الأربعاء، 31 يوليو 2019

ثلاث دقائق مع جوردان بيترسون


في الأيام الماضية كالعادة وجدتُ نفسي في نقاشٍ ندمت عليه وإلخ. مواقع التواصل الاجتماعي يا رجل أو يا امرأة، مشكلة والله. المهم، النقاش كان يدور حول السيد جوردان بيترسون. دكتور علم النفس، المفكر، الفيلسوف، المؤلف، المحاضر، المؤثر، الجهبذ، العبقري، الشهبندر، الفرزدق، الكل شيء. ولأني أحب الصداع، لكن لا أحبه كثيراً، قررت أن أجلس مع جوردان بيترسون لمدة ثلاث دقائق فقط. ليس حرفياً طبعاً، ولكن أن أُحلل له مقطعاً مدته ثلاث دقائق.




ترجمتي للكلام في المقطع:

"قرأتُ اقتباساً مرةً، لا أذكر من القائل. ربما كان روبرت هينلاند بحق السماء، مؤلف خيال علمي، ذلك يخطر ببالي، لكن في الأغلب لم يكن هو. الفرضية تقول أن الرجال اختبروا الأفكار وأن النساء اختبرن الرجال. يعجبني ذلك إلى حدٍّ ما. [الفرضية] فيها شيءٌ ما، أتعلمون. بالطبع هذا تعميم مبالغٌ فيه، ولكننا أيضاً لا نعلم إلى أي مدى اختبرت النساء الرجال عن طريق الاستفزاز المحض، يحدث ذلك كثيراً! لأنك إذا كنت تريد أن تختبر شخصاً ما، فأنت لن تخوض معه حواراً صغيراً، أنت سوف توكزه بشدة! سوف تقول، أوكي أنا سوف أهاجمك وأرى أين نقاط ضعفك. ويبدو لي، في وسط هذا الاحتجاج الدائم واستغلال العار [ربما يقصد التشهير أو إثارة الخجل]، وكل ذلك مما يرافق هذا النوع من الحراك الراديكالي تجاه المساواة، بأن هناك كميةٌ ضخمة من الاستفزاز. يا إلهي سوف أقول أيضاً، رغم أنني لا يجدر بي ذلك، ولكن، أنا لا أؤمن بذلك ولكني أحاول فهمه. لقد شعرتُ أنه كان مضحكاً تماماً عند صدور [رواية] 50 درجة [من الرمادي]، شعرت أنه مضحكٌ لدرجة مجنونة أنه في نفس الوقت الذي تعلو فيه مطالب سياسية هائلة بالمساواة الراديكالية، وفيما يخص السلوكيات الجنسية، أن تكون الرواية الأسرع مبيعاً التي رآها العالم يوماً هي عن السادومازوخية والخضوع [في الجنس]، لقد كان الأمر مثل: أوه واو، حسناً، نحن نعلم أين يذهب اللاوعي بهذا أليس كذلك! وأحياناً أفكر، لأن أحد الأشياء التي أحاول فك غموضها، الأمر ليس كأنني أؤمن بذلك، أنا فقط أقول لكم إلى أين وصلت حدود تفكيري، هو أنه لدينا هذا التحالف المجنون بين النسويات والإسلاميين المتطرفين، الذي لا أفهمه. أعني أن عدم تظاهر النسويات بشكل لا ينقطع حول السعودية هو شيء يتجاوزني، لا أستطيع فهمه مطلقاً. وأتساءل أيضاً، أتساءل، كما هو الحال، وهذا الفرويدي في داخلي، هل هناك انجذاب أتعلمون، هل هناك انجذاب ينشأ بين أولئك الإناث الراديكاليات تجاه تلك الهيمنة الذكورية الشمولية التي نجحن في طردها من الغرب. هذا شيء عجيبٌ التفكير فيه، ولكنني في نهاية المطاف لدي عقلية تحليل نفسي، وأفكر بالفعل في أشياء مثل هذه، لأنني لا أستطيع أن أرى أي سبب عقلاني لذلك، السبب العقلاني الوحيد لذلك قد يكون أن الغرب يجب أن يسقط وبالتالي فإن عدو عدوي هو... [مداخلة من محاورته: صديقي]، بالضبط، آه، أظن أنني أخطأت في ذلك [يقصد عبارة "عدو عدوي صديقي"] [محاورته: عدو عدوي صديقي] نعم بالضبط [محاورته: ولهذا فإن الإسلاميين يميلون للتصويت لليبراليين أيضاً]، نعم كذلك، ذلك قد يكون الحال. ولكنني لن أتخلص من توجسي تجاه هذا التوازن اللاواعي لأنه بينما تتزايد هذه المطالبة بالمساواة وبالقضاء على الذكورية سيتكون هناك شوق في اللاوعي للنقيض التام لذلك. كلما صرخت أكثر مطالباً بالمساواة كلما ازداد إعجاب لاوعيك بالهيمنة."

حسناً، هذه كلام جوردان بيترسون. حاولت نقل المعنى بأكبر قدر ممكن من الأمانة ومن الوضوح في الترجمة، وعلى كل حال رابط الفيديو موجود في الأعلى لمن يرغب في التأكد من صحة الترجمة، مع ملاحظة أني تفاديت في الترجمة بعض الأمور العادية التي تظهر عند الكلام، مثل تكرار كلمة بسبب لعثمة أو نطق غير سليم، أو مثل كلمة like التي تعتبر من الكلمات الزائدة في الكلام (حذفتها فقط حين كانت زائدة). باستثناء ذلك أظنني نقلت كلامه ومعانيه بأفضل ما في استطاعتي. والآن، أريد الجلوس قليلاً ومحاولة تحليل هذا الكلام... بسم الله نبدأ.


الرجال اختبروا الأفكار والنساء اختبرن الرجال

جوردان بيترسون يبدأ كلامه هنا باقتباسٍ طريف (يعني قد لا يعجب النساء، لكن معليش مشوها هالمرة). المشكلة ليست في الاقتباس الطريف، المشكلة في أن بيترسون يبدأ في البناء على هذا الاقتباس الطريف الذي أعجبه والذي يتوهم أن فيه "شيء ما"! ليس استفتاءً أُجري على عينة من 1,500 رجل وامرأة، ليس دراسة علمية نفسية على 150 حالة، ليس بحثاً في تاريخ الأفكار والعلوم وتعامل الرجال والنساء معها، كلا، مجرد اقتباس طريف فيه "شيء ما" يعجب جوردان بيترسون! وهنا تظهر أول مشاكل بيترسون: السطحية والأسس الفكرية الواهية التي يبني عليها. وبعدها فوراً تظهر مشكلته الثانية: التضليل المتعمد بالموضوعية (وسأوضح لاحقاً لماذا أقول "متعمد").

بيترسون يصف الاقتباس بأنه فرضية proposition (التي تمكن ترجمتها أيضاً على أنها: مقدمة أو اقتراح)، فهو بذلك يُشير إلى أن الكلام ليس حقيقةً يقينية، مجرد فرضية، أين المشكلة في ذلك؟ لا مشكلة على الإطلاق، بل إن بيترسون يستنكر تعميم هذه الفرضية ويؤكد أن فيها تعميمٌ مبالغٌ فيه over-generalisation. كلام جميل، فلماذا إذن اتهمته بالسطحية؟! هل ظلمت الرجل؟ كلا لم أظلمه، لأن هذه الموضوعية والعقلانية - وصف ذلك الاقتباس بأنه فرضية وبأنه تعميم - مجرد تضليل، لأن بيترسون فوراً يشكك في عدم صحة الاقتباس وعدم صحة تعميمه فيقول: "ولكننا أيضاً لا نعلم إلى أي مدى اختبرت النساء الرجال عن طريق الاستفزاز المحض، يحدث ذلك كثيراً!" الرجل يؤكد فوراً أن "النساء يختبرن الرجال"، أي أن النساء لا تهمهن الأفكار (وبالتالي يستحضر ذلك في ذهن المستمع الصورة النمطية القديمة بأن النساء لا يهمهن العقل والمنطق والعلم) وهن فقط "يختبرن" الرجال! وفي الإنجليزية testing هنا لها معنى مزدوج فهي تعني الاختبار وأيضاً تعني "اختبار الصبر" أو "الاستفزاز"، وهو ما ينطلق نحوه بيترسون ناسفاً كل موضوعية زائفة حول "الفرضية" وحول "التعميم"!

أرجو أن نركز أن بيترسون حين يقول "لا نعلم" فهو لا يقصد لا نعلم هل "النساء يختبرن الرجال"، كلا فهو يأخذ ذلك بصفته حقيقة! ولكنه يقصد لا نعلم كمية "اختبار النساء للرجال بالاستفزاز المحض"، هذا ما يتظاهر بيترسون بموضوعية زائفة بأنه لا يعلمه! ولكن حتى هذا الكلام الذي يُقدمه بقول "لا نعلم" ينفي بيترسون الجهل به ويقول بالطبع نعلم؛ فهو يقول فوراً "يحدث ذلك كثيراً!"، إذن نحن نعلم أن ذلك يحدث ونعلم كذلك كمية حدوث ذلك: "كثيراً"! ثم ينطلق بيترسون ويستمر في البناء على ذلك الاقتباس (الفرضية!) وفي ترسيخ الصورة النمطية لبُعد المرأة عن العقلانية فيوضح لنا مشكوراً بأن "اختبار شخص" يعني استفزازه ومهاجمته لمعرفة نقاط ضعفه، وينفي وجود "الحوار" المرتبط بالعقلانية: "لن تخوض معه حواراً صغيراً".

الخلاصة التي نصل إليها أن ذلك الاقتباس ليس مجرد فرضية وليس تعميماً، بل هو واقع، واقع يحدث كثيراً، واقع فيه النساء بالفعل يختبرن صبر الرجال وحسب، على عكس الرجال الذين يختبرون ويستكشفون الأفكار! واقع فيه النساء يختبرن الرجال عن طريق الاستفزاز المحض وليس عن طريق الحوار.

وهنا المشكلة في مثل هذا الكلام، لأن العبرة في مثل هذه الخطابات الفكرية (خاصةً تلك الموجهة نحو جمهور عام) ليست فقط في "ماذا" قلت ولكنها أيضاً في "كيف" قلته. فإذا نظرنا للماذا سنرى أن بيترسون قال فرضية وقال تعميم وقال لا نعلم، ولكن إذا نظرنا للكيف سنرى أن بيترسون نفى الفرضية ونفى التعميم ونفي عدم العلم! إذا قلنا بأن هذا تناقض فهذا ينفي الكلام كله طبعاً، أو يتوقف بنا عند كلمة "هذا تعميمٌ مبالغٌ فيه"!

ولكن بيترسون يستمر في الكلام ولا يتوقف، والملايين الذين يتابعونه ويسمعونه ويشاهدون محاضراته ولقاءاته ويشترون كتبه يستمرون أيضاً في الاستماع إليه وتصديق أنه "مفكر" يعطيهم حقائق غير متهافتة، حقائق يحاول إثباتها بإسقاطها على الواقع، فيقول بأن "الحراك الراديكالي تجاه المساواة"، الذي يكثر فيه الاحتجاج واستغلال العار، فيه كمية ضخمة من هذا الاستفزاز، وبالتالي انتقلنا من واقع أن المرأة تختبر الرجل مجرد فرضية وتعميم إلى أن المرأة تختبر الرجل بالاستفزاز إلى أن ذلك يحدث كثيراً إلى أن ذلك أمر واقع نراه في الحراك المعاصر المطالب بالمساواة! وأصبحت الطرفة حقيقة! هذه في الحقيقة معجزة تليق برجل يراه الكثير من أتباعه الأوفياء على أنه نبي!

وبصراحة لا أظن أنه من اللازم أن نوضح أن مثل هذه التعميمات عن المرأة (بُعدها عن الفكر والعقل، استغلالها للعاطفة والاستفزاز، لومها للرجال واستغلال العار والتشهير) هي أمور كنا نظن أن الدهر قد عفى عليها، ولكن يبدو أن الدهر مازال يحبسها في عالمنا! وفي هذا السياق يمكننا أيضاً أن نُحلل استخدام بيترسون لكلمات "احتجاج" و"استغلال العار" و"حراك راديكالي" لتوضيح موقفه العدائي، أو على الأقل "الناقد" لحراك المرأة في هذه الأيام، خاصةً مثلاً كلمة "استغلال العار" the use of shame، وهو كلام نسمعه كثيراً مع حراك MeToo حيث سلب الرجال دور الضحية من المرأة وصاروا يتهمونها الآن بأنها تهاجمهم بالعار وبالتشهير! ربما كانت هناك حالات فيها مبالغات، ربما كانت هناك حالات تجني كيدية، ولكن الغالبية العظمى لحالات "التشهير" كانت بالفعل حالات تحرش واعتداءات جنسية! فهل نسينا، أيا إخوتي الرجال، أننا نحن من ابتكرنا "استغلال العار" وجعلناه سلاحاً ضد المرأة وقيداً وزنزانة لها؟! أي امرأة تعطس في مدى رؤيتنا نقول فوراً أنها عاهرة ومنحلة ومرغت شرف العائلة في التراب! ولكن اليوم يتحول جوردان بيترسون المسكين (الذي يدعو للفحولة والرجولة والذكورة والاستقامة والاعتدال في المشي والسيطرة على الحياة واشرب بيريل واسترجل) يتحول إلى رجل مسكين مُحاصر من قبل نساء متوحشات في "حراك راديكالي" يحملن المشاعل والأسلحة ويردن "استغلال العار" للإطاحة به من عرش العقل والأفكار والموضوعية! إيه يا دنيا، الواحد ممكن يكتب معلقات على كل كلمة يقولها!

ومن جديد نعود ونذكر: العبرة ليست فقط في ماذا قال، ولكن أيضاً في كيف قاله: ما المحصلة النهائية التي وصلت إلى المستمع، ما الفكرة التي برزت للسطح: أن هذا تعميم غير عقلاني وغير منطقي وغير علمي وغير مؤيد بدليل يجب أن لا نأخذه بجدية؟ أم أن هذه حقيقة واقعية تحدث كثيراً وموجودة على أرض الواقع؟ وهنا، هنا عزيزي المشاهد (هي مدونة ولا تلفزيون!) هنا بالضبط الخطورة في هذا الكلام المنفلت لشخص يدعي أنه مفكر وفيلسوف وعالم نفس... وأقول يدعي. لماذا؟ لأن! (يعني شوف الفقرات القادمة، آسف نكتة عبيطة).

السادومازوخية وهاري بوتر

بعد أن أكد لنا جوردان بيترسون أن النساء لا يختبرن الفكر ولكن يختبرن الصبر (هع!)، وبعد أن أخبرنا أن هذا الاستفزاز جزء كبير من حراك المرأة، فهو ينطلق مرة أخرى نحو آفاقٍ جديدة من السطحية والتضليل ويدخل بنا بدون مقدمات إلى عالم السادومازوخية الجنسية (يالهوي!)، ويستشهد مثل أي عالم وباحث موضوعي دقيق وعلمي بأن رواية 50 درجةً من الرمادي (50 Shades of Grey) التي تتناول موضوع الخضوع الجنسي هي أسرع الروايات الجنسية مبيعاً في تاريخ العالم وقد ظهرت في وقت كثرت فيه مطالبة المرأة بالمساواة! بيترسون يعود للأشياء الطريفة من جديد ويصف هذا الأمر بأنه مضحكٌ جداً، مضحكٌ لدرجةٍ مجنونة! وبعد أن تنهدتُ الآن تنهيدةً كبيرة، دعوني أشير إلى عدة مشاكل هنا.

أولاً، لا أعلم بالضبط ما هي صلة كون رواية 50 درجة من الرمادي الأسرع مبيعاً في تاريخ الروايات الجنسية، هل يظن أن القراءة يلزم منها وجود رغبة حقيقية؟ يا دي النيلة، أنا أقرأ الكثير من القصص المصورة عن باتمان، لكنني لم أرغب يوماً في أن أرتدي البطانية على ظهري وأخرج للشارع لمكافحة الجريمة! يعني، رغبتُ كثيراً في أن أكون مليارديراً مثل باتمان، لكن هذا موضوع منفصل... روايات هاري بوتر الأكثر مبيعاً والأسرع مبيعاً في التاريخ، فهل كل من يقرأون هذه الروايات يرغبون في صميمهم أن يكونوا سحرة؟ كلهم يحركون عصياً صغيرة في أوقات فراغهم رغبةً في تحريك الأشياء وإلقاء تعويذات سحرية؟ أنا بصراحة لا أعلم أين يذهب اللاوعي بهذه الكتب الخيالية الأكثر مبيعاً، لكن جوردان بيترسون يبدو أنه يظن أن هنالك ملايين القراء يريدون حل ألغاز في لوحات ليوناردو دافنشي (شفرة دافنشي)، وملايين غيرهم يريدون أن يكونوا سحرة (هاري بوتر)، وملايين غيرهم يريدون أن يأخذوا خاتماً سحرياً ويلقوه في بركان (سيد الخواتم)، وملايين آخرين يريدون أن يكونوا مصاصي دماء (توايلايت)، وبالطبع ملايين الملايين ممن يريدون ممارسة الجنس بسادومازوخية! المشكلة هنا أن بيترسون يتحدث عن اللاوعي، يعني هذه أمور "دفينة" موجودة في داخلك، يعني أنا لما قرأت سيد الخواتم فإن هذا انعكاس لرغبة دفينة في داخلي في أن أكون هوبيت قصير بأقدام كبيرة وأذهب في رحلة تبهدل دين أمي لكي أرمي خاتماً في بركان (ولكي ينقطع أحد أصابعي في الطريق وأُطعن مليون مرة)!

ثانياً، بيرتسون يربط رواج روايات 50 درجة من الرمادي الأسرع مبيعاً في تاريخ الروايات الجنسية بحراك المرأة المطالب بالمساواة، فكما سيوضح لاحقاً: الفكرة أنك كلما طالبت بالمساواة بشكل متطرف فإن لاوعيك سوف ينجذب أكثر وأكثر نحو الخضوع. النساء بالتالي كن يطالبن بالمساواة لدرجة أنه حين ظهرت روايات 50 درجة من الرمادي كانت كل النساء قد تحولن إلى مازوخيات يحلمن بالخضوع لهيمنة الرجال. ولا أعلم من أين أبدأ هنا... هل نبدأ من تاريخ السادومازوخية في الأدب؟ نعود به للماركيز دو ساد والقرن الثامن عشر؟ هل نصدم جوردان بيترسون ونقول له أن الذي سُميت المازوخية على اسمه، أي الذي اشتهر الخضوع عند ممارسة الجنس بسبب روايته "فينوس ذات الفراء"، كان رجلاً اسمه مازوخ؟ أظن الأفضل أن لا نخبره ذلك خوفاً على "رجولته"، معقول رجل يخضع لامرأة؟! كنا نظن طبيعة الخضوع صفة أنثوية وليست ذكورية! هل نذكر لبيترسون كتب وروايات أخرى جنسية فيها سادومازوخية مثل "قصة أو"؟ للأسف ليست لدي معلومات كثيرة حول هذا النوع من الأدب، وأقول ذلك بكل صراحة، يعني أنا أأسف بكل صراحة أني لا أمتلك معلومات كثيرة حوله! ولكن بحثاً بسيطاً في غوغل سيكشف لنا أنه لم يخلُ عقدٌ واحد من بداية القرن العشرين إلى اليوم من عدد من الروايات الجنسية التي موضوعها السادومازوخية، بل سنجد أيضاً قوائماً بالأفلام (وهنا أقصد الأفلام السينمائية، وليس الإباحية المحضة!) من الستينات إلى اليوم التي تمثل السادومازوخية عنصراً أساسياً في قصتها. فهل كل تلك الروايات والأفلام كانت تظهر وتنتشر وتشتهر بسبب مطالبات المرأة بالمساواة؟ قد نقول كل ما سبق ليس بشهرة رواية 50 درجة من الرمادي، ولكن "قصة أو" مثلاً مشهورة جداً، كتاب الماركيز دو ساد وكتاب مازوخ أيضاً مشهوران وعمرهما قرون! ورواية 50 درجة من الرمادي بدأ الناس ينسونها في هذا العصر السريع.

كلام غير منطقي، ويعتمد على تعميمات مبالغ فيها (هاه! سخرية!)، وتطبيقات عجيبة لنظريات علم نفس انتقدها كثيرون وأبطلها غيرهم. لماذا مثلاً لا توجد أعمال جنسية تكون المرأة فيها خاضعة مرتبطة ببداية الحراك النسوي في القرن التاسع عشر حين ظهرت أعمال فيها الرجل هو الخاضع؟! لماذا لا نجد أعمالاً عن الخضوع مرتبطة بالحراك النسوي الذي طالب بالحق في التصويت في بدايات القرن العشرين؟ لماذا لا نجد أعمالاً عن الخضوع مرتبطة بالموجة النسوية الثانية في الستينات ومطالبات تعديل القوانين وغيرها؟ ويمكننا أن نتساءل أيضاً: ماذا عن الرجال الذين يهيمنون على النساء، هل يذهب لاوعيهم نحو الرغبة في الخضوع؟ بيترسون يقول في مواقع أخرى بأن الرجال في طبيعتهم الهيمنة والنظام، فهل يعني هذا أن في طبيعتهم الخضوع الجنسي؟ مع ذياع شهرة بيترسون الآن، هل نتوقع ظهور رواية 50 درجة من الرمادي يكون فيها الرجل خاضعاً؟! أصلاً، والله أعلم، أظن أن سلسلة روايات 50 درجة من الرمادي فيها هيمنة وخضوع من الجنسين! بلا شك هناك ترابط نفسي بين الهيمنة والخضوع في الواقع وفي غرفة النوم، هذه الأشياء تؤثر على الناس، لا ننكر ذلك، ولكنها تؤثر بدرجات متفاوتة وتدخل في هذا التأثير عوامل كثيرة لم يمر علي يوماً أنها ببساطة أن تطالب بشيء ففوراً تصير لديك رغبة في عكسه! لا أظن أنه من المعقول أن يصل تأثير هذه الأمور إلى درجة سلب الإرادة الحرة للبشر! بمجرد مطالبتك بالمساواة تصبح فوراً راغباً في أن تخضع للهيمنة على مستوى غريزي! على مستوى اللاوعي كما يقول بيترسون! يعني كلما ذهبت مرأة للمطالبة باللامساواة يذهب لاوعيها لشراء نسخة من رواية 50 درجة من الرمادي! تلقائياً وبدون أي تحكم في الأفكار أو الرغبات أو أي شيء! يحدث الأمر فوراً! أظن أنني أطلت الحديث هنا، وأرجو أن يكون ما كتبته مفهوماً، ولو أني أشك في ذلك... لا أعرف حتى لماذا عنونت هذه الفقرة "السادومازوخية وهاري بوتر"، من يعلم ربما هاري بوتر مازوخي! ننتقل للفضيحة التالية...

التحالف المجنون

بيترسون بالطبع لا يتوقف عند ربط رواية 50 درجة من الرمادي بحراك المرأة وربط الخضوع بالمساواة ومساواة الإنسان بالحيوان الذي تحكمه غرائزه ولاوعيه (وربما من هنا تأتي كل مقارنات بيترسون للبشر بالحيوانات!)، ولكنه يقفز قفزة واسعة وجداً ويبرهن على فرضيته المبالغ في تعميمها السابقة بذكر "التحالف المجنون بين النسويات والإسلاميين المتطرفين"... بيترسون يقول أنه لا يفهم هذا التحالف، وبصراحة أظن أننا كلنا لا نفهمه يا جوردان، يعني، كلمة "المجنون" لها صلة بكلامنا هنا لكن ليس كما تتوقع أنت!

أظن أن جوردان بيترسون يحتاج لتعلم العربية، ثم يدخل إلى تويتر ليرى تحالف "النسويات والإسلاميين المتطرفين" الذي يتحدث عنه! سمن على عسل يا سي جوردان! سمن على عسل! تعميم عجيب لا أعرف من أين جاء به! الصدام والخلافات بين الإسلاميين والنسويات من أبرز الخلافات الفكرية/الاجتماعية في الساحة، ناهيك عن "الإسلاميين المتطرفين"! وهذا يقودني لنقطة مهمة: بيترسون، مثله مثل الكثير من اليمينيين في الغرب، لا يميزون بين المسلم العلماني أو المسلم المحافظ أو الإسلامي الفكري أو الإسلامي السياسي أو الإسلامي المتطرف! كلهم سواء في أعينهم! ويدل على ذلك أيضاً أنه حين تدخلت مُحاوِرة بيترسون وذكرت له أن ميول المسلمين للتصويت لليبراليين يؤكد كلامه، لم ينفِ بيترسون ذلك التعميم على كل المسلمين ولم يوضح كلامه ولم يفعل شيئاً! ويدل على ذلك أيضاً أنه حين أراد تقديم مثال على تحالف "النسويات مع الإسلاميين المتطرفين" ذكر السعودية دون توضيح هل يقصد العادات الاجتماعية أو الفقهاء أو الحكومة أو أن أكثر من 30 مليون إنسان في السعودية كلهم يمثلون "الإسلاميين المتطرفين"! بيترسون لا يوضح شيئاً، بل يتكلم بتعميماته الخاطئة ومعلوماته الناقصة وكأنه يقول الحقيقة! وإذا نظرنا للساحة السياسية الأمريكية والغربية بصفة عامة فسنرى بالفعل وجود تحالف بين المسلمين وبين الليبراليين/اليساريين، وهذا التحالف سببه بكل بساطة أن المسلمين في الغرب أصبحوا فئة مضطهدة مع صعود الأحزاب اليمينة التي تشيطن المسلمين وتريد طردهم وانتهاك حقوقهم، إنه تحالفٌ سياسي، ولكنه ليس تحالفاً بين ليبراليين/يساريين وإسلاميين متطرفين!

تعميمات بيترسون هذه لا تكشف فقط تحامله ضد النسويات وضد المسلمين، ولكنها تكشف أيضاً جهله، فهو يقول أنه يستغرب لماذا لا تتظاهر النسويات بشكل دائم ضد السعودية، وهنا لن يحتاج بيترسون لتعلم العربية ليدخل إلى تويتر ويقرأ! فلا أظن أنه يوجد حراك نسوي في العالم كله لا يعرف بوضع النساء في السعودية ولا يتضامن مع الحراك النسوي في السعودية (الذي يُعد من أنشط الحراكات الاجتماعية في السعودية خاصةً على وسائل التواصل الاجتماعي) والذي يتلقى دعماً وتأييداً من نسويات الغرب، وسواءً أكنا نتفق أو نختلف مع هذا الحراك أو نثق أو نشكك في نياته فالعبرة الآن تكمن في أن بيترسون يتحدث بجهل عجيب بهذه القضايا، ولكنه يتحدث وكأنه يقول حقائق! دون توضيح حدود أو نطاق لكلامه، دون ذكر استثناءات، دون حتى أن يقول كعادته بأنه لا يعلم أو ليس لديه اطلاع!

بيترسون من جديد يعامل الأمر على أنه حقيقة، أن هناك تحالفاً موجوداً، تحالفاً بلا أي سبب عقلاني. لا أعرف كيف يتجرأ على الحديث عن العقلانية وهو يروج لكلام بدون أدلة وبدون معايير موضوعية وبدون أي منطق! بل إن المنطق جمع حقائبه وهاجر في هذه المرحلة من الحديث! لأن بيترسون يحاول أن يجد سبباً عقلانياً فيقول بأن النسويات يردن تدمير الغرب وربما لهذا السبب هن في تحالف مع "الإسلاميين المتطرفين" وعدو عدوي صديقي! من جديد نلاحظ هنا خطورة كلامه! كلامه هذا يعني أولاً: تأكيد وهم أن الحضارة الغربية عال العال ويجب الحفاظ عليها والدفاع عليها ضد كل من وما يهددها، دون أي اعتراف بكل العيوب الكامنة في داخل هذه الحضارة التي بُنيت على العنصرية والإبادة والعبودية والإمبريالية، ثانياً: النسويات يردن تدمير الغرب، وبالتالي فإن أي شيء مرتبط بهن مثل حرية المرأة والتساوي في الفرص السياسية والاقتصادية والاجتماعية هي كلها مبادئ لا تتوافق مع المبادئ الرائعة البديعة التي تقوم عليها حضارة الغرب! ثالثاً: أن المسلمين، وليس فقط الإسلاميين المتطرفين، لا، المسلمين مثل شعب السعودية ومثل مسلمي الغرب الذين يصوتون لليبراليين، يريدون تدمير الغرب! ما هذا الهراء يا جماعة!

هذا الهراء هو ما يظن بيترسون أنه يمثل "السبب الوحيد العقلاني"! ولكن حتى هذا السبب "العقلاني" يتخلى عنه بيترسون فوراً ويعود ويؤكد بأنه لن يتخلى عن توجسه تجاه هذا التحالف لأنه "بينما تتزايد هذه المطالبة بالمساواة وبالقضاء على الذكورية سيتكون هناك شوق في اللاوعي للنقيض التام لذلك"، يعود هنا للكلام الفرويدي القديم حول الغرائز الجنسية وتحكم اللاوعي بنا، فأي نسوية تطالب بالمساواة سوف تتشوق بالضرورة للخضوع للهيمنة الذكورية! وسوف تخرج في النهار للمشي في مظاهرات نسوية وتنادي بالمساواة وتعود لبيتها في الليل لتنام وتحلم بفارس عربي من السعودية يأتي إلى بيتها فوق جمل في الأغلب ويهيمن عليها! وهذا الكلام يقرره بيترسون وكأنه حقيقة علمية موضوعية مثبتة لا جدال فيها: "كلما صرخت أكثر مطالباً بالمساواة كلما ازداد إعجاب لاوعيك بالهيمنة".

التحالف المجنون هنا ليس بين النسويات والإسلاميين المتطرفين، فهذا تحالف لا وجود له، التحالف المجنون هنا هو محاولة جوردان بيترسون الجمع بين ادعاء العقلانية والمنطق وبين الهراء الذي يقوله!

المفكر الزائف

أظن أن كل ما سبق يكفي (ويزيد! آسف، قيل لي كثيراً أن نفسي طويل!) فيما يخص تحليل كلام بيترسون وتحليل تأثيره. يجب أن نتذكر دائماً أن العبرة ليست في ماذا قال وحسب، ولكن أيضاً في كيف قال ذلك: أن تقول لي هذه فرضية وتعميم ثم تتحدث عنها وكأنها حقيقة ثابتة ينفي كلياً أي وزن لكلمة "فرضية" أو "تعميم"!

وهنا تظهر مشكلة أساسية في بيترسون، مشكلة التضليل، وهي مشكلة ذكرتُ سابقاً أنه "يتعمدها"، وأقول أنه يتعمدها بكل ثقة لأن هذا تضليل يوفر مخرجاً لبيترسون. دعونا نطبق ذلك عملياً.

إذا قلت لبيترسون كيف تقول النساء يختبرن الرجال بالاستفزاز، سيقول لك: قلت أنها فرضية وأنها تعميم مبالغ فيه.

إذا قلت لبيترسون كيف تزعم بدون أي ربط منطقي بأن رواية 50 درجة من الرمادي مرتبطة بحراك المرأة، سيقول لك: قلت أني لا أؤمن بذلك.

إذا قلت له كيف تدعي بدون أي دليل أو فهم أو ربط منطقي بأن النسويات متحالفات مع الإسلاميين المتطرفين، سيقول لك: قلت أنني لا أؤمن بذلك وأني فقط أقول لكم إلى أين وصلت بتفكيري وأني أحاول أن أحل لغزاً.

إذا قلنا له كيف تتحدث عن نظريات ضعيفة عن اللاوعي دون أي أدلة علمية، سيقول لك: أنا عقليتي عقلية تحليل نفسي ولدي فرويد في داخلي.

إلخ إلخ إلخ...

وهكذا، كل هذا الكلام الذي يبدو موضوعياً ليست له أي قيمة حقيقية إلا توفير مخرج لبيترسون حين يجد نفسه في مأزق، مأزق صنعه بنفسه بكلامه! هذا زيف فكري بل وجُبن فكري أيضاً!

قد نقول هذه موضوعية، نقول كلا، أن تقول هذه فرضية وهذا تعميم ثم تتحدث عن الأمر وكأنه أمر واقع حقيقي فهذا تناقض منطقي وضعف علمي ينسف كل كلامك.

قد نقول هذه صراحة ونزاهة وهو أسلوبه عفوي، نقول كلا، إذا كان يؤمن بالفعل بأنه مفكر حقيقي يريد نشر أفكاره فهل من النزاهة أن ينشر أفكاراً غير مكتملة؟ هل تشفع العفوية لترويجه أفكاراً خطيرة وسلبية بدعوى أنه فقط يفكر؟ هل من مسؤولية المفكر والمثقف أن ينشر كلاماً لا يؤمن به ويترك لنفسه مخرجاً يسمح له بالانسحاب في حالات الطوارئ؟ أين الأمانة الفكرية والعلمية في بلورة الأفكار والتأكد من صحتها وسلامتها وتحصينها؟ أين الالتزام والمسؤولية في تحديد موقف والالتزام به؟

هذه مجرد حيل وخداع، أبواب خروج للطوارئ، عذر للهروب، تمويه وتضليل... زيف وسطحية وادعاء وجُبن أيضاً.

وهو أسلوب يستخدمه بيترسون كثيراً، في أكثر من مقابلة ومحاضرة له يقول كلاماً مثل "أنا لستُ خبيراً..." أو "ليس لدي اطلاعٌ كافٍ..." أو "أنا لستُ في موقف يسمح لي بالحديث..." أو حتى يقول بتواضع كاذب "أنا جاهل..." ثم ينطلق وينفلت ويتكلم ولا على باله! فهل من الموضوعية والعقلانية والنزاهة والفكر والتحضر والتطور وكل شيء آخر يدعي أنه يمثله أن تُقر بجهلك ثم تعطي رأيك وكأنه حقيقة مطلقة؟

ولذلك، من جديد، وللمرة الألف بعد المليون، نعود ونكرر: العبرة ليست فقط في ماذا قال، ولكن أيضاً في كيف قاله.

آسف على المشوار الطويل

في الختام، لا بد أن أجيب على سؤال مهم: هل تكفي ثلاث دقائق فقط للحكم على الرجل؟! بالطبع لا تكفي، ولكنها نموذج مُصغَّر لطريقة تفكير بيترسون، لنوع الأدلة الضعيفة (أو المعدومة!) التي يستدل بها، لنظريات علم النفس الأثرية التي يجادل بها، لسطحية أسسه الفكرية، ولكلامه الخطير وحيله الرخيصة للتضليل المتعمد، والأثر الذي ينتج عن مثل هذا الكلام. وللمرة المليون بعد المليار ماذا وكيف! حفظتوها؟ المـــاذا والكــــيف!

وأقول أنها "نموذج مصغر" لأني قرأت بعض مقالات وكتابات بيترسون، وشاهدت بعض محاضراته ولقاءاته، بالإضافة إلى قراءة عدد من المقالات التي تنتقده والمقالات التي تمدحه، وأستطيع القول بكل ثقة بأن هذا نموذج يمثل أعراضاً متكررة بكثرة في أعمال وكلام بيترسون: اللاوعي (وأفكار علم النفس القديمة، مثل أفكار كارل يونغ) من ركائز فكر بيترسون، هذا اللاوعي هو الذي يسمح له بكل بساطة بأن يقارن البشر، بعقولهم وأفكارهم وأخلاقهم ومفاهيمهم وحرية إرادتهم وفلسفتهم وكل شيء، بالحيوانات وغرائزها؛ موقف بيترسون العدائي تجاه النسوية معروف ومشهور؛ اعتماده على أدلة علمية ضعيفة (مثلاً، في حسابه على تويتر كثيراً ما يضع دراسات ضعيفة وغير معتمدة، أو مثلاً حديثه الشهير في كتابه عن الكركند ومقارنته البيولوجية والاجتماعية بالبشر، وهو حديث فنده علماء أحياء كثيرون من بينهم علماء أحياء بحرية أنكروا كلامه عن حياة وعيش الكركند!)، هذا عدا عن أنه كثيراً ما يتحدث دون أي دليل أو ربما يبني كلامه على اقتباس طريف هنا أو رسوم بينوكيو هناك! يقيم روابط واهية وضعيفة بين الأمور دون أدلة حقيقية، فهو مثلاً يصدر تعميمات تاريخية خاطئة حول الفكر والفلسفة والتقاليد الغربية، بل إنه يزعم أن مابعدالحداثة هي مجرد ماركسية متنكرة والمشكلة أن مابعدالحداثة تدعو لنقض المراكز المتجاوزة بينما الماركسية تدعو لإقامة مركز متجاوز! لا أعلم كيف يدعي المعرفة وهو لا ينتبه لتناقضات واضحة مثل هذه في كلامه! وكثيراً ما يقوده التطرف في كلامه إلى تكوين أفكار تكاد تكون نظريات مؤامرة فهو يدعي أن "الماركسيين الثقافيين" يسيطرون على الجامعات الأمريكية، ومر بنا سابقاً كلامه حول مؤامرة تحالف النسويات مع الإسلاميين المتطرفين؛ وتناقضه مع نفسه كثير في كلامه، فهو مثلاً يقول بأن المرء عليه أن يتحدث بوضوح ودقة ولكنه من أكثر الناس الذين يستدركون ويصححون كلامهم ويفسرونه (وكما سبق وأشرت فهو يملأ كلامه بمخارج الطوارئ!)، ويقول على الرجل أن "يسترجل" وأن يستقوي وأن يسيطر على نفسه وعلى حياته وأفكاره، ولكنه في نفس الوقت يقول الرجل لا يفهم كيف يتعامل مع المرأة ويجب أن لا يختلطوا ويا لهوي إذا وضعت المرأة بعض أحمر الشفاه فهذه إشارة من لاوعيها إلى لاوعي الرجل بأنها تريد ممارسة الجنس وهنا لا فائدة لأي عقل أو فكر أو سيطرة على حياتك! ولكي لا يأتي معجبو بيترسون ليقولوا أين دليلك على هذا الكلام، فأنا بلا شك أبالغ بسخرية، ولكن  كل ما سبق مثل مراجعه الفكرية ومقارناته الفكرية ونظريات مؤامرته وكلامه عن استقواء الشخص وسيطرته على حياته وعن الاختلاط وعن المعنى اللاواعي لتبرج النساء كله موجود وإحضار الدليل سهل! وإن قلنا بأن بيترسون هنا مجرد "ناقل" لهذا الكلام الذي قاله كثيرون قبله فالسؤال الذي يطرح نفسه: ألم ينتبه إلى أنه ينقل كلاماً متناقضاً؟ وألم ينتبه إلى أن الكثير من الأفكار التي يروج لها عليها نقد كثير مثل كلامه النفسي عن اللاوعي وتحكمه بالإنسان؟ فالمشكلة تبقى حاضرة لأن بيترسون مازال يُروج هذه البضاعة المشكوك فيها والمتناقضة، حتى وإن لم تكن من صنع يديه! وأخيراً لدينا حيل وألاعيب بيترسون في التضليل المتعمد، مخارج الطوارئ التي يضعها لنفسها: هذا تعميم، لا أؤمن بذلك، هذه فرضية، ليس لدي اطلاع كافٍ، إلخ إلخ إلخ هي حيل يمارسها كثيراً لدرجة مثيرة للحنق! وبرافو عليك أيها القارئ الشاطر لأني بالفعل كنت سأقول من جديد: مــــاذا وكــــيف!

ولذلك، ثلاث دقائق لا تكفي للحكم عليه، ولكنها نموذج مصغر يعطي صورة عن تجربة أكبر.

وربما يكون هناك سؤال آخر قد يستحق التوقف عنده: حتى إن أقررنا بوجود بعض الأخطاء في كلامه هل يعني هذا أن نتخلى عنه وعن كل ما قاله حتى وإن كان في بعض ما يقوله صحة وفائدة؟ شخصياً أريد أن أقول دعونا ننسى جوردان بيترسون تماماً، ولكن، لكي نحاول الالتزام ببعض الموضوعية، فمشكلتي الأساسية مع بيترسون هي شهرته الكبرى التي لا يستحقها والتي أرى أننا يجب أن نحاربها لعدة أسباب:

السبب الأول أني شخصياً أرى أن أخطاء بيترسون أكثر من إصاباته، وهنا أستذكر كلمة الحافظ الذهبي التي تعجبني عن الحجاج (السفاح الذي كثيراً ما يحاول الناس الاستشهاد بحسناته للدفاع عنه!)، حيث قال الذهبي بأن الحجاج له حسنات غرقت في بحر سيئاته! فأنا أيضاً أرى أن حسنات جوردان بيترسون غرقت في بحر سيئاته وهي حالياً تسبح في القاع مع الكركند!

السبب الثاني أن شهرة بيترسون تضعه في موضع "سلطة فكرية" وبالتالي تسمح له بترويج أفكار متناقضة وضعيفة وغير مؤيدة بدليل يتلقاها المستمع دون تدقيق فيها لثقته في هذا المفكر والأستاذ الجامعي الخبير. من أمثلة ذلك مثلاً ريتشارد دوكنز، أبرز "الملاحدة الجدد". دوكنز عالم أحياء له مكانته في مجاله، وقد بنى شهرته على ذلك، وانطلقت شهرته تخترق فضاءات الخلافات بين المؤمنين والملحدين وصار دوكنز من أبرز رموز هذه الصراعات الفكرية. ولكن الحقيقة أن دوكنز حين يدخل عالم الجدال المنطقي والفلسفة والحديث عن الواقع والحقيقة ووجود الله والديانات فهو يرتكب أخطاء شنيعة لدرجة أن بعض الفلاسفة والعلماء الملحدين انتقدوه على أخطائه هذه! البروفيسور مايكل روز، أستاذ فلسفة ملحد له مؤلفات تدافع عن الإلحاد وله كذلك مناظرات وجدالات مع مؤمنين، انتقد دوكنز بشدة وتحدث بحنق شديد حول تدخل دوكنز في مجالات الفلسفة دون أي فهم لمواقف الفلاسفة الدينيين ومصطلحاتهم، ووصف دوكنز بأنه يتعامل مع هذه المواقف الفلسفية بنفس مستوى طالب سنة أولى فلسفة! روز طالَب دوكنز وغيره من الملحدين بأن يلتزموا ببعض النزاهة الفكرية ويدرسوا مواقف خصومهم ويفهموها قبل أن يتسرعوا بجهل في نقدها. ومع ذلك، فإن شهرة دوكنز تطغى على جهله الديني/الفلسفي هذا، وتنتشر أفكاره، ويصير دوكنز بطلاً من أبطال الفكر الإلحادي! نفس الشيء يحدث مع بيترسون، حيث يقتبس الناس أفكاره الضعيفة والسيئة ويسبقونها بقول أن هذه "أفكار أستاذ علم النفس البارز الدكتور جوردان بيترسون" مثلاً، أو "أحد أبرز المفكرين الغربيين" أو ما نحو ذلك من أوصاف لا تتعلق بصميم كلام بيترسون وهل هو سليم أم باطل ولكنها تُغطي كل شيء بشهرة بيترسون. وهنا خطورة الشهرة التي تسمح بترويج كل الكلام دون تدقيق وتمحيص يفزر السليم من الخاطئ.

السبب الثالث، المرتبط نسبياً بالسبب السابق، هو أن الكثير من كلام بيترسون المنطقي (والبدهي) يستخدمه أحياناً كمدخل لكلام هدام. فهو حين يقول للناس رتبوا غرفكم واهتموا ببيوتكم (ويندهش الجميع من هذه النصيحة وكأنهم لم يسمعوها من أمهاتهم طيلة حياتهم!) نراه على أنه يقول أن المرء عليه الاهتمام بشؤونه الشخصية أولاً، وهذا كلام جميل، ولكنه يجعل ذلك مدخلاً ليقول للناس أن المشكلة ليست في العالم! العالم الذي قد يقمع حرياتك وينتهك حقوقك ويؤسس المجتمعات على أسس مادية استهلاكية تُسلِّع البشر وتدمر حيواتهم بريء من أي تهمة، والمشكلة فيك أنت وحدك! لذلك خليك في غرفتك ولم جواربك من تحت السرير واسترجل واجعل من نفسك شخصاً خارقاً همه النجاح الفردي وتحقيق السعادة المادية الفردية! أو على الأقل هذا ما ينتج من كلامه، نعود من جديد لقاعدة "ماذا" و"كيف"! ومن جديد هذه مشكلة كبيرة حين لا ننتبه إلى هذا التضليل: يعطيك كلاماً منطقياً وعقلانياً كمدخل، ثم ينطلق نحو كلام مُدمِّر وسلبي! هذا التطبيق العملي لقول "دس السم في العسل"!

السبب الرابع، أن جوردان بيترسون رجل خطير. خطير من ناحية أن كلامه يروج لمفاهيم وأفكار ضارة، ومن ناحية أخرى لأنه يروج للفكر السطحي الزائف. أنت حين تسمعه لن تظن فقط بأن النساء بطبيعتهن يرغبن في الخضوع للرجل ولكنك ستظن أيضاً أن الدليل المنطقي العلمي لذلك يكمن في رواية 50 درجة من الرمادي! ستظن بأن اقتباساً طريفاً يكفي للتمييز ضد المرأة، بأن التعميم عادي، بأن الكلام المطلق اليقيني المبني على خرافات أو نظريات قديمة عن اللاوعي كلام علمي موثق بالدليل. لقد استغرقتني كتابة هذه المقالة ساعات وساعات ومراجعات طويلة وأتعبت أحد الأصدقاء في مراجعتها معي (شكراً مولانا!)، وربما ستستغرق قراءتها 30-40 دقيقة، وهذه المفارقة، ساعات وساعات كاتبة وأكثر من نصف ساعة قراءة في مقابل 3 دقائق كلام، توضح مدى خطورة انتشار مثل هذه الأفكار التي يحتاج تفكيكها وتوضيح عيوبها لمجهود أطول بكثير مما يحتاج الاستماع لها والانبهار بكلام الفيلسوف الدكتور! ولذلك أرى أن جوردان بيترسون تجب مواجهته ووضعه في مكانه المناسب، دون منحه هذه الشهرة والقداسة التي تنسحب على كلامه كله. هذا السبب شبيه قليلاً بالسبب الأول، أن سيئاته أكثر من حسناته، لكنه أيضاً يختلف قليلاً لأنه يمس فكرة تمكين مثل هؤلاء المفكرين الزائفين من أن يصبحوا مشاهير ومؤثرين ويوصفوا بأنهم "أشهر مفكر معاصر في الغرب"!

جوردان بيترسون يذكرني كثيراً بجاك دريدا (الفيلسوف ما بعدالحداثي الذي يكرهه بيرتسون!) فدريدا من المشهور عنه أنه كان يستدرك كلامه كثيراً، فحين يوجه له نقد، كان يقول بأن الناقد لم يفهمه ويوضح كلامه توضيحاً يؤدي في النهاية إلى عكس كلام دريدا! ويُقال أن ميشيل فوكو (الفيسلوف مابعدالحداثي الآخر الذي يكرهه بيرتسون) قد وصف أسلوب دريدا هذا بأنه "إرهاب فكري"! يكتب بغموض وإذا انتقده أحدٌّ ما يقول له أنت لم تفهمني! فهكذا يتردد الجميع بسبب رهبة الاتهام بعدم الفهم والجهل! وبيترسون يذكرني أيضاً بأشخاص آخرين، مثل صامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما من جماعة الحضارة الغربية بلغت قمة التحضر والتطور وهي الكل في الكل وأن الإسلام يريد تدمير الغرب وما نحو ذلك من كلام، وهو كلام ينتقده كثيرون من عقود ولا داعي للخوض فيه. ولكن بيترسون يُذكرني أكثر ما يذكرني ببرنارد لويس! المستشرق الكبير والمؤرخ وخبير الشرق الأوسط والإسلام (هاه!). كتابات لويس مليئة هي الأخرى بالمعلومات الناقصة، بالتفسيرات المتحاملة الخاطئة، بالتضليل المتعمد بالموضوعية والنزاهة العلمية، بما يصفه كثيرون بأنه "خفة يد" في تمرير أفكار خطيرة وسلبية تحت غطاء العقلانية والموضوعية (ووصف "خفة اليد" هذا يستخدمه كثيرون لوصف ما يفعله بيترسون أيضاً). إدوارد سعيد من أبرز من تصدوا للويس وكشفوا العيوب والبطلان والخطورة في كلامه، وكان لويس يفقد أعصابه ويقول كلاماً مثل أنه لا يجدر بأحد أن ينسب دوافعاً للآخرين! يعني لا تقل لي ما نيتي وما قصدي! ولهذا شدد إدوارد سعيد على فكرة أن العبرة ليست فقط في "ماذا" تقول ولكنها أيضاً في "كيف" تقوله (وهذا مصدر هذه القاعدة التي صدعتك بها عزيزي القارئ!)، لأن شخصاً مثل بيترسون أو مثل لويس يستطيع أن يقول الكثير من الهراء والكذب ثم يرش فوقه قليلاً من الكلام عن الموضوعية وحقيقة تاريخية هنا أو هناك ويوهم القارئ أو المستمع بأن كلامه كله موضوعي وموثق بالدليل. ولمن لا يثق بأن كلام هؤلاء فيه خطورة، ولا يحتاج لمثل كل هذا التحليل والتركيز على كل كلمة وكيفية قولها، يمكنه ببساطة أن يرى كيف وصل برنارد لويس وتلاميذه (مثل فؤاد عجمي) وصامويل هنتنغتون وفرانسيس فوكوياما وغيرهم من "المفكرين" الزائفين لمناصب استشارية كبرى تؤثر على سياسيات الدول، ويمكنه أن يرى كيف تُباع ملايين الكتب وتُعقد المحاضرات وتُحجز المسارح بالآلاف وتُشاهد مقاطع الفيديو بالملايين على الإنترنت لأشخاص مثل بيترسون – وتأثير ذلك الاجتماعي والسياسي لا داعي لمناقشته.


وهذا كل ما هنالك (أقول ذلك وكأنني كتبت صفحة ونص!)... لا أعلم إن كنتُ سأنشر هذه التدوينة، الأمر مخيف بصراحة! بيترسون من أشهر الناس في العالم حالياً ويُوجه له نقد كثير في كل مكان، ومع ذلك معجبوه دائماً ينصدمون! وكأن هذه أول مرة يرون هفوةً أو خطأً عند شيخهم الجليل! ويهجمون للدفاع عن بيترسون بحماسة غريبة. وبصفة عامة عند نقد أي شخص لديه معجبون فلا بد أن يتفهم المرء شعور "المعجب" بالإهانة أو الأذى، نقدك لمن يُعجبه هو بطريقةٍ ما نقدٌ له، ونقد لأفكاره ومشاعره وما يربطه بالشخص الذي يعجبه. للأسف لا مفر من ذلك عند نقد شخصية مشهورة مثل بيترسون، ومع ذلك، يمكن في النهاية اعتبار هذا النقد مجرد رأي شخصي، وهو كذلك في الحقيقة، رأي شخصي لا يُلزم أحداً، وهو في كل الحالات يبقى رأياً شخصياً حول كلام قاله جوردان بيترسون، ولا يمس أفكار أو مشاعر أو تجربة معجبي بيترسون الشخصية. كل ما في الأمر أني رأيت وجود ضعف وبطلان في كلام بيترسون، والأهم من ذلك أنني لمستُ خطورة كلامه، ولذلك فقد شعرتُ بأن هذا كلامٌ كان يجب علي أن أقوله، وهذا كل ما هنالك...


مارس 2019

هناك تعليقان (2):

  1. هذا حرفيا اللي اسمو مجهود بدون فائدة ، اوكي خلاص منشورك ظهر ف قوقل بسبب ذكرك لشخص يفوق مستواك الفكري هذيانك المثير للشفقة

    ردحذف