هذا الكتاب الرشيق الأنيق تحمستُ له جداً عند صدوره. ركضتُ
خلفه إنترنتياً حتى تمكنتُ من شرائه، والفضل في ذلك يرجع لناشري الكتاب: دار بلسم؛
فقد سألتهم مرة عن شراء الكتاب من خارج مصر، ولم ينسوني! بل تابعوا الموضوع معي وأشاروا
علي بمحاولة شراء الكتاب من مكتبة ديوان. اشتريته فوراً، وبقيتُ لقرابة أسبوع
أتفقد البريد كل يوم، مع أني من المفترض أن أعلم أن الموضوع قد يأخذ وقتاً، بريد
دولي وما نحو ذلك، لكن كل يوم أُلقي نظرةً متشوقة على كومة البريد في المبنى. وحين
وصل الكتاب، فوراً أخرجته من طرده وجلستُ أقرأه وبصراحة أنقذني من يومٍ آخر من
الكآبة واللافائدة.
لماذا تحمستُ للكتاب كل هذا الحماس؟ حسناً... من أين
نبدأ...
الكتابة: محمود قطب
هذا تقسيم غريب لهذه التدوينة، لكن أظنه مفيد. على كل
حال، نعم، فلنبدأ بالكتابة. الكتاب مجموعةٌ من القصص القصيرة، تتفاوت ما بين بضعة
أسطر إلى صفحتين أو ثلاث، في كتاب من القطع المتوسط، باللغة العربية. حتى الآن كل
شيء طبيعي والأوضاع مستقرة، ولكن اسمحوا لي بأن "أدخل عليكم بالعرض" كما
يُقال وأن أخبركم بأنها قصص ذكرتني بجبران خليل جبران وتولستوي وبورخيس! مفاجأة؟ حسناً،
قد لا تكون مفاجأة لك أيها القارئ العزيز، ولكنها كانت مفاجأةً لي! وقبل أن يتحمس
أحد ويقول لي هدي أعصابك وخف علينا، أرجو متابعة القراءة.
سأعترف بأن توقعاتي للكتاب كانت عالية قليلاً، لديَّ
اطلاعٌ بسيط على كتابات المؤلف، وكنتُ متحمساً لإخراج الكتاب الذي سيجمع بين
النصوص والرسومات. ولكني كنتُ أتوقع شيئاً مثل الكوميكس (القصص/الروايات المصورة)،
ولم يخطر ببالي أن تدفعني نصوص الكتاب إلى استحضار عظماء مثل جبران وتولستوي
وبورخيس! فكيف ذكرتني هذه القصص بهم؟ دعونا نطرح سؤالاً آخر قبل ذلك: ما تصنيف هذه
القصة؟
أهي قصص أطفال؟
قصصٌ للنشء والمراهقين؟
أم قصصٌ للبالغين؟
بصفتي أنتمي إلى فئة البالغين (على الأقل وفق شهادة
الميلاد) فإجابتي على هذا السؤال أن نصوص الكتاب نصوص "مُتجاوزِة" أو
"مُخترِقة". ماذا تتجاوز وتخترق؟ التصنيفات العمرية أو الأدبية. هذه
القصص تتجاوز وصفها بأنها قصص للأطفال، وتخترق وصفها بأنها للنشء، وتصل إلى
البالغين وربما تتجاوزهم كذلك (ملحوظة عابرة: أتحدث الآن عن القصص، لكن هذا الكلام
ينطبق على الكتاب كله!). لقد ذكرتني القصص بتولستوي مثلاً لأنني ربطتها بالقصص
التي كتبها تولستوي للصغار، وأذكر قصصه للصغار ليس للانتقاص من قيمة "المدن
غير الموصولة" بل لبيان شيء عبقري في الكتاب، فمن مظاهر عبقرية تولستوي (الذي
هو تاج راسي وراسكم) اتقانه لكتابة أدب الأطفال والنشء (وحتى الأدب الوعظي الموجه
للكبار) بحيث لا تقول القصة مباشرةً ما الدرس الذي يجب علينا تعلمه، ولكنها تعلمنا
الدرس عن طريق الحكاية وحدها. مثال ذلك مثلاً قصة "تخيل مدينةً نصف مغمورة في
البحر"، أو قصة "تخيل مدينة معلقة في الهواء"، أو قصة "تخيل
مدينة يراها سكانها مستودع الحكمة"، أو كل القصص في هذا الكتاب الصغير
الرائع! الفكرة تصلك بوضوح أيها البالغ المثقف ما شاء الله عليك! وإن كنتُ مراهقاً
أو حتى طفلاً فإنك ستشعر بالدرس، ستفهمه. وهذه القدرة التعليمية لقصص هذا الكتاب
هي من مفاتيح العبقرية الكامنة فيه.
ولكن، هذه القصص ليست فقط للأطفال أو المراهقين، فقد
ذكرتني كذلك بجبران وقصصه الرمزية. قصص جبران الرمزية لا أظنها مكتوبة للأطفال، فهي
فلسفية أكثر من أن يفهمها الصغار، ولكنها تحمل ذلك الطابع الطفولي والبسيط، وهنا
سأستحضر تولستوي من جديد، لأقول بأن "البساطة" في الكتابة، سواءً لغوياً
أو سردياً، ليست عيباً بل فناً لا يُتقنه كثيرون. وهذه الرمزية في قصص محمود قطب
لا تتوقف عند الرمزية الفلسفية الجبرانية (لعل أبرز مثال عليها قصة "تخيل
مدينةً نصف مغمورة في البحر" أو قصة "تخيل مدينةً بلا خريطة")، بل تصل
أيضاً إلى مستويات الرمزية العجائبية البورخيسية، وهنا لا أحتاج لمثال لأن كل
المتاهات التي تلف وتدور في مدن محمود قطب لا بد أن تستحضر للذهن بورخيس، ناهيك عن
قصص السكان وعاداتهم الغريبة والعوالم العجيبة التي ابتكرها محمود قطب. فالقارئ
البالغ عمرياً، ولو أن بلوغ بعض القراء عقلياً مشكوكٌ فيه، ولكيلا يزعل أحد فأنا
أقصد نفسي! أين كنا... القارئ البالغ، الذي يُتوقع منه أن ينظر أبعد من مجرد حبكة
أو خيال قد يشد الصغار، سيجد في هذه القصص الكثير من المعاني والحكم، ولعله سيُفكر
مثلي: هذه قصة يمكن إسقاط معناها على أوضاع هذه البلاد أو تلك، وهذه قصة يمكن
إسقاط معناها على هذا الخلاف الفكري، وهذه قصة يمكن إسقاط معناها على هذه الظاهرة
الاجتماعية أو النفسية، إلخ إلخ إلخ. وهذا ثاني مفتاح من مفاتيح عبقرية هذا الكتاب:
الرمزية البارعة. وأقول الرمزية "البارعة" لأنني فاشلٌ في الكتابة ولم
أجد كلمة أصف بها الرمزية التي لا تكون واضحةً لدرجة الابتذال ولا تكون غارقةً في
الغموض لدرجة الامتناع! فقلتُ أنها بارعة لأنها جاءت موزونةً توازناً بارعاً.
يعني، برع الكاتب في الكتابة البارعة ببراعة. وصلت؟ تمام.
وبالقفز فوراً نحو المفتاح التالي، فهذه الطبيعة
المتجاوزة للتصنيفات العمرية أو الأدبية التي بدأتُ بها كلامي الآن هي أيضاً من
مفاتيح عبقرية هذا الكتاب الصغير الجميل الياإلهي كم أحببته!
حسناً، حسناً، سوف أتمالك نفسي. لقد كانت القصص
جميلة، وإن كان ما ذكرته في الأعلى يخص موضوعاتها أو رمزيتها (التي أطربتني
أحياناً طرباً بديعاً!)، فقد كانت لغة القصص كذلك جميلة وفصيحة فصاحةً جعلتني
أُسجل في ذهني ملحوظة أن هذا كتابٌ جديرٌ بأن يُقرأ من حينٍ لآخر لأجل لغته؛ فهي
لغة مميزة جداً، دقيقة جداً دقةً مُنعشة بصراحة في زمنٍ كثرة فيه الكتابات الأنيس
عبيدية (بني دهري مهلاً إن ذممتُ فعالكم * فإني بنفسي لا محالة أبدأ!).
والآن دعونا ننتقل إلى الجزء الثاني.
الرسم: أحمد حساني
لستُ خبيراً في الفن والرسم، لذلك لن أتوقف كثيراً
هنا، ولكنني سأقول شيئاً أظن أنه مهم.
رسومات أحمد حساني جمعت بين البساطة والتعقيد. للوهلة
الأولى قد تظن أن طفلاً رسمها، ولكنك تدرك أن فيها براعة مميزة. وللوهلة الأولى
أيضاً تظن أنك فهمتها تماماً، ولكنك تدرك أنها ليست واضحةً كلياً ولكنها ليست
غامضةً كلياً. الكلام يبدو شبيهاً بما سبق أليس كذلك؟ بساطة وتعقيد، وضوح وغموض، وبصراحة،
فإن هذا في وجهة نظري صحيح: رسومات أحمد حساني تتماهى مع قصص محمود قطب في أنها
بسيطة ومعناها في متناول اليد ولكنها كذلك تبدو أعمق برمزيتها ومتاهات خطوطها. فهي
من جديد تدل أيضاً على مفتاح عبقرية التجاوز التصنيفي، ومفتاح عبقرية الرمزية،
ونضيف لها مفتاح عبقرية الجمع بين النص والرسم!
ويبقى عنصرٌ أخير من عناصر الكتاب.
الإخراج والتصميم الفني: سامر حلمي
إخراج وتصميم فني؟ أنت تتكلم عن كتاب أو فيلم؟ هي
مسرحية يعني؟ اسمع، صدقني يا عزيزي القارئ، أتفهم تماماً استغرابك، ولكن هذا ليس
كتاباً عادياً... إن لم تقنعك القصص والرسومات بأن تقرأه، فالإخراج الفني لا بد أن
يقنعك. المشكلة الوحيدة أنني لا أستطيع الحديث عن الإخراج الفني! لأنني أخشى من
"الحرق"! حرق ماذا؟! هل للتصميم علاقة بالأحداث؟ أليست قصصاً قصيرة؟! كلا،
لا دخل للأحداث ولا القصص، أنا أخشى من أن أحرق عليك التجربة!
من محاسن الصدف والمحار أنني البارحة دخلتُ في حوار
(السجع غير مقصود) عن "تجربة" القراءة، وكيف أنها تجربة شخصية جداً، قد
تتوافق مع تجارب الآخرين وقد تختلف. ولعل هذا سبب وعيي اليوم بتجربة قراءة "المدن غير الموصولة"،
وهي تجربة أضاف لها الإخراج الفني الكثير الكثير! وأعني
الكثـــــــــــــــــــــــــــــيـــــــــــــــــــــــــر! الــــــــــــــــكـــــــــــــــثــــــــــــــــيــــــــــــــر!
لقد استخدم سامر حلمي عجائبية النصوص والرسوم لتكون
جزءاً من.. من كل شيء في الصفحة! لقد تعاظمت تجربة استمتاعي بهذا الكتاب بفضل هذا
الإخراج الفني وكيفية عرض النصوص. ولذلك لا أريد حرق أي شيء. ولأكون صريحاً
تماماً: قد أكون مكتئباً، ولعل اكتئابي يجعلني أُضخم المتعة حين أجدها، وأقصد
المتعة الحقيقية مثل متعة قراءة هذا الكنز الصغير الذي يحمل عنوان "المدن غير
الموصولة"، ولكنها كانت تجربةً جميلةً بالفعل، تجربة أتمناها بكل مفاجآتها وطرفها
وعبقرياتها للجميع. ولذلك لن أحرق شيئاً، ولن أضع صوراً من الكتاب، وأرجو أن تدرك
يا عزيزي القارئ أو عزيزتي القارئة أو المشاهدات والمشاهدين الأعزاء أو الشعب
العظيم، أرجو أن تدركوا جميعاً كم بذلتُ من انضباط الذات وجهاد النفس لكي لا أضع
لكم صور الكتاب كلها وأقول لكم: انظروا لهذه! لاحظوا هذا! مفتاحٌ آخر من مفاتيح
العبقرية!
حسناً. نفس عميق. هدوء داخلي. وربما الختام.
الخلاصة: ميداليات لمفاتيح العبقرية!
هناك شيء له علاقة بمفاتيح المدن، أظن أنني لم أفك
ألغازه، وربما لا توجد ألغاز، لكن المهم أنني مشغولٌ بإعجابي بالكتاب، وبعبقرية
الكتاب، هذا الكتاب الذي أشعر بأنه قد يكون عملاً تجديدياً مهماً في آداب وفنون
العربية، لدرجة أنني أريد أن أقول أن مفاتيح عبقرية هذا الكنز الصغير لتنوء
بالعصبة أولي القوة!
هناك شيءٌ مميزٌ جداً في هذا الكتاب، في طبيعة النصوص
المتجاوزة للتصنيف العمري، في الرسوم المرافقة، وفي الإخراج الفني. شيء يضيف لتجربة
القراء الكثير الكثير، "وصفةٌ سحرية" إن جاز لنا التعبير، وصفة تقول لنا
أن الكلمة ليست فقط حروفاً سوداء مطبوعةً طباعةً متساوية على صفحة فارغة، بل هذه
الحروف، هذه الكلمات، هذه النصوص يمكنها أن تكون سحرية... ربما لا تحتاج الكلمات
لسحر إضافي؛ فأي قارئ أو قارئة يعرفون بلا شك مدى قوة السحر الحلال الناتج من تلك
الحروف السوداء المرصوصة على صفحة بيضاء! ولكن دعونا نتريث قليلاً ونقول: قد توجد
أكثر من وصفة سحرية! وأحياناً يمكن للوصفة السحرية أن تتقوى ببعض الإضافات، فهذه رسمةٌ
هنا، وهذا إخراجٌ فنيٌّ هناك، والنتيجة تجربةٌ ساحرةٌ جداً!
قد يقول قائل: وبعدين يعني؟ هذا ليس أول كتاب من هذا
النوع! طيب، لعل الكتاب ليس شيئاً جديداً بالمعنى الحرفي للكلمة، هناك نماذج أخرى
بلا شك لكتب مميزة من ناحية طبيعة النصوص ووجود رسوم مرافقة وحتى من ناحية الإخراج
غير التقليدي للكتاب، ولكن هذا الكتاب حتى إن سلمنا بأنه لم يُجدد شيئاً فهو بلا
شك يُذكرنا بشيء مازال محتفظاً بجدته بسبب ندرته في عالم آداب اللغة العربية! فإن لم
يشق أصحاب هذا الكتاب طريقاً جديداً فيكفيهم فخراً بلا شك أنهم سحبونا إلى ذاك
الطريق وأناروه لنا: "يمكنكم المشي من هذا الطريق أيضاً، لعله سيعجبكم"،
وعن نفسي ففي طريق هذا الكتاب اختبرتُ جولةً من أجمل الجولات التي أخذتها مؤخراً،
جولةً جعلت يومي هذا جميلاً، وهو يومٌ أدين بجماله لأصحاب "المدن غير
الموصولة" وعبقرياتهم.
السبت 2 مارس 2019
استاذي الفاضل: إن النص والرسم هما الأبطال الحقيقيون ، لقد أبدع المعماري محمود قطب في عمارة الكلمات وبناء النص ، وأبدع الفنان احمد حسانين في تخطيط الرسومات ؛ فأنشأ معا مجموعة من المدن استمتعت بالسير خلالها وخططت على الورق انطباعاتي عنها ليس إلا. إنها عبقرية النص والرسم ورؤية من اختارت هذه التركيبة ، المهندسة بلسم والتي قدرتني باختيارها لي للاستمتاع بهذا الكتاب.
ردحذفشكرا لك على كلامك الذي أراه أعلى مما استحق وشكرا لبلسم ومحمود وحساني - مع حفظ الألقاب - على كتاب ممتع العمل به.
سامر حلمي
رائع
ردحذفأتمنى لكم المزيد من التألق و للفنان أحمد حسانى .