الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

شهر في سيينا لهشام مطر: نحن هنا نتعلم كيف نعيش.



منذ فترة اكتشفتُ أنني ارتكبتُ خطأً فادحاً. رواية "في بلاد الرجال" لهشام مطر صدرت سنة 2006، وأنا بكل حماقة تعطلتُ في قراءتها 11 سنة! خطأ فادحٌ فاضح في هذه الحياة التي لا وقت فيها لقراءة كل شيء ولذلك نتمنى أن نقرأ ما يستحق القراءة قبل أن تُغلق كل الكُتب. ولكنني حاولت تصحيح هذا الخطأ. قرأتُ "في بلاد الرجال" سنة 2017، بعد 11 سنة من صدورها، ولكنني قرأتُ كتاب "العودة" المدهش سنة 2017، هذه المرة سنةً واحدةً فقط بعد صدور الكتاب في 2016. تقدمٌ جيد، أليس كذلك؟ حسناً، لقد حرصت على أن أتقدم أكثر.

كتاب هشام مطر الجديد "شهر في سيينا" A Month in Siena صدر بتاريخ 17 أكتوبر 2019. لماذا أعرف تاريخ صدور الكتاب بهذه الدقة؟ لأنني لأول مرةٍ في حياتي أطلب كتاباً قبل صدوره، وقد وصلني عبر البريد بتاريخ 17 أكتوبر بالضبط. لقد حاولتْ الظروف أو الصروف أن تتواطأ ضدي وضد الكتاب، هذه مشاغل وهذه هموم وهذه صاحبة الفخامة الكآبة وهذه حوادثٌ مؤلمة، ولكن هذا التواطؤ لم ينجح إلا في تعطيلي أسبوعين أو ثلاثة فقط!

حين قرأت "في بلاد الرجال" صُدمت: كيف تعطلت لهذه الدرجة؟ كيف لم أنتبه لهذا الكتاب الممتاز ولهذه الرواية التي قد تكون إحدى أفضل الروايات اللاتي قرأتهن؟ وحين قرأت "العودة" لم أُصدم، بل فقط تأكدت أن هشام مطر كاتبٌ وشاعرٌ حقيقيٌّ جداً، وشعرتُ بأن "العودة" كتابٌ اقترب كثيراً من درجة الكمال. والآن وقد قرأت "شهر في سيينا" فها أنا ذا أزداد يقيناً فوق يقيني بأن هشام مطر من أفضل الكُتَّاب المعاصرين.

اللغة تشبه الذاكرة أليس كذلك؟ نستخدم كلمات من ذاكرتنا للتعبير عن شيء جديد أو بالأحرى لتذكير بعضنا بعضاً بشيء قديم لنفهم شيئاً جديداً. وأظن أن المقارنة كذلك نوعٌ من أنواع اللغة الذاكرية. ولذلك سأبدأ بهذا الاستذكار: لقد ذكرني الكتاب بإدوارد سعيد وخورخي لويس بورخيس وعبدالفتاح كيليطو. سنجد عقلانية وأناقة إدوارد الأكاديمية، وسنجد شغف بورخيس بالتفاصيل والأحلام والخيال، وسنجد فضول كيليطو وهو يحاول فك ألغاز الأعمال الفنية. ولكن هذا لا يعني أن هشام مطر ليس موجوداً، بل موجود، فالعقلانية عقلانيته والأناقة أناقته، والشغف شغفه وأحلامه وخياله، والفضول فضوله، واللغة لغته الرائعة المدهشة بدقتها. ولهذا السبب كذلك، لحضور هشام في كتابه الجميل هذا، فقد ذَكَّرني بكتاب "وليمة متنقلة" لهيمنغواي، ذلك الكتاب الصغير الذي أهديت منه نسخاً عديدة، والشيء بالشيء يُذكر فقد تحدثت وأوصيت وأعرت وأهديت كتابي هشام مطر "في بلاد الرجال" و"العودة" عدة مرات كذلك. وهذه الذكرى القديمة عن كتاب هيمنغواي الذي كتب فيه عن تجارب شبابه في باريس بجمالٍ حميميٍّ (أو ربما بروستي) مُدهش تقودني لوصف الذكرى الجديدة التي هي كتاب هشام هذا.

"شهر في سيينا" كتاب يتحدث فيه هشام عن شهرٍ أمضاه في مدينة سيينا الإيطالية بعد الانتهاء من تأليف كتابه "العودة". "العودة" كتابٌ جميلٌ ويقترب من درجة الكمال كما ذكرتُ سابقاً، ولكن جماله هو ذاك الجمال الشاعري، جمال قصائد الرثاء التي تتمكن بمعجزةٍ سليمانية من تذويب فضة الحزن وتشكيل الجمال منها. حين كتبت عن "في بلاد الرجال" قلت إنه كان كتاباً مرهقاً، "العودة" لم يكن مختلفاً في إرهاقه العاطفي الجميل. في كتاب "العودة" يذكر هشام عادته في الذهاب إلى المتاحف ليختار لوحةً ويقف أمامها لزمنٍ طويل يدرس كل تفاصيلها. هكذا قد نفهم لماذا قرر هشام أن يذهب إلى سيينا ليشاهد اللوحات السيينية الغامضة التي قال عنها:

"كانت تقف منفردةً، لا من العصر البيزنطي ولا من عصر النهضة، طفرة بين الفصول، مثل الأوركسترا تُدوزِن أوتارها في الاستراحة."


وهكذا ربما يبدأ هذا الكتاب، رحلة نحو (أو استراحة عند) غموض تلك اللوحات الفارقة، محاولة لفهم ذلك الفصل الغريب في كتاب الفن الأوروبي/العالمي. ولكن، لم يقف هشام فقط أمام اللوحات في متاحف سيينا، لقد تعرف على بنايات سيينا وغرفها القديمة، على شوارعها الضيقة، على مقبرتها، على أهل المدينة وعاداتها، على عائلةٍ أردنية في المدينة، مهاجرةٍ أفريقية، معلمة اللغة الإيطالية التي كان يختصر اسمها من "صابرين" إلى "صابري" لأن ذلك يذكره بحي الصابري في بنغازي (الصابري عرجون الفل، الصابري عمره ما ذل!)، يسمع صوت زوجته ديانا التي اشتاق لها فور رحيلها ولكنها حاضرةٌ طوال الوقت، ترافقه كذلك ذكرى والده التي لم تذب أبداً، يرى الأخبار الإيطالية لا تتحدث عن ليبيا في جلسة لمناقشة أوضاع ليبيا، يأخذ وصفة طبخ من امرأة إيطالية رأته في الشارع وقد اشترى حاجياته فأوقفته ونصحته كيف يطبخها، يسمع موسيقى كلاسيكية أثناء طبخ الطعام وتنتهي االمعزوفة الأوروبية لتبدأ أغنية بحارة بحرينيين... لقد كانت رحلةً منفردةً منعزلة، ولكنها لم تكن وحيدة، كانت رحلةً للتواصل مع كل شيء.

وبين هذا التواصل وذاك، كان هشام يتواصل كذلك مع اللوحات السيينية، مثل لوحة Madonna dei Francescani التي ناقش طويلاً رمزيتها الدينية وكيف يمكن أن ينظر إليها الناس نظراتٍ مختلفة بحسب خلفياتهم الدينية المختلفة، ثم قال:

"الشيء المثير للاهتمام أنني طوال مراقبتي [للوحة] مادونا دي فرانشيسكاني لم تخطر ببالي أي من هذه الأمور. عوضاً عن ذلك، كنت أنا الأم والطفل والراهب. شعرتُ بأن اللوحة رُسمت خصيصاً لي وكأنها رُسمت من قِبل أخ، ليس فقط لأن [راسمها] دوتشيو، مثل كل الرجال والنساء، هو رفيقٌ إنساني، ولكن كذلك لأنه كان واضحاً بالنسبة لي أنه لم يقصد أن تأتي إلى هذه الصورة من موقف ارتباطات أو ولاءات، ولكن من الموقف البسيط المتمثل في كونك إنساناً."

بصراحة، لا أعلم كيف أتحدث عن هذا الكتاب... إنه شعورٌ مشابه لذاك الذي راودني حين قرأت "العودة": كتابٌ رائع يستحق القراءة مرةً تلو الأخرى، وهذا هذا! فأنا مثلاً لا أريد أن أُلخص أو أختصر حديث هشام الرائع عن لوحة "داود مع رأس جالوت" لكارافاجيو، أريد أن أنسخ فقط كل ذلك التحليل العبقري والشاعري المدهش، وكيف اختلط تحليل هشام للوحة بالحديث عن الموت والحديث عن الطغاة والتاريخ. أريد أن أنقل كل ما كتبه هشام عن وباء الطاعون وكيف أثر في أوروبا والشرق المتوسطي، سواءً في فن الإيطاليين أو في كتابات ابن بطوطة وابن خلدون.

وأريد كذلك أن أنسخ كل ما كتبه هشام من أفكار عن الماضي والحاضر والمستقبل، عن السعادة، عن الحياة، عن علاقاتنا بالآخرين، عن الخيال، عن الحب، عن الأسباب التي تدفعنا لخلق الأعمال الفنية... ربما يمكنني أن أنقل اقتباساً الآن، فأنا إنسانٌ ضعيفٌ في نهاية المطاف!

"الماضي والمستقبل يُحفِّزان خيالنا، أما الحاضر فيغمره. ما الذي يمكن فعله مع كل هذا الحدوث الذي لا يتوقف ولا يتعب، عدم الانقطاع هذا الذي يشبه ضوءاً ساطعاً يومض بسرعةٍ كبيرة إلى حدّ أن العين المجردة لا تستطيع أن ترى تردده؟ ليست الثواني مُقسَّمةً كما قد تحاول الساعة أن تقنعنا، الزمن لا يتك، ولكنه متلاحمٌ في تقدمٍ متواصل. الحديث عن "الوجود في الحاضر" أو "العيش في اللحظة" صار جزءاً من لغتنا المعاصرة. ولكن الحاضر لا يمنحنا خيارات، إنه يصر على أن ننتبه."

كتبتُ عدة فقرات، كل مرة أكتب واحدةً وأمسحها وأبدأ من جديد، وفي النهاية مسحت ما كتبته وتركت الاقتباس في الأعلى بدون تعليق وانتقلت للفكرة التالية، وها أنا ذا أعود من جديد لأكتب أن أفضل تعليق على ما سبق هو عدم التعليق! سيطرة الحاضر أظنها شيء نشعر به ولكن لا نستطيع الحديث عنه، على الأقل لا ننجح كلنا في ذلك كما ينجح هشام.

أريد كذلك أن أتحدث كالعادة عن أشياء كثيرة فنية في الكتاب. هيكلية الكتاب الحياتية، يبدأ في نقطة محددة وينتهي في نقطة أخرى، ولكنه لا يسير في خطٍ مستقيم من مطار إلى شقة إلى لوحات إلى مطار آخر، كلا، إنه كلٌّ مترابط، اللوحة في البداية سيذكرها على مر الكتاب، الذكريات الأحلام الأفكار ستتداخل مع السرد والتجارب، إنه كتابٌ ينعطف كثيراً من لوحة إلى ذكرى، من حلمٍ إلى شوارع إيطالية عتيقة، من عزلةٍ هادئة إلى حبّ ديانا الحاضر على الدوام، من رفقةٍ ممتعة في الهواء الطلق إلى رفقةٍ صامتة في الحزن... هناك فقرةٌ مهمةٌ جداً، أتذكرها الآن وتقطع علي سلسلة الأفكار "الفنية"...

"أنا موجودٌ في الأغلب إلى جوار الزمن. في لحظاتٍ نادرة فقط – على سبيل المثال، حين أكون مع أولئك الذين أحبهم أو في أوقات الشغف العظيم أو حين أكتب ويسير العمل على نحو جيد – أشعر أنني داخل الزمن، أنني حيث يجب أن أكون وأنني متحررٌ كلياً من الرغبة في أن أكون في أي مكانٍ آخر. الأوقات الأخرى فيها تَدخُّلُ القلق، وكأنني مُحتجَزٌ وفي مكانٍ قريب، على الأغلب في الشارع التالي، ثمة لقاء مرغوب أو مناسبة قائمة أُقصيتُ منهما إما بسبب المصادفة أو الجهل أو الحظ السيئ. الشيء الغريب كان أنني لم أعانِ من ذلك في سيينا قط."

هناك عبقرية يتميز بها هشام، وهي حاضرة في هذا الكتاب كما كانت حاضرة في "في بلاد الرجال" و"العودة"، وهي عبقرية التقاط شعور معين والتعبير عنه تعبيراً واضحاً جداً إلى حد أنك لا تندهش لأنك تقرأ شيئاً جديداً ولكن لأنك تقرأ شيئاً مألوفاً جداً، مثل هذا الإحساس بالوجود خارج الزمن، بأن شيئاً ما يضيع عليك. ما يجعل هذه العبقرية مدهشةً عند هشام هو واقع أنها ليست عبقرية "تعليم" وحسب، ولكنها أيضًا عبقرية "استكشاف" و"بحث" عن ذلك الوضوح، وضوحٌ يشاركنا إياه بكتابته الجميلة هذه ولا يتفضل علينا به من برجٍ بعيد. ولكن ليس هذا سبب اقتباسي للمقطع في الأعلى، وإن كانت انعطافةً مناسبةً جداً، فما أردته هو إيضاح أن هيكلية "شهر في سيينا" تشبه كثيراً تجربة هشام هناك: رغم كل الانعطافات فإن كل شيء في مكانه المناسب. والنقطة الفنية التالية التي كنت أود ذكرها هي إبداع هشام في الكتابة، لغته الدقيقة، البسيطة... والبساطة هنا لا أقصد بها انتقاصاً، بل أقصد بها وضوحاً عظيماً، أقصد بها قول تولستوي إن "المفيد حقاً، الطيب حقاً، وبالتالي العظيم حقاً، دائماً بسيط". ولكنني لا أعلم كيف يمكنني أن أختصر كل ذلك الإبداع هنا! وأريد الحديث عن الكثير الكثير!

إن فقرةً قصيرةً واحدةً من الكتاب تستحق جلسةً كتابية طويلة! فعماذا أتحدث؟! هل أتعمق في الحديث عن كل جانب فني وأضرب الأمثلة هنا وهناك على التشبيهات والكلمات الموزونة بدقة والاستحضارات المدهشة بأُلفتها؟ هل أعود لموضوع الكُتَّاب الذين تذكرتهم وأناقش بالتحديد ما الذي ذكرني بإدوارد سعيد وما الذي ذكرني ببورخيس وما الذي ذكرني بكيليطو؟ هل أنفلت فجأةً نحو مناقشة الهالة البروستية التي تلف هذا الكتاب المليء بالذاكرة؟ هل أتحدث عن كل المعاني الفلسفية الفكرية السياسية التاريخية النقدية الفنية الشخصية العاطفية التي يمكن أن نقرأها في الكتاب؟! عماذا أتحدث وكيف أختار! هل أختار الحديث عن تحليله لوحة "التسعة" في سيينا؟ أم لعلي أتعمق في جانب التجربة الليبية في هذا الكتاب الذي ألفه هشام الليبي وقرأته أنا الليبي؟ أم لعلي أستمتع بسرد قصة استشهاده بمقطع من رواية لكونراد؟ أم ربما أتحدث عن قوله إنه لا يعرف إن كان سيستطيع أن يكتب إن لم يحب، وكيف ذكرني ذلك بمقولة تورجينيف الشهيرة عن كونه لا يستطيع أن يكتب إلا إن احترق بالحب؟

تنهيدة عميقة... وباهي... أظن، أظن أنني وجدتُ ما يمكن أن أتحدث عنه، وربما أختم به هذه الكتابة التي لا أعرف حقاً ما الذي يحدث فيها...

على هامش إحدى الصفحات كتبتُ تعليقاً (بقلم حبر، وأعتذر للأصدقاء أنصار أقلام الرصاص ومعارضي "تشويه الكتب")... التعليق كان: "يبدو لي أن هذا الكتاب يكشف نفسه شيئاً فشيئاً على أنه رسالة حب جميلة إلى ديانا...". ديانا هي زوجة هشام مطر. أول ما تقرأه بعد الغلاف هو إهداء "إلى ديانا"... ولكن، هناك شيء آخر هنا...

حضور ديانا في الكتاب مستمر، سواءً في الذكريات التي تتخلل رحلة هشام إلى سيينا أو في ما حدث قبل وبعد الرحلة، وهو حضورٌ جميلٌ جداً. ولكن، هناك شيء أكثر دقة هنا... في نهاية الكتاب، وقبل أن يتحدث هشام عن لقائه الأول بديانا بعد انتهاء رحلته المنفردة في سيينا، يتحدث عن لوحة سيينية أخرى وعن تلك الرغبة لدينا في أن نخبر الناس بما حدث معنا وأن يخبرونا هم بما حدث معهم وما يعنيه ذلك من اعترافٍ بوجودنا، ويذكر أن الرسام (الذي رسم لوحةً عن الفردوس يلتقي فيها الناس) ربما كان يريد أن يقول إن الجحيم ليس جحيم النيران ولكنه جحيم ألا يتعرف علينا من نحبهم.

يقول هشام:
"تفهم اللوحة ذلك. إنها تعرف أن أكثر ما نرغب به، أكثر حتى من الفردوس، هو أن يُعترف بنا، وأنه بصرف النظر عن مقدار تحولنا وتغيرنا بسبب عبورنا، فإن شيئاً منا قد يستمر ويبقى واضحاً لأولئك الذي أمضينا وقتاً طويلاً نحبهم. ربما تاريخ الفن كله هو تَفتُح هذا الطموح، وكل كتاب أو لوحة أو سيمفونية محاولة لصياغة سردية وفية حول كل ما يتعلق بنا."

حين قرأتُ هذا المقطع شعرتُ ليس فقط بعبقرية هشام الجميلة في محاولة فهم ووصف دوافع الفن والإبداع وربطها بعنصر التواصل الإنساني، ولكنني شعرتُ كذلك بأن هشام ربما كتب هذا الكتاب ليخبر ديانا عن شهره في سيينا... لا أعلم، ربما هذا الجانب الرومانسي في داخلي، ولكنني أشعر بأن هذا قد يكون صحيحاً، بأننا نفعل الكثير من الأشياء، ربما نسافر ونراقب لوحات ونؤلف كتباً، وربما نقرأ كتباً ونجلس لكتابة تدوينة عنها، وكل ذلك فقط لنقول لمن نحبهم بأننا هنا وهذا ما حدث أثناء غيابنا.

لقد كتبتُ على هامش الكتاب كلمات انبهار وإعجاب كثيرة، "واو" هنا و"يا إلهي" هناك و"أتعبتني وراءك بالتخطيط يا هشام!" في مكانٍ آخر... وأول "واو" كتبتها، أول دهشة استخرجها مني هشام في هذا الكتاب، كانت في أول صفحات... كان هشام يتحدث عن رحلة مفزعة في طائرة تعرضت لخلل فني واضطرت لتغيير مسارها والعودة إلى مطار الإقلاع. وسط تلك الأجواء المشدودة بقلقٍ صامت تحول حين اهتزت الطائرة إلى همهمات خائفة يتخللها بكاء إحدى المسافرات، وسط كل ذلك يقول هشام:

"أتذكر تفكيري في أنني لا أمانع الموت – لا بد أن يأتي في نقطةٍ ما – ولكنني لم أكن مستعداً كلياً بعد، الموت الآن سيكون هباءً بالنظر إلى كل الوقت الذي أمضيته في تعلم كيف أعيش."

 لقد أدهشتني بساطة هذه العبارة التي تحمل أملاً عميقاً في النجاة، ليس النجاة من تلك الطائرة (التي نجى منها وألف هذا الكتاب، فلا داعي للخوف!) ولكن النجاة من معضلة الحياة، من سؤال "كيف نعيش؟". أظن أننا نعلم جيداً صعوبة الإجابة على هذا السؤال، ونعلم كذلك أنه ليس بالفعل سؤالاً تمكن الإجابة عليه إجابةً مباشرة، إنه رحلة، رحلة لطلب العلم ولو في سيينا. دراسة مستمرة، وسعيٌّ متواصلٌ لنتعلم كيف نعيش... وأظن أن مما تعلمه هشام، ومما نتعلمه نحن كذلك من هذا الكتاب، أن الكثير مما نفعله، الكثير من العيش سواءً عبر العمل أو الدراسة أو الفن أو مراقبة اللوحات أو الكتابة عنها أو القراءة أو كتابة التدوينات هو، باستعارة وصف هشام لشوارع المدينة المتداخلة، رقصةٌ "تهدف إلى تذكير كل الأشخاص الوحيدين بأن وجودهم وحيدين ليس جيداً ولا حتى ممكناً."

نعم، الكثير من كل هذا العيش هو لأننا لا نستطيع أن نوجد لوحدنا، ولذلك نقول لمن نحبهم إننا هنا وهذا ما حدث أثناء غيابنا، ليس فقط ليعترفوا هم بنا، ولكن لكي يعلموا هم كذلك أننا نعترف بهم... لا أعلم، هذه قراءتي، ولكنني أعلم أن هذا كان سبباً من أسباب كتابتي لهذه الرسالة.

2 نوفمبر 2019

ملحوظة: قرأتُ الكتاب بنسخته الإنجليزية  A Month in Siena الصادرة عن دار Viking. الاقتباسات الواردة أعلاه من ترجمتي المتواضعة ولذلك أعتذر عليها أشد اعتذار!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق