لا يملك المرء إلا الاستسلام لسردها المرعب من فرط الجمال. كذلك هي رواية محمد خير "إفلات الأصابع". ينبغي أن تُمنع مثل هذه الروايات لأنها تسبب الإدمان." ما حدث تالياً أظن أنه متوقع، في وسط العاصفة التي أعانيها (آسف على الدارما) قررتُ أنني أحتاج لبعض الغرق. وجدتُ الرواية وقرأتها.

صورة لي مع الظروف...

حسناً، لا أعرف من أين أبدأ، والسبب أنني لدي ملاحظات إيجابية وأُخرى.. فلنقُل "بنَّاءة" لنبتعد عن الكلمة الشينة التي تبدأ بحرف السين! أظن أنني سأتتبع انطباعاتي كما راودتني أثناء القراءة، هيكلية سيئة ولكن الله غالب علينا لستُ مُحترفاً!
أول ما لاحظته حين بدأت القراءة كان أن الرواية بالفعل تسحب المرء نحو أعماق متاهتها، ربما لم أغرق كلياً، ولكنني كنتُ أشعر بأنني يجب أن أتابع القراءة، كان السرد بالفعل يفرض عليك أن تستسلم له كما ذكر يزن. المؤلف محمد خير نجح في كتابة قصص تقيدك بألغازها وتدهشك في أحيانٍ أخرى. وهنا يجدر بي أن أذكر ملاحظة معينة. محمد خير استخدم أساليباً متاهية، إن جاز لنا التعبير، ففي بعض الأحيان تجد نفسك عالقاً في حلم أو ربما هلوسة أو في خليط حلهلوسي من الذكريات والمشاعر والأفكار التي لا تعرف هل هي واقعٌ أم خيال – حلهلوسي نحت من حلم وهلوسي، لا شكر على واجب. هذه الأساليب كانت أحياناً تأتي بصفتها منعطفات تبتعد عن خط السرد الأساسي للقصة (مثلاً أحد الشخصيات يسترجع ذكريات، أو يركز على مشاعره، إلخ)، وهي منعطفات خطيرة لأن الكاتب يُجازف بأن يضيع القارئ (يَضيع ويُضيِّع!) خاصةً حين تكون القصة لغزاً أحداثه مشوقة؛ فالقارئ حين يجلس على طرف مقعده متحمساً، كما يقول التعبير الشائع، قد ينزلق من على المقعد ويرمي الكتاب إن طالت تلك الانعطافة! أو يشعر بالملل، أو يستغرب هذا التعمق في تفاصيل لا داعي لها (كما قد يظن القارئ! تشويق!). محمد خير حقق شيئاً بارعاً جداً، فقد وجد التوازن المناسب لهذه الانعطافات السردية: بمجرد أن تشعر باقتراب الملل أو فقدان الاهتمام يعود بك محمد خير فوراً إلى الأحداث الرئيسة واللغز الذي شدك من البداية! أظن أنه على مدى الرواية كلها لم تطل تلك الانعطافات إلا مرة أو مرتين، وهذا ليس عيباً بقدر ما هو إنجاز حين ندرك أن الأمر حدث بهذه الندرة!


وربما يجدر بي أن أُوضِّح شيئاً آخر الآن، أقول "قصة" و"قصص" كثيراً، وهذا لأن بُنية هذه الرواية بنية قصصية! كل فصل يمكنه أن يعتمد على نفسه ويكون قصة قصيرة مستقلة لديها حرية تقرير المصير! وهذه البنية القصصية جزء من المتاهة التي تُغرقك، فأنت في هذا الفصل تمسك بخيط وتبدأ تتبعه، وحين تكلمه يبدأ فصلٌ جديد وقصة جديدة وخيط جديد! قد تظن بأنك سوف تمر بسرعة على هذا الفصل لكي تعود للخيط الذي أمسكت به، ولكن سينتهي بك المطاف تمسك خيطاً جديداً تريد تتبعه هو الآخر، وستنتقل إلى الفصل التالي فتجد خيطاً آخر فتحوقل وتحسبن وتأخذ الخيط الجديد الذي لا تستطيع مقاومة تركه وتنطلق نحو الفصل التالي، وهكذا! لن تصل النهاية إلا وأنت تحمل كرةً من الخيوط يمكنك أن تنسج منها لحافاً!

حسبنا الله ونعم الوكيل!


وهنا يظهر تعب محمد خير، وربما هوسه! حين تمسك هذا الكتاب ستقرأ على الغلاف كلمة "رواية"، سوف تتوقع حكاية معينة وشخصيات محددة تسير في طريق مستقيم أو ربما حتى متعرج قليلاً ليش لا. للأسف ستكون مخطئاً، لا تقلق، أنت لستَ قارئاً سيئاً ولكن محمد خير كاتبٌ جيد، وربما لديه لمحة من السادية... لن تفتح رواية ولكنك ستفتح باب متاهة! سوف تصطدم بجدرانها المغلقة، وثم تستلم للممرات (أي للسرد كما ذكر يزن!)، وتدع المتاهة تقودك، أو بالأحرى تدع محمد خير يقودك وهو في الأغلب يضحك ضحكةً شريرة بينما قد تُصاب أنت بالحنق وتحاول إخفاء استمتاعك وأنت تحاول التقاط التفاصيل والأدلة التي ربما ستُخرجك من هذه المتاهة المكونة من كل تلك القصص. سوف تدرك ما في حبكة هذه الرواية من تعقيد قصصي بارع أجاد محمد خير نسجه (ما رأيكم باستخدام كلمة "نسجه"؟ استرجاع لتشبيه الخيوط! عبقري صح؟).

لا شك عندي مطلقاً أن محمد خير بذل مجهوداً كبيراً لربط كل تلك الخيوط مع بعضها، مجهود أحب أن أتخيل أنه تضمن إلصاق الكثير من الأوراق على الجدران وربط خيوط حمراء بينها والسهر لأيام وهو يمد تلك الخيوط ويربط القصص والتفاصيل. نعم، أظن أن هذا ما حدث.

صورة حصرية لمحمد خير أثناء تخطيطه للرواية

الشيء الآخر الذي لاحظته وسيلاحظه كثيرون هو العبر وراء القصص، فكما قلنا كل قصة قصيرة لديها مقومات الاستقلال الذاتي، ولذلك تحمل هذه القصص رمزيات متعددة، هذه عن الهجرة، تلك عن البيروقراطية، أخرى عن الحرية، غيرها عن الاغتراب والتغرب، هذه عن الثورة، وهكذا. طبعاً، هذا التشظي الرمزي قد يسبب مشكلةً لهذه الرواية، أعني من حيث الاعتراف بها، فحسبما أرى في عالم العربية اليوم فإن الروايات صارت تشتهر وتكسب الجوائز ويقرأها الجميع ويصورون صفحاتها مع ورد مجفف أو فنجان قهوة فقط إن كانت تناقش "قضية"، وهذه القضية يجب أن تكون قضيةً واضحة! "إفلات الأصابع" قد لا يجد فيها النقاد والقراء ولجان التحكيم "قضية" عميقة تمس الصراع البشري وتلفت الانتباه إلى كفاح المش عارف من فيما يخص المش عارف شنو، ولكن، إن جاز لي التفلسف بكل غرور (لله دري!) فسأقول أن قضية "إفلات الأصابع" هي قضية حياة فيها عدة قضايا. من النادر أن يعيش الشخص حياةً تؤرقه فيها قضية إنسانية واحدة وحسب، وحتى وإن حدث وكان الشخص عايش حياته على آخر قيراط ولا يتناول إلا البطيخ الصيفي، أو ربما كان فقط لا يهتم بأي قضايا، فهذا الشخص سوف يحتك بأشخاص لديهم قضايا (مثل أحد أبطال الرواية (أم لعلهما بطلان؟ تشويق!)، الذي لديه قضايا خاصة، ولكنه يحتك بقضايا الآخرين... ولن أقول أكثر لئلا نحرق شيئاً!).

والآن أظن أن شهر عسل هذه القراءة قد انتهى وسأتوقف هنا (في الأغلب مؤقتاً) عن النقد المادح... لأنني لدي تعليق لا بد منه.

انتهت الطبطبة وجاء وقت التقطيع!

لا داعي للقلق، لن أذبح الرواية! ولكن لدي تعليق معين حول الخيوط السردية المتقاطعة. نهاية الرواية ضايقتني قليلاً، فبعيداً عن بعض القصص التي كانت متماسكة والتقت خيوطها بطريقة حلهلوسية، فإن بعض الخيوط يبدو أنها انفلتت من يد المؤلف. بعض القصص شعرتُ بأن ربطها بباقي القصص كان مقحماً وكليشيهاً، قصص أخرى لم تُربط مُطلقاً بخيط السرد الأساسي! ربما كان يمكن الاستغناء عن بعض القصص طالما لم تُربط بغيرها، أو ربما كان يمكن إبقاء الباب مفتوحاً لرواية ثانية في نفس العالم تستمر فيها رحلة تلك الخيوط، وبلا شك ليت الربط الأخير لبعض القصص (فنقدي هذا لا يطال كل القصص/الخيوط ولكن بعضها) ليت ذاك الربط كان أكثر إحكاماً.

هذه الملاحظة لا تنتقص مطلقاً من براعة تداخل الخيوط في الأجزاء الأولى للرواية، والسبب الوحيد في تقريري لها، يعني باستثناء أن هذه تجربتي الشخصية، هو أنني أؤمن بأن لفت الانتباه لمثل هذه الأمور مفيد، وقد سعدتُ نسبياً حين علمت بأن هذه الرواية الأولى لمحمد خير لأن هذا يعني أن براعته وقدراته التي عبر عنها في هذه الرواية يمكنها أن تتطور بشكل أفضل وأفضل لينتج عملاً أقوى بكثير وأفضل من هذا العمل الذي كان هو نفسه جيداً! بعض الكُتَّاب والكاتبات تقرأ لهم رواياتهم الأولى أو حتى الخامسة وتقول يا ليتهم يتوقفون عن الكتابة! لا براعة ولا موهبة ولا شيء، وفوق ذلك لا تستطيع أن تجد أي إمكانيات تتحمس لفكرة صقلها وتطويرها. محمد خير ليس منهم، بل هو ليس حتى ممن ينشرون رواية أولى سيئة ولكن تستطيع أن ترى فيها محاولتهم لفعل شيء ما والتي تمنحك أملاً في أنهم سيحققونه في المستقبل، محمد خير هو ممن ينشرون رواية أولى جيدة ترى فيها البراعة والموهبة والتعب ولا تمنحك الأمل وحسب في أنه سينتج شيئاً أفضل ولكنها تمنحك الثقة في أنه سيفعل ذلك.

ولذلك، في هذه الحالة، أكثر حتى من حالات الروايات السيئة، أشعر بأن النقد ضروري لأن المرء يريد أن يتمسك بهذا الكاتب وهذا العمل، ولا يريد أن يرمي الكتاب في منتصف القراءة أو أن يكمله ويغلقه ثم ينساه وينسى مؤلفه تماماً! محمد خير كاتبٌ يستحق أن نتمسك به.


قد يطرأ بذهنك سؤال عزيزي القارئ: طيب، يعني لم نفهم، نقرأ الرواية أم لا نقرأها؟! بودي لو أستطيع أن أجيبك على هذا السؤال، ولكن أنت أو أنتِ وحدكم من تستطيعون إجابة السؤال. كل قارئ تجربته مختلفة حسب ذوقه وميوله وتفضيلاته، تجربتي مع هذه الرواية كانت جيدة، شدتني نسبياً، وحمستني لمستقبل محمد خير، ولكن لغايات الصراحة لا أظن أنها ستحتل مكانةً كبيرةً عندي. تجربة الصديق يزن (المذكور في بداية هذه الكتابة) كانت أكثر حماسةً للرواية وأكثر استغراقاً فيها، وقد كتب عن تجربته في مقالة جميلة (رابط المقالةعلى مدونته)، قد لا أوصي مباشرةً بقراءة الرواية ولكني سأوصي مباشرةً بقراءة مقالة يزن لمن يود أن يقرأ تجربةً مختلفة ويحاول أن يجاوب على سؤال "هل أقرأ هذه الرواية أم لا؟" بنفسه أو بنفسها!


وهذا كل ما هناك. أتمنى لو صغتُ هذه القراءة بطريقة معقدة ومتداخلة لأحاكي أسلوب رواية "إفلات الأصابع"! لكن ليست لدي براعة ولا صبر محمد خير! تباً، خيوطي لم تنتظر حتى النهاية لتنفلت بل انفلتت منذ اللحظة التي كتبت فيها "لا أعلم من أين أبدأ"! فكرة غبية... المهم، رمضان كريم وعيد مبارك عليكم.

1 يونيو 2019


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق