في الفترة الماضية بدأت
إحدى الصديقات قراءة كتاب "وليمة متنقلة – A
Moveable Feast" لإرنست هيمنغواي. هذا الكتاب الصغير
لديه مكانة خاصة في قلبي، وقصتي معه طويلة.. القراءة الأولى، القراءات اللاحقة،
تطور أهمية الكتاب عندي، اختلاف تجارب القراءة، كمية الناس الذين أهديتهم الكتاب
وصدعتهم به... إنه كتاب عزيزٌ غالٍ، ولذلك سعدتُ بقراءة الصديقة له، رغم أنها كانت
– كما سيتضح – قراءةً تشوبها خيبة الأمل. ورغم ما أحاط بقراءة الصديقة من مشاكل،
فقد كتبتْ عنه بعض الملاحظات التي تشير لجوانب مهمة في الكتاب، ويمكن الاطلاع
عليها في هذه التغريدات
على تويتر.
غلاف الطبعة الأولى من
الكتاب
وبالعودة إلى موضوعنا،
فأنا شخصياً قرأتُ الكتاب وأعدتُ قراءته بالإنجليزية. الصديقة قرأته بترجمة
الدكتور علي القاسمي العربية. وأثناء قراءتها شاركتني – بطبيعة الحال! - إحدى فقرات
الكتاب التي يتحدث فيها هيمنغواي مع صديقه إيفان شيبمان عن الأدب الروسي
ودوستويفسكي وتولستوي (تاج راسي وراسكم!) – لهذا قلتُ سابقاً "بطبيعة
الحال"، 90% من الرسائل التي تصلني من الأصدقاء عبر تويتر رسائل عن تولستوي!
الفقرة التي شاركتني
إياها الصديقة من الترجمة العربية هي التالية:
وقلت: "كنت أفكر بدوستويفسكي. كيف يستطيع رجل أن يكتب
بذلك الأسلوب السيئ، سيئ لدرجة لا تُصدَّق، ومع ذلك فإنه يحرك مشاعرك بعمق؟"
فقال إيفان: "قد يكمن السبب في الترجمة، فالترجمة
هي التي أظهرت تولستوي بصورة جيدة."
"أعرف ذلك. أتذكر كيف حاولت أن أقرأ تولستوي عدة
مرات فلم أفلح حتى عثرت على ترجمة كونستانس غارنيت".
وقال إيفان: "يقولون إن بوسع الترجمة تحسين الأصل.
وأنا متأكد من ذلك على الرغم من أنني لا أعرف الروسية. ولكننا – كلينا – نعرف
الترجمات. بيد أن الحرب والسلام جاءت مترجمةً، روايةً رائعة حقاً، بل أفترض
أنها الأعظم، وبإمكانك أن تقرأها مرةً تلو أخرى."
وقد بدأت الصديقة
تتساءل عن أثر الترجمات على الأعمال الأصلية وعن فكرة أن الترجمة ربما بوسعها
"تحسين الأصل"، ولكن قبل أن نتعمق في ذلك أكثر كانت حاستي العنكبوتية
(نكتة عن سبايدرمان) قد أنذرتني بأن شيئاً ما غير سليم هنا... صحتُ في ذهني
"إلى سيارة الوطواط!" (نكتة عن باتمان) وانطلقتُ إلى النسخة الإنجليزية
لمراجعة الأصل.
هذه الفقرة السابقة بالإنجليزية:
“I’ve been wondering about Dostoyevsky,” I said. “How can a man
write so badly, so unbelievably badly, and make you feel so deeply?”
“It can’t be the translation,” Evan said. “She makes the Tolstoi
come out well written.”
“I know. I remember how many times I tried to read War and Peace
until I got the Constance Garnett translation.”
“They say it can be improved on,” Evan said. “I’m sure it can
although I don’t know Russian. But we both know translations. But it comes out
as a hell of a novel, the greatest I suppose, and you can read it over and
over.”
لمن لا يجيد
الإنجليزية: لا داعي للقلق، هناك ترجمة ترافقها صدمة ستأتي فوراً... ولعلي إن صدمت
قارئاً أو قارئة فقد تشعر الصديقة بالمواساة على صدمتها وخيبتها...
هذه ترجمتي العربية
للفقرة (مع بعض التوضيحات بين أقواس مربعة):
قلتُ: "كنتُ أتساءلُ بخصوص دوستويفسكي. كيف يمكن لرجلٍ يكتب كتابةً سيئة، سيئة سوءاً لا يمكن تصديقه، أن يجعلك تشعر بعمقٍ شديد؟"
قال إيفان: "لا يمكن أن تكون الترجمة
السبب. إنها [يقصد المترجمة كونستانس غارنت] تجعل كتب تولستوي تبدو مكتوبةً
كتابةً مُتقنة".
"أعلم. أتذكر عدد المرات
اللاتي حاولت [ولم أستطع] فيهن قراءة الحرب والسلام حتى وجدتُ ترجمة كونستانس غارنت."
قال إيفان: "يقولون إن ترجمتها يمكن تحسينها. أنا متأكدٌ أن ذلك ممكن رغم أنني لا
أتقن الروسية. ولكن كلانا نعرف الترجمات. ولكن [ترجمة الحرب والسلام] تظهر بمظهر رواية
ممتازة، الأعظم حسبما أتصور، ويمكنك أن تعيد قراءتها مراراً وتكراراً."
ولكي لا أتعبكم عزيزي
أو عزيزتي القارئة بالعودة للأعلى لإعادة قراءة ترجمة القاسمي، فسأخبركم بما
حدث... سأصدمكم! ما حدث هو أن الدكتور القاسمي عكس معنى الكلام كلياً: يقول شيبمان إن سوء كتابة دوستويفسكي لا يمكن أن يكون بسبب الترجمة، فيترجم القاسمي ذلك على أن السبب
قد يكمن في الترجمة! يقول شيبمان إن ترجمة غارنت الإنجليزية قد يمكن تحسينها، فيترجم القاسمي ذلك على أن الترجمة يمكنها أن تُحسن الأصل! هل صُدمتم؟ جيد.
وقبل المتابعة، ولكي لا
يزعل معجبو دوستويفسكي، فبقية الكلام فيه نسبياً مدح لدوستويفسكي وحديث عن ضرورة
قراءته. ولكن لا داعي لئلا تزعلوا كثيراً، يمكنكم أن تزعلوا قليلاً لأن هناك شتم
أكثر مباشرةً من شيبمان...
أنا لم أقل شيئاً...
وبالعودة إلى كلامنا،
فإن لم تصدمكم هذه الترجمة (مع أني افترضت أنها فعلت وقلت "جيد"!)
فبصراحة لقد صدمتنا أنا والصديقة! من أهم
مزايا هذا الكتاب الرائع ما فيه من أحاديث عن الأدب والنقد وآراء بعض كبار الأدباء
في ذلك الوقت، ومثل هذه الترجمة تُضيع المعنى فتضيع معه جانباً من جوانب الكتاب
المهمة، يصبح مجرد كلام لا قيمة له لأنه ليس صحيحاً. لدي مثالٌ آخر على الترجمة،
مثال سأعرضه بفرضية أو خيال لتوضيح مأساوية هذه المشكلة واقعياً.
فلنتخيل أن ثمة كاتب أو كاتبة يعملون على صقل موهبتهم وقراءة سير الأدباء الكبار ودراسة أعمالهم وتطور
أساليبهم. ذاك الكاتب قد
يسعد كثيراً بكتاب هيمنغواي وما فيه من حديث عن تجربته في الكتابة وما فيه من آراء
نقدية، وقد يتحمس مثلاً لهذا المقطع الذي يقول فيه هيمنغواي:
"تعلمت من رسم سيزان أشياء عديدة مكنتني من
الاكتفاء بكتابة عبارات بسيطة حقيقية لتضمين قصصي الأبعاد التي أتوخاها."
(ترجمة القاسمي)
قد
تقرر الكاتبة التي تقرأ هذا المقطع أن تتعلم نفس الشيء من سيزان، أن تبذل جهدها في
نحت عبارات بسيطة حقيقية تمنح قصصها الأبعاد التي تريدها. المشكلة الوحيدة أن هذا
ليس ما قاله هيمنغواي وليس ما تعلمه من سيزان!
“I was learning something from the painting
of Cézanne that made writing simple true sentences far from enough to make the
stories have the dimensions that I was trying to put in them.”
"كنت أتعلم من لوحات سيزان شيئاً جعل كتابة جمل
بسيطة صادقة غير كافٍ على الإطلاق لتكتسب القصص الأبعاد التي كنت أرغب في
منحها لها." (ترجمتي)
لم يتعلم هيمنغواي من سيزان أن العبارات الصادقة البسيطة تكفي، بل تعلم منه العكس تماماً!
الكاتب أو الكاتبة أو الناقد أو الناقدة أو أي شخص قد يهتم بتتبع هذا الموضوع
سيضيع! يذكر هيمنغواي، قبل حديثه عن سيزان، أنه حين يواجه عثرةً في الكتابة كان
يتشجع بأن يقول لنفسه: "كل ما عليك فعله هو أن تكتب جملة واحدة صادقة.
اكتب أصدق جملة تعرفها." وصحيح أن هذا جزء مهم من أسلوب هيمنغواي البسيط
المباشر، ولكن هذا ليس كل شيء، ومن يقرأ الكتاب (كما كُتب!) سيفهم أن هيمنغواي لم
يعتمد على الجمل البسيطة الصادقة وحدها لمنح القصة الأبعاد التي يريدها. في فصلٍ
لاحق من الكتاب يتحدث هيمنغواي عن بدايات تكون نظرية أدب الجبل الجليدي عنده،
فيذكر أن ذلك بدأ بقصة بسيطة حذف نهايتها، وأن هذا الحذف جاء بناءً على نظريته
الجديدة:
"حذفتُ ذلك بناءً على نظريتي الجديدة بأنك تستطيع حذف أي شيء
إذا كنت تعرف ما حذفته وتعرف أن الجزء المحذوف سوف يُقوِّي القصة ويجعل الناس
يشعرون بشيء أكثر مما فهموه." (ترجمتي)
لقد
وصل هيمنغواي في بحثه عن تلك العناصر اللازمة لمنح قصصه أبعاداً عميقة إلى أشياء
مثل "الجبل الجليدي" والحذف، وهذا متناسق مع أنه تعلم من سيزان أن
الأسلوب اللغوي المباشر البسيط ليس كافياً. تُخلُّ ترجمة الدكتور القاسمي بهذا
التناسق وتشوه تاريخ تطور هيمنغواي. الكاتب الذي يريد تعلم دروس كتابة من هيمنغواي
لن يتعلمها، الباحثة التي تريد تأليف بحث عن تطور أسلوب هيمنغواي لن تكتب بحثاً
دقيقاً، القارئ العادي الذي يراوده الفضول لمعرفة هذه الأمور سيُرضي فضوله
بمعلوماتٍ خاطئة.
بصراحة،
وحتى إن أقررنا بأن الكتاب لا يخلو من ترجمة جيدة، فمع ذلك الله أعلم كم في هذه
الترجمة من أخطاء أخرى في الفهم وعكس المعنى ونسفه! ومع أنني لم أرغب في مراجعة
الكتاب كاملاً، إلا أنه كان لا بد لي من قراءة مقدمة المترجم، فهي مقدمة عن
الترجمة!
يبدأ الدكتور
القاسمي مقدمته بالحديث عن إعجابه بهيمنغواي حين كان طالباً: "كنت
أعتبر همنغواي، آنذاك، كاتبي المفضل باللغة الإنجليزية، بل يمكنني القول إن
همنغواي هو كاتب الطلاب المفضل لسهولة لغته، وسلاسة أسلوبه..." وأول تعليق قد
يتبادر للذهن هو: يبدو أن لغة همنغواي لم تكن بتلك السهولة وأسلوبه لم يكن بتلك
السلاسة! كما يذكر القاسمي أن كتاب "وليمة متنقلة" أعجبه كثيراً،
وأنه شعر بضرورة ترجمته: "وتبادر إلى ذهني آنذاك ضرورة ترجمة الكتاب إلى
اللغة العربية لأتقاسم المتعة مع قرائها، ولأوفر للمكتبة العربية معلومات دسمة عن
أولئك المشاهير من الأدباء والفنانين، لا يجدها الباحثون عادة في المراجع المختصة
بالأعلام والسير والتراجم." وهذا شيء آخر مُحزن بصراحة، فالقاسمي مُدركٌ
تماماً لجانب من جوانب أهمية الكتاب، ومع ذلك فإن أخطاءه في الترجمة تنسف هذا
الجانب في بعض المواضع والنتيجة أنه لا يُقاسم قراء العربية المتعة والمعرفة ولكنه
يحرمهم منها (بالتعاون مع شركاء آخرين في هذه الجريمة سأذكرهم لاحقاً!).
القاسمي يتحدث عن عدة
أشياء جعلته يتخلى عن فكرة ترجمة الكتاب أثناء شبابه، ويقول:
"كنت
أخشى أن أشارك في ما يسميه الإيطاليون بخيانة الترجمة، أو أن تنطبق عليَّ مقولة
الأديب الإسباني الأستاذ جوليو – سيزار سانتويو، الأستاذ بجامعة ليون بإسبانيا،
الذي أعرب عن دهشته لعدم زج كثير من المترجمين في السجون والمعتقلات لأن ترجماتهم
مليئة بجرائم الكذب والتزوير وإخفاء الحقيقة وخيانة الأمانة وغير ذلك من
الجرائم التي يعاقب عليها القانون." (التخطيط مُضاف لنركز في السخرية!)
هناك سخرية مريرة في أن
يكتب القاسمي هذه الفقرة ولا يدرك أنه ارتكب بضعة جرائم "خيانة أمانة"
أثناء ترجمته لهذا الكتاب. لا أريد أن أكون شريراً وأقول إنه ارتكب كذلك جرائم كذب
وتزوير وإخفاء حقيقة، ولكن بصراحة فإن هذه المقدمة قد تؤدي لإدانة القاسمي!
وفي سياق حديثه عن بعض
الصعوبات التي جعلته يؤجل ترجمة الكتاب، يقول القاسمي: "لا تشكل نصوص همنغواي
العامة صعوبة تذكر للمترجم على مستوى الفهم، لأن مفرداتها بسيطة شائعة
وبنياتها النحوية سهلة بعيدة عن التعقيد." (التخطيط مضاف). ويتابع الدكتور
القاسمي حديثه ويوضح أن هذه البساطة الظاهرية تمثل صعوبة من نوع ما، صعوبة السهل
الممتنع، حيث ليس من السهل نقل هذه البساطة. وللتوضيح: القاسمي لا يقصد الفهم إنه
يقصد فقط التعبير: "هل يستطيع المترجم العربي الذي فهم العبارة أو الفقرة
أن يصوغها بالبساطة نفسها باللغة العربية..." (التخطيط مضاف). وإن سلمنا بهذه
الصعوبة، فلا بد من تساؤلٍ مرير السخرية: إن كان هذا حال نصوص هيمنغواي من حيث
سهولة الفهم، فكيف عكس القاسمي معاني كلامه في بعض المواضع؟! يبدو أن المشكلة هنا أن
الدكتور القاسمي وثق أكثر مما يجب في فهمه للنص وانتقل متسرعاً إلى مرحلة التعبير
عن هذا الفهم!
يذكر الدكتور القاسمي كذلك أن هيمنغواي يلجأ لأسلوب الجبل الجليدي في سرده للأحداث، ويضرب أمثلةً على
ذلك: "فعندما يريد همنغواي أن يتهم أحد شخصيات كتابه وليمة متنقلة –
ولنقل سكوت فتزجيرالد – بالكذب أو عدم الدقة في الكلام، فإنه لا يقول ذلك مباشرةً،
بل يسوق حواراً بريئاً – على ما يبدو – بينه وبين فتزجيرالد يستشف منه القارئ أن
فتزجيرالد قد أخطأ أو كذب." عندي تحفظات مع إسقاط أسلوب "الجبل
الجليدي" على هذا الكتاب ومشاكل مع هذا المثال ولكني سأتجاهلها الآن، وسأقول
إن القاسمي رغم أنه يزعم أنه مُدرك لأهمية هذا الأمر (أي الحوارات مثلاً) إلا
أننا رأينا كيف أخفق في فهم الحوار بين هيمنغواي وشيبمان عن دوستويفسكي والترجمة!
بعد المثال السابق يقول
كذلك: "وعندما يبتغي همنغواي أن ينوه بإلمامه بالأمور الطبية، لأن والده كان
طبيباً ولأنه هو نفسه كثيراً ما كان يطالع المجلات الطبية المتخصصة، فإنه لا يصرح
بذلك مباشرة وإنما يسرد أحداثاً يستنبط منها القارئ أن لهمنغواي ثقافة طبية
جيدة." من جديد عندي مشكلة مع قصة "لا يصرح" و"يلمح" في
حالات يسرد فيها هيمنغواي بكل صراحة قصصاً واضحة (سواءً حول عدم دقة فيتزجيرالد أو
حول معلومات همنغواي الطبية)، ولكن نتجاهل ذلك ونقول إن القاسمي يشير هنا إلى
الحوار الذي دار بين هيمنغواي وفيتزجيرالد عن النيمونيا (الالتهاب الرئوي) أو الاحتقان
الرئوي كما يسميه فيتزجيرالد، وهو حوار تحدث فيه هيمنغواي عن صحف ومجلات طبية ولكنه
لم يكن يتباهى بمعلوماته الطبية وإنما كان يحاول تهدئة فيتزجيرالد الذي كان يتوهم
أنه مُصابٌ بالاحتقان الرئوي وأنه يحتضر (يُقال إن فيتزجيرالد كان يعاني من
الهايبوكوندريا، حالة التوهم بأنك مصاب بأمراض). في بداية الحوار كان فيتزجيرالد
يصر أن الاحتقان الرئوي مرض أوروبي ولا علاقة له بالنيمونيا، عارضه هيمنغواي قليلاً وقال له الاحتقان الرئوي مجرد تسمية قديمة للمرض ذاته، وبعد نقاش قصير حاول
فيه أن يقنع فيتزجيرالد (الذي اتهمه بأنه لا يعرف شيئاً وأنه مخطئ تماماً) فجأةً
يقول هيمنغواي نعم صدقت وذكرتني بمقالة في مجلة كذا الطبية تؤكد كلامك، ومن
النصائح الطبية يقولون النبيذ الأبيض مفيد، خذ لك كأس! ويهدأ فيتزجيرالد قليلاً،
ثم يعود للدراما، فيعود هيمنغواي لتهدئته ويقتبس له من مجلة طبية أخرى ويحدثه عن
"الاحتقان الرئوي" الذي كان من سطرين يقول له إنه مجرد تسمية قديمة لمرض
النيمونيا! فكيف ظن القاسمي أن الهدف من هذا الكلام إثبات معرفة همنغواي الطبية؟!
إنها مجرد قصة واضحة جداً ومضحكة وصريحة! وطبعاً هذه الطبيعة الفكاهية الساخرة للقصة تضيع في ترجمة القاسمي الجادة المشغولة بأسلوب الجبل الجليدي!
هذا الكلام يسوقه
القاسمي لكي يوضح المشكلة أو الخطورة (يا لهوي!) المتعلقة بترجمة هيمنغواي:
"أن المترجم قد يستخدم، من غير قصد، مفردات وصيغاً تصرح بالمضمون وتكشف عن
مرامي همنغواي بصورةٍ مباشرة، في حين أن قصد المؤلف هو أن يترك مهمة الاكتشاف
للقارئ لا للمترجم." وهذه قد تكون خطورةً حقيقيةً في مجال الترجمة، ولكن
بصراحة كان الأجدر بالدكتور القاسمي أن يعتني أكثر بما يريد هيمنغواي أن يقوله
صراحةً ومباشرةً، عوضاً عن أن يعكس كلامه السهل البسيط المباشر أو يحاول أن يجد
مقاصد عميقة لقصص واقعية حدثت لهيمنغواي، ثم يتبحر في المقدمة محاولاً إسقاط تلميحات
وأسلوب جبل جليدي على قصص عادية وواضحة!
على كل حال، يقول الدكتور القاسمي إن كل تلك الأمور صرفته عن ترجمة الكتاب في شبابه، وقد تعمق بعد ذلك في
دراسة الأدب الإنجليزي في أمريكا، ونظريات الترجمة، وتعلم اللغة الفرنسية، وقرأ
الترجمة الفرنسية للكتاب، وسكن باريس وزار الأماكن التي تحدث عنها هيمنغواي (وهذه
المعلومة تُستخدم كثيراً للترويج لترجمته!)، وتطورت نظريته لعملية الترجمة... وبعد
كل ذلك جلس الدكتور القاسمي وترجم الكتاب ترجمةً فيها أخطاء فادحة في الفهم. فماذا
يمكننا أن نقول؟
ولكن، إن كان لا يمكنني
قول المزيد عن الترجمة، فهناك المزيد مما يمكن أن أقوله عمن وصفتهم سابقاً بأنهم
"شركاء" الأستاذ القاسمي في جريمة خيانة الأمانة وحرمان القراء من
الاستمتاع بالكتاب كما كُتب (بقدر ما تستطيع الترجمة تحقيق ذلك)، هؤلاء الشركاء هم
(ثلاث نقاط للتشويق)... دور النشر!
ترجمة الدكتور علي
القاسمي لكتاب هيمنغواي نُشرت ثمان مرات... ثمانية.
المركز الثقافي العربي
دار المدى (طبعتان)
منشورات الزمن
الهيئة المصرية العامة
للكتاب (طبعتان)
ميريت للنشر والمعلومات
رؤية للنشر والتوزيع
مع الاعتذار على
مهاراتي (المعدومة) في الفوتوشوب وما نحو ذلك من تكنوأنولوجيا
ثمان مرات نشرت دور
النشر نفس الترجمة. هل راجعوها؟ هل فكر أحد ما بمراجعتها؟ هل فكر الدكتور القاسمي
بمراجعة عمله الرائج هذا؟ ولالتزام الأمانة، فأنا لم أطلع على النسخ كلها، ولكني
اطلعتُ على ثلاث نسخ، وفيها نفس الأخطاء، وأشعر بأنه رهانٌ مضمون أن نقول إن كل
النسخ لم تُراجع وكلها فيها نفس الأخطاء.
هذه المشكلة لا تتعلق
بالدكتور القاسمي وبهذا الكتاب وحده. سبق لي أن تحدثت عن مشاكل ترجمة كتاب
"صنعة الشعر" للرائع بورخيس في هذه المدونة
(التي أرجو ألا تتحول إلى مدونة انفعالات عصبية بسبب الترجمة!)، ومع كل مشاكل
الترجمة في كتاب "صنعة الشعر" فقد صدرت منها طبعتان عن دار المدى. ويشاء
القدر هذه الأيام وأنا أخطط لكتابة هذه التدوينة أن يلفت أحد الأصدقاء انتباهي على
تويتر
لصدور طبعة جديدة من نفس ترجمة "صنعة الشعر" عن دار منشورات الجمل! وقبل
أن يراودك الأمل يا عزيزي القارئ أو عزيزتي القارئة، فدعوني أخبركما أن تغريدة منشورات الجمل
التي تروج لهذه الطبعة الجديدة فيها اقتباس من الكتاب، وهو مطابق لما ورد في طبعات
دار المدى السابقة التي كانت محل مراجعتي ونقدي المذكور سابقاً. ربما هذا الاقتباس
سليم وبقية الأخطاء في الترجمة صُححت؟ لا أعلم، ولكن يراودني شك بأن لا أحد يراجع
شيئاً، وأن الأمر مجرد نسخ ولصق ونسخ ولصق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها!
تغريدة
منشورات الجمل وأسفلها الاقتباس من طبعة دار المدى لسنة 2014 (ص16)
فماذا يمكننا أن نقول
إذن... نحن معشر القراء والقارئات الذين ندفع ثمن هذه الكتب ونقرأها ونحبها ونتحدث عنها
ونمنحها دعايةً مجانية ونفرح بمشاركتها مع الآخرين، ماذا نقول حين نكتشف أننا لا
نقرأ تلك الكتب الرائعة ولا نحبها ولا نشاركها مع أحد بل نقرأ ونشارك ونحب نسخاً
مشوهة منها، ماذا نقول؟ وأين كل ما تتحدث عنه دور النشر، أين لجان المراجعة والتقييم
ومعاييرها الصارمة؟ أين كل الأحاديث عن دعم الثقافة والأدب وتباكيهم على تهديد
القرصنة لمستقبل الثقافة؟ أين كل تعالي وتباهي دور النشر بنزاهتهم وأخلاقياتهم
المهنية في معاركهم حول حقوق النشر؟ أكل ما في الأمر أنكم تريدون الاستمرار في
بيعنا كتباً مشوهة من أجل طبعة جديدة كل سنة، ومقالة في موقعٍ أو صحيفة، وريتويت
على تويتر؟! وأين أصحاب هذه الأعمال، أين أنتم يا معشر المترجمين من أعمالكم التي
تبقى طوال هذا الوقت لتشهد على خطاياكم وإخفاقاتكم؟ أيرضيك يا دكتور علي القاسمي،
وأنت تتحدث حديثاً لا يخلو من عقلانية ونباهة عن الترجمة وتؤلف عنها وعن نظرياتها
الكتب، أُيرضيك أن يبقى هذا الكتاب يصدر طبعةً تلو الأخرى وفيه ما فيه من فضائح؟!
أم لعل ما يرضيك هو نشر مقالة هنا
أو هناك
عن صدور "الطبعة الثامنة" من ترجمتك للكتاب؟
لا أعلم بصراحة ما الذي
يُرضي دور النشر والمترجمين، ولكنني أعلم بأن ما يحدث لا يُرضينا نحن معشر القارئات والقراء،
ولا أعلم إن كان بإمكاننا تغيير شيءٍ ما في هذا العالم الذي يُصر على إفساد
الأشياء التي نحبها... ولكن، ربما، ربما تكون هذه التدوينة رسالة لمترجمٍ أو
مترجمةٍ يقرأون الكتاب فيحبونه ويرغبون حقاً في مشاركة قراء وقارئات العربية جمال ومتعة
وفائدة هذا الكتاب، ويدركون أن المكتبة العربية مازالت بحاجة إلى ترجمته. ربما قد
يتغير شيءٌ ما...
30 ديسمبر 2019
مذهل ما كتبته يا عزيزي، أنا مصدوم جدا لإن هذا الكتاب أكثر كتاب أحببته لهيمنجواي، محبطة ومؤسفة جدا فكرة أن تكتشف أن كتابا قرأته وأعجبت به يمكن أن تكون قد تلقيت الكثير فيه بشكل عكسي ومخالف تماما لما أراده الكاتب، للأسف لن ينصلح حال الترجمات العربية إلا باعتماد ألا يظهر كتاب من غير مراجعة من قبل متخصص في اللغة الأم التي ظهر بها الكتاب، مهما كان اسم المترجم، ودون أن ينتقص ذلك من قدره شيئا، شكرا على مجهودك، وأتمنى أن نرى الكتاب مترجما بشكل أفضل مستقبلا، أو أن يقوم الدكتور علي بمراجعته، تحياتي لك
ردحذف