الثلاثاء، 23 أغسطس 2022

العودة إلى النفس: عن إعادة القراءة والحبّ واستئناف الحياة

العودة من أجل المواساة

"ونفسُ المُحبِّ متخلّصةٌ عالِمة بمكانِ ما كان يُشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدةٌ إليه، باحثةٌ عنه، مشتهيةٌ لملاقاته، جاذبةٌ له لو أمكنها كالمغنطيس والحديد."

ابن حزم

"ألا ليت عيني قد رأت من رآكم"

مجنون ليلى

سافرت زوجتي منذ مدّة. أواسي نفسي في غيابها بأشياء كثيرة: المكالمات الطويلة والصور الكثيرة والنوم والعمل والأصدقاء والقراءة، القراءة كثيرًا. أحاول استحضار سارة بالقراءة، أُقرّبها عبر هذا البُعد. أقرأ كتبها وأتتبع أثر تخطيطها وتعليقاتها في الهوامش، تعجبني أفكارها وأضحك معها (في غيابها) على تعليقاتها الساخرة. أقرأ ما مدحته وما تحبّه. أكملتُ روايةً كنتُ قد بدأتها وتركتها قبل أن أعرف سارة، عدتُ لها لأنّ سارة أخبرتني أنّها فيما مضى قد قرأتها وأعجبتها (في إحدى فقرات الرواية تُوصف مشاعر وأفكار إحدى الشخصيّات الرئيسيّة التي وجدتْ الحبّ، ينطبق الوصف عليَّ حين وجدتُ الحبّ مع سارة: "لم تعتقد يومًا أنها جديرة بأن يُحبّها أحد. ولكنها الآن تعيش حياةً جديدةً هذه لحظتها الأولى، وحتّى بعد مرور سنواتٍ عديدة ستظلُّ تقول في نفسها: نعم، تلك كانت بداية حياتي."). أقرأ أعمال أحد شعرائها المفضّلين ("أنتِ غائبة. أنا غائبٌ. والأشياء غائبة أيضًا. إذ يعجز العالم أن يكون في غيابكِ."). وأقرأ شعرًا أبحث عن صورتها فيه وأُعلّم صفحاته لأقرأ لها منه ("أبحث عن ذكراك. / أتسلل بمصباحٍ إلى بيوتٍ فارغةٍ لأسرق صورتكِ / رغم أنّني مُتيقّنٌ مما سأجده").

أواسي نفسي بمحاولة عبور المسافات نحو سارة بالقراءة. ثمّة قراءات أخرى تتخلّل قراءات الشوق والمواساة: ما أقرأه لبحثٍ حول مقالةٍ ما، ما أقرأه في ازدحام القطار متّجهًا إلى العمل في الصباح، ما أقرأه في عصر نهاية الأسبوع الخامل، ما أقراه عند محاولة النوم. قراءات لها أهدافٌ ودوافع متعدّدة، بحث، توصيات، ملء الساعات، ولكنّني أدرك الآن أن كلّ قراءة تصير قراءة مواساة في غياب سارة. قد لا تكون قراءة مواساة مباشرة، كتلك التي أقتفي فيها أثر سارة أو أبحث عنها فيها، ولكنّ حتّى هذه المواساة العَرَضيّة فيها إعانةٌ على الصبر (نحاول صبرًا ومواساةً أو نموتُ شوقًا فنعذرا!). وقد دفعني هذا الإدراك إلى التفكير في ممارسة قرائيّة أراها منذ زمنٍ بعيد قراءة مواساة، وقد لجأتُ إليها بطبيعة الحال في هذا الغياب: إعادة القراءة.

قرأتُ رواية "اختفاء" لهشام مطر منذ بضع سنوات. قرأتُ أعماله متأخّرًا، والتأخّر هنا هو بالنسبة إلى تاريخ صدورها، أما بالنسبة إلى حاجتي لها وقدرتي على احتواء ما قد تمنحه لي، فقد قرأتها في الوقت المناسب تمامًا، فإذن لا غرابة أنّني صرتُ عاشقًا لأعمال هشام مطر أحاول قراءة كلّ ما كتبه (وأظنني قريبٌ من ذلك، لولا بعض مقالاته القديمة المفلتة من بين يدي، ولكنني وراءها والزمن طويل!). صار هشام مطر من كتّابي المفضّلين على الإطلاق، وهذه ملحوظةٌ مهمّة لأن هذا يعني لي – من بين ما يعنيه – أنني أستطيع قراءة أعماله في أي وقت، حتّى في فترات الاكتئاب الشديد أو الشوق الشديد، حين نفقد القدرة على التركيز وتتضاءل أهمية كلّ شيء في مواجهة ما نمرّ به من كربٍ يتمركز وسط حياتنا ضخمًا ملقيًا بظلالٍ ضخمةٍ مثله تحجب عنا كلّ شيء. عندي – ولله الحمد – مجموعةٌ صغيرةٌ من هؤلاء الكتّاب والكاتبات والكتب، لا يشفي حضورهم من الاكتئاب مثلًا أو يُعوّضني عن غياب حبيبتي، ولكنه يواسي، يُعين على الصبر والتجلّد في حين يُخفق آخرون وتُخفق أمورٌ كثيرة.

ومع هذا الارتباط العميق، تتكوّن مع تلك المجموعة من الكتب ومؤلّفيها ومؤلّفاتها علاقة، شيءٌ لعلّه يشبه الحبَّ، حيث يصير الكتاب مصدر راحة ومؤانسة ومواساة، يصير مساحة أمانٍ وأُلفة، فتكون في العودة إلى هذا الكتاب المؤازر عودةٌ إلى كلّ ما أحببناه فيه أوّل مرّة وكلّ ما نحبّه في مؤلّفه أو مؤلّفته. يشبه ذلك الحبّ، أليس كذلك؟ أعود لمن أحبّ لأنني أعلم أنها مصدر راحة ومؤانسة ومواساة، أنجذب إلى كلّ ما أحببته وأحبّه فيها وأقصد إلى المساحة الآمنة التي يخلقها حضورها، باحثًا عن أمانها المألوف.

وهكذا، أعدتُ قراءة رواية "اختفاء" بحثًا عن المواساة.

 

السبت، 13 أغسطس 2022

عن الأدب الليبيّ أو عن حيرتي قارئًا للأدب أو عن نقد النقد: هل ثمّة أمل في جوائز الأدب العربيّة؟


عمّاذا نكتب حين نكتب عن القراءة؟ سؤال "كتابة إبداعيّة"، أليس كذلك؟ أعني أنّ تعدّد سبل الإجابة عليه لن يجعل أيّا من تلك الإجابات إجابةً خاطئة، قد تكون الإجابات عمليّة أو علميّة، قد تكون شخصيّة، فلسفيّة، سياسيّة، قد تكون كلّ ذلك، ولا شيء مما سبق، قد تكون واجبَ إنشاءٍ أو بحثًا تفكيكيًّا أو روايةً أو مقالةً عن روايةٍ. أظنني أستطيع الزعم بأننا نكتب أوّلًا عن تجربتنا الشخصيّة، أو بعبارات أخرى عن كيف قرأنا وما قادتنا إليه قراءتنا. هذه بسيطة. لكنّ السؤالَ يصير عندها: ماذا نختار من هذه التجربة لنكتبه؟ ولماذا؟ أعرف أنني قلت "السؤال يصير" ثم أردفْتُه بسؤالين، لكن – ولأكُن صريحًا – ستتكاثر الأسئلة فلا داعي للتدقيق.


عن القضيّة؟

ربّما اخترنا أكثر ما أثارنا؟ ثم نكتبه لأسباب كثيرة لعلّ أقلها إثارةً للجدل رغبتنا في مشاركة الآخرين. ربّما. ولعلّني لهذا السبب حين قرأتُ "خبز على طاولة الخال ميلاد" لمحمد النعّاس شعرتُ أوّل الأمر أنني أريد الكتابة عن قضيّة الرواية المحوريّة: المعايير الاجتماعيّة للرجولة (أو ما أُشير إليه كثيرًا بوصفه قضيّة جندريّة).  وأظنّ أنّني يجب أن أعترف هنا أنني تأثّرت بشيءٍ من خارج الرواية: بالحملة التي شُنّت عليها (وعلى مؤلّفها وقُرّائها وقارئاتها) حين أُعلِنَ عن حيازتها الجائزة العالميّة للرواية العربيّة. أثارت قضيّة الرواية تحفّظات كثيرين فور ظهور النتيجة، لا سيّما بعد إشادة لجنة الجائزة بتناول الرواية لقضيّة تعريف الرجولة والمعايير الاجتماعية المقبولة وتحدّي الرواية لها، فبدأت مواقع التواصل تتداول صورًا لصفحات أو سطورٍ من الرواية رأى بعض الناس – مثلما اعتدنا مع نصوصٍ مُشابِهة – أنّها تنشرُ الرذيلة وتخالفُ الآداب العامّة وتتعدّى على الذاتِ الإلهيّة وتشوّهُ صورة ليبيا والليبيّين إلى آخر ذلك من كلام مُعاد (حدث الشيء ذاته مع أنطولوجيا "شمس على نوافذ مغلقة" منذ بضع سنوات). قد تكونُ الحملة  هدأتْ الآن، أو كالعادة مرّت مثل أي "ترند" آخر على مواقع التواصل، لكنّ آثارها الواقعيّة تجاوزتْ العالمَ الافتراضيّ، فوزارة الثقافة الليبيّة التي هنأت الكاتب محمد النعّاس على ترشيحه ثم باركت له "بأصدق التهاني" حين حَصَدَ الجائزة، مدّعيةً أنّ هذا الفوز يدعمُ "مكانة الكتاب والكتّاب الليبييّن في الخارج ويثري الإنتاج الثقافي الليبيّ ويُعرّف به على نطاقٍ أوسع"، سرعان ما رضخت للهبّة الشعبيّة الليبيّة فأصدرت بيانًا جديدًا تزعم فيه أنّ الرواية لم تُحل إلى إدارة المطبوعات و"لم تتحصّل على الموافقة المطلوبة وفق القوانين النافذة، أو الإذن بالطباعة أو النشر أو التداول".

استفزّني ذلك أكثر من هجوم الناس ابتداءً وتبرُّئِهِم من الرواية وكاتبها. ورغم أنّ موضوع كتابتي لم يكن متّضحًا لديّ تمامًا، كان الاستفزاز والإثارة حاضِرَيْن بدورهما. أردتُ إذن أنْ أكتب عن تناول الكاتب محمد النعّاس في الرواية لمعايير الرجولة.

الخميس، 29 يوليو 2021

عن العرفان: قراءة في كتاب "مدخلٌ جانبيٌّ إلى البيت" لأمل السعيدي

 




ماذا أريد من القراءة؟ لا أعلم بالضبط. أحسبني قرأتُ ما يكفي لتصير القراءة جزءًا مهمًّا من حياتي، ولذلك لا أعلم إن كنتُ أستطيع أن أُعدّد ما أريده منها. لعلّ الأمر يشبه الحبّ بطريقةٍ ما؛ لا أعلم ماذا أريد من الحبّ لأنني أريد كلّ شيءٍ من الحبّ! أريد كلّ كلامه، وأريد كلّ صمته. أريد من الحبّ كلّ نقاشاته الجادّة التي تنتهي بسخريتنا من "برجوازيتنا الثقافيّة"، وأريد منه كلّ مزاحه وتفاهته التي تنتهي بقول أحدنا باستسلام "الله غالب عليا، علقت!". أريد من الحبّ ضعفي وهشاشتي ومواساة حبيبتي لي، وأريد منه قوّتي وثباتي ومؤازرتي لها، أريد أن أقول "اربطي قلبكِ إلى قلبي" وسط العاصفة وبعد العاصفة. أريد ما فيه من خوف "أنت مراسي غربتي، ولازم أخاف"، وأريد كلّ ما فيه من يقين "لستِ التي اخترتها / ولكنكِ الوحيدة الحتميّة". لقد أحببتُ أعظم امرأة في العالم، ولذلك أريد منها، من الحبّ كلّ شيء؛ فلا أستطيع أن أرتّب "كلّ شيء" في قائمةٍ متّسقة أو أُعدّده في فقرةٍ شاعريّة عاطفيّة. أريد كلّ شيء من الحبّ ومنها.

ربّما في هذا المثال توضيحٌ لتساؤل ماذا أريد من القراءة؟

هذه ليست كتابة عن الحبّ والقراءة –، إنّها محاولة للكتابة عن كتاب "مدخلٌ جانبيٌّ إلى البيت" لأمل السعيدي، الكتاب الذي طرحتُ على نفسي سؤال "ماذا أريد من القراءة؟" كثيرًا أثناء قراءته؛ لأنّه منحني الكثير مما أريده من القراءة.

أرجو أن يُسمح لي بانعطافٍ آخر قبل الحديث عن الكتاب: كلنا نعرف تلك التجربة في القراءة حين نرى أنفسنا في النصّ الذي نقرأه. في مقابلة مع الكاتب هشام مطر، ضمن فعاليات مهرجان لاهور الأدبي لهذه السنة، تحدّث هشام عن هذه التجربة قائلًا إنها قد تكون أقوى تجربة في القراءة وأكثرها تأثيرًا، ووصفها بأنها تلك اللحظة التي نجد فيها أنفسنا أو نتعثّر فيها بأنفسنا فجأة في عالمٍ كنا نظن أنه مختلفٌ عن عالمنا، حين نقرأ عن لحظةٍ حميميّة كنا نظنها خاصةً بنا ثم نجدها قد كُشفت على يديّ تلك الكاتبة أو ذاك الكاتب. لعلّنا نستطيع تسمية هذه التجربة "الألفة". ثمّة مؤانسة في تجربةٍ تؤلّف بين شخصين من عالمين مختلفين وبحياتين مختلفتين (مثلًا امرأةٌ عُمانية ورجلٌ ليبيّ)، عن طريق كشف لحظات وأفكار ومشاعر خلناها خاصّةً بنا، بوحدتنا. لذلك أظن أن الكثير منا يتفق مع هشام مطر في أن هذه الألفة، هي بالفعل من أقوى وأعمق تجارب القراءة. لعلّ هذه الألفة هي من "الكثير" الذي أريده من القراءة، ولقد وجدتُها في كتاب أمل.

يُنسب لسي. إس. لويس قوله إننا نقرأ لنعرف أننا لسنا وحيدين في هذا العالم. كثيرًا ما قرأتُ بدافع هذه المقولة، محاولًا دفع الوحدة وتبديد الوحشة (قبل أن يغالبهما الحبّ). أذكر أنني وصلتني نسخةٌ من "شفرة دفنشي" بعد صدورها بفترة قصيرة، ولم أتحمس أبدًا لقراءتها. أعرتُ نسختي لخمسة أشخاص قرأوها قبلي! وفي يومٍ من الأيام كنتُ أشاهد تقريرًا عن الكتاب في الأخبار، ذُكر فيه انتشار الكتاب بين ملايين القرّاء والقارئات. حينها فقط قرأتُ الكتاب، لكي أعرف أنني لستُ وحيدًا في هذا العالم. لا أظن أن الأستاذ لويس كان يقصد إحصائيات المبيعات والقراءة، ولكن معليش هذه مجرد دراما شخص كان يعاني بشدّة من الوحدة، فمشّيها يا عمّ كلايف. لعلّ ما يقصده لويس هو ما تحدّث عنه هشام وما تشعر به قارئات كثيرات ويشعر به قرّاء كثر: تلك الألفة التي تواسينا بواقع أننا لا نخوض ما نخوضه وحدنا. إنها ألفةٌ وجدتها كثيرًا في كتاب أمل، ألفةٌ تعرفها أمل جيدًا: "الأدب لم يدفعني لما أنا عليه الآن، بل كان طريقتي في التعرف على أسماء الأشياء، لطالما كنت ضعيفة، ولم أعرف أن للحزن مفردات عديدة، تستطيع في كل مرة أن تذيب المسافة بيني وبين العالم." نتعلّم أسماء الأشياء، ليس بوحيٍ يُؤكّد تفرّدنا ووحدتنا في هذا التفرّد، ولكن بتضامنٍ يُبدّد تلك الوحدة: لقد اختبر آخرون كُثر الحزن مثلنا، وها هم يعلموننا أسماء الحزن. إنها بالفعل أُلفة تضامن ومواساة: "لدي تقدير كبير للعزلة، وإيمان بها، لا على سبيل التعفف من محاولات الآخرين، بل لأنني لا أرى فيهم أكثر مما أراه في نفسي، فلا أتخيل حالًا غير التعب، وبأنني لستُ وحيدة على هذه الضفة فكل الناس معي، حتى وإن بدا عليهم ما يخالف ذلك. كل الناس متعبون." كلّ الناس متعبون، وكلّ الناس متضامنون في ذلك، وكم هي رحمةٌ جميلة أن تُكتب كتبٌ فيها هذه الألفة لتبدّد وحدتنا، كتبٌ مثل كتاب أمل بالنسبة لي.

 

أعود للكتاب، ولا أعرف من أين أبدأ...

لقد اختبرتُ الغربة كثيرًا، بدأت في وسط مدينتي وبين أهلي، عشتُ في ثلاثة بيوت مختلفة في بنغازي، بين عائلتين، دون انتماءٍ حقيقيٍّ لأهلٍ أو جيرانٍ أو أصدقاء.  يتولّد لدى المرء منا شعورٌ غريبٌ بالانفصال، بالانفكاك والتخلخل الدائم، شعورٌ وصفته أمل: "وليست لدي غرفة واحدة في كل بلادي، لي أماكن مؤقتة عديدة، لي انتقال مستمر، وليس لديّ أبدًا نفسي." الغربة التي تبدأ في "الوطن" تلازمنا طويلًا. تتشكّل في داخلنا على هيئة تناقضٍ غريب: نرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوطن، بالبيت، بأوّل أرضٍ مسّ جلدَنا ترابُها، ومع ذلك ننفصل عن كلّ شيء رغم حضورنا فيه. في نصوص "مدخلٌ جانبيٌّ إلى البيت" تفيض عُمانيّة أمل، تفاصيل بيت العائلة والطفولة، تفاصيل القرية، مسقط، والطرق الواصلة بين كلّ تلك البيوت والأوطان، ولكن تحضر الغربة بقوّةٍ أيضًا، ليس فقط في السفر (تحضر الكويت بحبّ في الكتاب)، ولكن حتّى في الغرف، في البيوت والطرق والمقاهي وستائر الشقق المسدلة والجدران الفارغة إلا من قصيدة. إنّه ذلك التناقض الغريب، الانتماء والانفكاك، الرحيل والرسوخ، وما بينهما من تردّد: "لم أخرج من تراب القرية، وفي يدي أصابعها، أما لغتي فهي ذلك التردد في كل شيء يتعلق بها..." نرتبط بكلّ ذلك "رغمًا عن [غربتنا] الكبيرة فيه" (باقتباس كلمات أمل بتصرّف).

ثم – ربّما بتبرّمٍ من كآبتي الدائمة – قرّر القدر أن يُذيقني مرارة الغربة خارج بنغازي. عشتُ تقريبًا في خمسة بيوت أخرى خارج ليبيا، دون حساب الأماكن التي قضيتُ فيها أشهرًا أثناء النزوح أو التنقّل. عشتُ خمس سنواتٍ في شقةٍ صغيرة (بالأحرى غرفة). وحين جاء وقت مغادرتها، لم أشعر بشيء تجاهها، لدرجة أنّني صُدمت، ذكّرت نفسي بكلّ ما عانيته وحيدًا في هذه الغرفة، كلّ ليالي السهر والدراسة والعمل والاكتئاب، وحتّى لحظات السعادة. لم أشعر بشيء، يترسّخ الشعور بأن كلّ الأماكن مؤقّتة، وربّما هو هذا الشعور الذي يُحكم ارتباطنا بأماكن حياتنا الأولى، بيت الطفولة ووطن الطفولة، الأماكن الأولى التي لم نعرف أنها كانت مؤقّتة.

قلت إن الغربة حين تبدأ في الوطن تلازمنا طويلًا. أظن أن "طويلًا" كلمة جيّدة، فهي ليست "دائمًا". الغربة حين ترتبط بالأماكن، بالخارج، أو بالأحرى حين تتجسّد في علاقتنا بالأماكن الموجودة في الخارج، قد تؤدّي إلى انفكاكٍ صارمٍ من الخارج وتحصّنٍ في الداخل، تحصّنٌ في علاقتنا بالآخرين الذين بمقدورهم جعل كلّ مكانٍ وطنًا بحضورهم. لا يقول العشاق عن بعضهم إنهم "وطن" من فراغ، لم تكتب أمل: "أحب أنك تقول لي أنتِ مكاني، ذلك أفضل كلام الحب" فقط لأجل الكتابة، وأعلم أنني لا أقول لحبيبتي يا "وطني وبيتي وأماني" من باب الغزل فحسب، ولكن من باب إدراك انتهاء الغربة بحضورها أيضًا، من باب العرفان بالنجاة، النجاة من الانفكاك المطلق وخطر الغربة الدائمة، النجاة التي تجسّدت في الداخل بعد أن ضاعت فرص تجسّدها في الخارج: "الحب الذي يمكن أن ننطوي تحت جناحه بينما كل شيء في الخارج سيحدث دائمًا ولن يرحل، لكننا في الداخل لدينا فرصة واحدة قبل أن نموت."

لا أعود للحديث عن الحبّ فقط لأنني أريد دائمًا أن أتحدّث عن حبيبتي، ولكنني أعود للحديث عن الحبّ لأن أمل كتبت عن الحبّ كثيرًا في كتابها، كتبت عنه كتابةً رائعة! كتابة أشعرتني بالألفة وأنا الذي عانيتُ من الوحدة والغربة ومشاكل الصحّة النفسيّة والاكتئاب، وفوق كلّ شيء أشعرتني بالألفة وأنا العاشق جدًّا. لقد كتبت أمل عن الحبّ بدقّةٍ صادقة لا يمكنني وصفها إلا بأنها الحقيقة:

 "فهمتُ أكثر لماذا كنتُ أتخلى عن الجميع منذ البداية، لدي طاقة واحدة للحب والشوق، كانت منذ ولدت مرصودة لأجلك وحد. كل شيء مر بي، ولا أريد أبدًا أن أبخس الناس حقهم أو أن أكتب عنهم كما لو كانوا موضوعات، لكنني الموضوع هنا، كل شيء مررتُ به كان تنويعات عن ما يعنيه أن لا تكون موجودًا في حياتي، وأريد بعنف الكلام الأول، أن أتحطم تحت جسدك، لا لأنني أريد الحب، أريدك أنت، لا أخاف تسميته بالحب، لا أخاف التناظر مع العالم، لكنني أنا وأنت سننجو."

ذلك الإدراك الذي يراودنا حين نجد الحبّ الوحيد الحتميّ، حين وجدتُ حبيبتي، إدراك أن كلّ شيءٍ قبلها كان تنويعاتٍ على غيابها، كلّ شيءٍ قبلها كان اغترابًا، كان انفصالًا عن العالم بانتظار وصولها، هي التي أوثقتُ نفسي بها متيقّنًا من أننا سننجو معًا. لقد كتبتُ على هوامش هذه الفقرة "الله" دهشةً وإعجابًا وعرفانًا بما كتبته أمل، بما عبّرت عنه، ما التقطته من مشاعر حميميّة رأيتُ فيها نفسي واحتفائي بالحبّ وبنجاة الحبّ وبكلّ طمع وطموح وحاجة ورغبة الحبّ. 

كلنا متعبون، والحبّ راحة، راحة نتمسّك بها حدّ أننا لا نخجل ولا نتردد من استجداء هذه الراحة:

"ما الذي أريده منك، قليلًا لينزاح عني هذا التعب الموغل في إبهامه، الذي يتوزع على جسدي كهالة تحيط به، قل شيئًا أرجوك، قل شيئًا، ولا تتركني، فيا إلهي "لماذا ستتركني وحيدًا لمرة أخرى؟"

 أظنّ أن من يعتاد على التخلّي، على الاغتراب، على سوء الفهم الذي كثيرًا ما يرافق الاكتئاب ومشاكل الصحّة النفسيّة، يصير طلب المساعدة عنده شيئًا يشبه المستحيل، ناهيك عن طلب القرب أو الحبّ. ولكن، على الأقل بالنسبة لي، تلاشت كلّ هذه التحفظات – أو العُقد – مع حبيبتي. لم أقل لأحد في حياتي قبلها "أحتاجك"، ومعها هي صار قولي "أحتاجكِ" مرادفًا لقول "أحبكِ"، أقولها بكلِ صراحةٍ وانكسارٍ ورغبةٍ وخوفٍ وثقة كلّما احتجتُ أن أقولها، كلّما احتجتها أكثر. يُغيّرنا الحبّ، يجعلنا – رغم ابتذال الكلمة، لكنها صحيحة – نحبّ أنفسنا أيضًا، ولا نتردد في طلب الحبّ والمساعدة والقُرب: "تعرفت عليك، ولم أواصل ما كنت أنوي القيام به، لا أقصد بأنك صرت موضوعًا، لكنني تغيرت فعلًا، ربما لم أعد بحاجة لتلك القسوة على نفسي، كما لو أنني غرقتُ في المحيط، وكل موجة كانت تبعدني عن ما كنت أعرفه...". مع كلّ هذا، مع كلّ هذا الخلاص وهذه النجاة وتغيير ما بأنفسنا بفضل الحبّ، كيف لا يصير الحبّ شبيهًا بذوبانٍ صوفيٍّ، نفرُّ إلى الحبيبة التي لا أين لها، الأنا الذائبة في ذاتها، الرحلة التي لا وجهة لها: "فأنا استويت والرحلة إليك شيئًا واحدًا بلا شك".

نعم، لقد شعرتُ بألفة العاشق عند قراءة كتاب أمل، وشعرتُ بالعرفان لكلّ ما عبّرت عنه بصراحةٍ وصدقٍ، كلّ ما قالته عن الحبّ دون تحرّجٍ من شطحاتٍ صوفيّة أو رغبات عاطفيّة أو حاجات القرب والجسد الحميميّة. نعم، نريد الحبّ والمحبوبّ والمحبوبةّ: "وأريد بعنف الكلام الأول، أن أتحطم تحت جسدك، لا لأنني أريد الحب، أريدك أنت، لا أخاف تسميته بالحب، لا أخاف التناظر مع العالم، لكنني أنا وأنت سننجو"، ونعم، الزمن يضيع في غياب المحبوبة والمحبوب: "كنت أحس بثقل اللحظة وهي تصبح مهدرة لأنه ليس معي"، ونعم، نتمسّك بكلِ التفاصيل البسيطة لمواجهة العالم: "تمنيت لو أنك نسيت ملاحظة صغيرة في صفحات الكتاب الذي أهديتني إياه، لو فكرت بأن توقيعك على الصفحة الأولى لن يكفي كل هذا الزمن الذي أحياه دونك..."، ونعم، سنتحدّى كلّ "جديّة" العالم في سبيل الحبّ:

"هل من التفاهة في شيء أن يقضي المرء نحبه بالحب، في الوقت الذي يموت فيه الناس لأسباب جدية أكثر، لا تفكر بهذه الفكرة، مكانها ثمة فراغٌ يستطيل، لو كنت مكانك لسارعت بالقول، إن جيمس بالدوين، الذي اعتبر مناضلًا ضد التمييز العنصري، كان قد كتب رواية صغيرة ومعذبة، اسمها غرفة جيوفاني، وقد كتب فيها "قلة من الناس تموت من الحب، لكن الكثرة تهلك وتفنى كل ساعة وفي أكثر الأماكن غرابة – بسبب فقدانه" وأنا أصدق بالدوين..."

قد لا يكون المقصود تحديدًا من الاقتباس السابق تحدّي نظرة العالم التي تُقلّل من شأن الحبّ، ولكن لا مفرّ من إساءة الفهم عند القراءة أو الترجمة وفق ما نعرفه ونرتبط به. حين قرأتُ هذه الفقرة، مقابلة التفاهة والجديّة والحبّ في الوسط بينهما، تذكرتُ فورًا كتاب By Grand Central Station I Sat Down and Wept لإليزابيث سمارت، تذكرتُ قولها في الكتاب "لماذا يجدر حتّى بعشرةٍ قرونٍ من أسى العالم أن تنتقص من حبّي؟ احتضنوا البذرة، احتضنوا البذرة حتّى وسط فمّ البركان!". إساءة فهم أو صحّة فهم، ليس الأمر مهمًّا فعلًا، فحديث أمل في نصوص الكتاب عن الحبّ، حديثها الصريح المحتاج المباشر المتحدّي، ذكّرني بتحدّي سمارت للعالم كلّه بحبّها، ومواجهتها لمن قالوا لها نحن لا نهتم بهذه الأشياء بسؤالها الحائر جدًّا "فمن أجل ماذا تعيشون إذن؟!"، سؤالٌ حائرٌ كما يجب أن يكون، قبل أن يكون استنكاريًّا، فمن أجل ماذا نعيش، نحن كل الناس المتعبين، إن لم نكن نعيش من أجل راحة الحب!

 

لم أعرف بالضبط من أين أبدأ، ولا أعرف بالضبط إلى أين أذهب الآن... هذه تقريبًا ثالث محاولاتي للكتابة عن كتاب أمل. المحاولة الأولى (بثلاث مسوّدات) كتبتُ فيها صفحات وصفحات عن نفسي... المحاولة الثانية اقتبستُ فيها تقريبًا نصف كتاب أمل! وهذه المحاولة الثالثة (الثالثة ثابتة؟)، حاولت أن أجمع فيها بين الاثنين. وأظن أن هذه المحاولات تدلّ على شيءٍ من المهمّ قوله عن كتاب أمل.

لقد جعلني الكتاب أشعر بالألفة حدّ أنني لم أستطع الامتناع عن الكتابة عن نفسي وعن مشاعري، جعلني أشعر بالألفة حدّ أنني احتجتُ إلى الاقتباس منه كثيرًا، لشدّة ما عبّر الكلام عني، لشدّة صدقه بالنسبة لي. هذا لم يكن ليحدث لو لم تكن أمل كاتبةً مبدعة. باستطاعة أي كاتبةٍ أو كاتب الكتابة عن تجربةٍ ما، ولكن الصعوبة التي تعرقل كثيرين هي معرفة كيفيّة كتابة التفاصيل الدقيقة التي تشحن التجربة بالصدق (حتّى لو كان النصّ متخيّلًا أو خليطًا من واقعٍ وخيال). وإن نجح هذا الكاتب أو تلك الكاتبة في التقاط التفاصيل الصادقة، فقد يفتقران إلى مهارة السرد التي تربط خيالًا بواقع بذكريات بمشاعر بتأمّلات وتنتج نصًّا متجانسًا. وإن تحقّق كلّ ما سبق، تبقى موهبة اللغة، دقّة الوصف، الكلمة المناسبة بالضبط لوصف شعورٍ ما أو شيءٍ ما، تلك الجمل المدهشة التي تفاجئنا وسط النصّ وتجعلنا نشعر أنها سقطت من قصيدةٍ ما أو أننا كنا نقرأ قصيدة دون أن ننتبه. هذه ليست كلّ عناصر الكتابة الجميلة طبعًا، لكنّها من بينها بلا شك، وهي بلا شك مما أريده أنا من القراءة، ومما منحه لي كتاب أمل بكثرة!

أظنّ أنّني لا أحتاج فعلًا للحديث عن دقّة وصدق وصف أمل للتجارب والأحداث والأشياء، اقتبستُ كثيرًا من كتابتها عن الغربة والحبّ، ولكنّني سأضيف لذلك بضعة أشياء قد أكون ذكرتها. عُمانيّة أمل حاضرةٌ بقوّة في الكتاب، وأظن أن هذا شيءٌ مهمٌّ جدًّا في هذا الكتاب، شيءٌ كنتُ قد أحببته في بعض كتاباتها التي قرأتها في الماضي، قبل أن أقرأ الكتاب. لا أعلم، لعلّه يعجبني لأنه تناقض الاغتراب، الارتباط بمكانٍ ما رغم كلّ الانفكاك عنه! ولعلّه يعجبني لواقعيته، مقارنةً بكثير من الكتابات المعاصرة لكُتّاب وكاتبات من عالمنا تكاد تخلو من أيّ ملامح، ربّما في محاولات لمنح النصوص سمة الألفة أو العالميّة؟ لا أعلم! ما أعلمه أن كتاب أمل نعرف فيه جيّدًا أن كاتبته عُمانيّة، ومع ذلك فأنا الليبيّ شعرتُ بألفةٍ كبيرة فيه. نعرف ثقافتها (العربية والأجنبيّة) والكتب التي تقرأها. نعرف أنها من جيلنا الذي لم يعد يتمشّى في أرجاء الغرفة محمومًا حين لا يستطيع النوم – كأبطال الروايات الروسيّة! –، بل صرنا نستلقي في الفراش ونتجوّل محمومين في تويتر وإنستاغرام! ملامح أمل واضحةٌ في سردها – سواءً كانت شخصيّة النصِّ أو كاتبته، في نصوصها الواقعيّة والمتخيّلة والمخلوطة. صدق الكتاب ووضوح ملامحه جعلاه أشدّ ألفةً وأكثر عالمية وأدعى للتماهي معه.

وأظن أن هذا سيقودني، من باب دقّة الوصف وصدق الملامح، إلى الحديث عن صراحة أمل في الكتاب. قلتُ ما يكفي عن صراحتها في الحديث عن الحبّ، ولكن هذا لن يوفي صراحتها في الكتاب قدرها. أمل صريحةٌ في حديثها عن الوطن، عن العائلة، عن الطفولة، عن الوحدة، عن الصحّة العقليّة. لعلّ حديثها عن الاكتئاب والعلاج وكلّ المشاعر المشوّشة والأفكار القاسية التي تراودنا، لعلّ هذا الحديث كان من أكثر ما تآلفتُ معه في الكتاب، بل وشعرتُ بالعرفان لأمل بسببه: ما زالت هذه الأمور تُهمّش، يُساء فهمها بقصد، يُقلّل من تأثيرها (منذ أيامٍ قليلة خضتُ حديثًا طويلًا مع أحد الأقارب أحاول أقناعه بضرورة العلاج النفسي والاهتمام بالصحّة العقليّة وبأن الاكتئاب والقلق والتوتر ليست مجرّد "زعل" أو "نرفزة"...). نعم، الاكتئاب يُرمسن أحيانًا، السوداويّة والأرق والحزن وصور أبيض وأسود وقصائد حزينة وأفلام نكديّة وإلخ. ولكن كلّ هذه الرمسنة لا تنفي حقائق ما نعانيه من الاكتئاب: "العالم الذي صار يحتفي بالكآبة، لكنها بالنسبة لي، حقيقتي التي لا أستطيع الفرار منها...". حقائق عبّرت عنها أمل كثيرًا في كتابها، بصراحةٍ صادقة، صراحة أعلم أنّها لا بدّ كانت مؤلمة في بعض الأحيان، ولذلك أشعر تجاهها بعرفانٍ كبير.

 وهذا يقودني إلى السرد. تنجح أمل في فعلٍ شيءٍ صعبٍ جدًّا في الكتابة: تكتب سردًا يبدأ بلحظةٍ راهنة، وينتقل إلى مشاعر، ويعود إلى ذكريات، ثم يعود إلى مشاعر، ويتوقف عند رسالة، ويتأمّل في اقتباس، ويُفكك فكرة، وطوال الوقت يحافظ على انسجامه واتّساقه. لا نضيع، لا ننسى، لا يزدحم النصّ أمامنا، ينساب كلّ شيء بمنطقيّة تامّة رغم كلّ مواضيعه المحمومة والمتاهيّة (حبّ، اكتئاب، ذكريات، علاقات عائليّة، اغتراب...). هذا شيءٌ صعبٌ جدًّا، صعب حدّ أن له وجهين اثنين فقط: فشلًا صاخبًا يعطينا نصًّا متشظيًّا غير متناسق، أو نجاحًا هادئًا لا ننتبه له بتاتًا لشدّة اتّساق النصّ. نجحت أمل في هذا الكتاب ذاك النجاح الهادئ الذي قد لا ننتبه له إلا إن فكّرنا مليًّا في كلّ ما يحتويه هذا النصّ أم ذاك، لندرك براعة هذا النسج.

ومع كلّ ما أُعطيته أمل من جوامع السرد، فقد أُعطيت معه جمال اللغة. أظن أن ما اقتبستُه في الأعلى من كتابتها عن الحبّ والغربة يكفي للدلالة على جمال لغتها: الدقّة التي تنتقي بها الكلمات، قدرتها على التقاط شعورٍ معيّن أو وصف شيءٍ ما، موسيقى الكلمة أو وزنها أو شعورها، لا أعلم، أحاول أن أُفكّك معنى "جمال اللغة" لكنّه شيءٌ صعب! الأمر أقرب إلى الإحساس منه إلى التفكيك والوصف والإشارة إلى شيء معين. إنه إحساس، إحساس لا نجده فقط في الفقرات أو الجمل الكبيرة المشحونة بالعاطفة أو الفكر (مثل ما سبق واقتبستُه)، ولكنه إحساسٌ نجده حتّى بين الأسطر، في جملٍ عابرة، وأوصافٍ سريعة: "وداعة كلّ شيءٍ من حولي"، "لديّ خوفٌ سحيق، عظامي فقدت أمانها"، "التكاثر المزمن لمشاعري"، "وسيل من انعدام الدفء يصطدم بالقصيدة الوحيدة في خلاء الجدار"، "أحس بسيولة الأشياء، وبأنها لن تتعافى"... وليس فقط الوصف، ثمّة شيءٌ في اختيار الكلمات، شيء لن أستطيع التعبير عنه دون اقتباس الكتاب كاملًا!

 

ربّما لم أعرف من أين أبدأ بالضبط، ولم أعرف إلى أين أذهب، ولكن أظن أنّني أعرف كيف سأختم: بالعرفان.

العرفان لأشياء كثيرة: لأنني قرأتُ الكتاب مع حبيبتي، لأن الكتاب أعادني للكتابة عن حبّي وعن حبيبتي، لأن الكتاب جعلني أكتب عن اغترابي واكتئابي (ولو باستحياء يتخفّى وراء كتاب أمل)، العرفان لأنني تعثّرت بنفسي في هذا الكتاب في عالم أمل المختلف عن عالمي، العرفان لأن أمل كشفت الكثير من اللحظات والمشاعر والأفكار الحميميّة التي كنت أظنها تخصني فوجدتها ومعها الألفة والتضامن، والعرفان على براعة السرد وجمال اللغة وصدق الكتاب. العرفان، إذن، لأن أمل السعيدي منحتني الكثير مما أريده من القراءة.

 

28 يوليو 2021

 


الأحد، 26 يوليو 2020

السعداء لا يكتبون



مررتُ على اقتباسٍ يقولُ إنّ السعداء لا يكتبون. وعندي مشكلة، أو مشكلتان، أو أكثر مع الفكرة!

أوّل ما استدعته ذاكرتي مقابلةً أجراها بلال فضل مع هشام مطر؛ لا أتذكّر تفاصيلها حرفيًّا، وأنا بصراحة أكسلُ من أن أعودَ إليها (ولكنّني لستُ أكسل من أن أُحضر رابطيْ المقابلة! رابط الجزء الأوّل، رابط الجزء الثاني). بعيدًا عن كسلي، وبالالتفات إلى ذاكرتي التي قد تكون أنشط من كسلي (بطبيعة الحال!)، فإنّني أتذكّر أنّ هشام مطر تحدّث عن اكتئابٍ يُصيبه حين لا يكتب، عن تناقصٍ في متعة الحياة وقيمة الوقت، وعن أنّه ليس مُحصّنًا ضدّ المشاعر السوداء. علّق بلال فضل قائلًا إن هذا أمرٌ مفهوم ومتوقّع نسبةً إلى الحياة التي عاشها هشام! ضحك الاثنان، ثم روى هشام قصةً طريفة عن شخصٍ التقى به. كان الشخص مُعجبًا بأعمال هشام وراغبًا في لقائه، ولكنهما حين التقيا أخيرًا وتحدّثا لفترةٍ من الزمن، كان في هيئة الشخص تشنّجٌ يشي بعلامة استفهام، كما يصفه هشام. فجأةً انفلت الشخص وقال له بصراحة إنّه توقّع أن يكون هشام شخصًا جادًّا ومتحفّظًا، فإذا به يلتقي بإنسانٍ طبيعيّ، رجلٍ يتحدّث بأريحية ويضحك!

هل لنا أن نلومَه على توقّعه ذاك؟ إن كان قد قرأ روايتي هشام "في بلاد الرجال" و"تشريح اختفاء"، فلا يُلام أبدًا على ما تشكّل في ذهنه من صورة كئيبةٍ وسوداويّة لمؤلّف تلك الروايتين المؤلمتين!

أمرٌ آخر خطر ببالي، يتعلّق بكاتبٍ آخر، شيخي تولستوي (كما توقعتم بالضبط!). لم أقابله شخصيًّا بالطبع، (أرجو من المشتغلين على ابتكار آلة للسفر عبر الزمن أن يُسرعوا قليلًا)، ولكنني تعرّفت على الشيخ بتدرّجٍ اعتيادي. بدأ شغفي به بقراءةٍ في أعماله الأدبيّة، ثم ما لبثتُ أن شُغفت بالأعمال الفكريّة أيضًا. كنتُ قد وقعتُ في الحب، ولكن صورة تولستوي عندي كانت صورةً افتراضية نمطيّة، كوّنتها كما كوّن ذلك الشخص صورته عن هشام مطر: تخيلتُ تولستوي شيخًا جليلًا جادًّا وكئيبًا. مُبدع هذه الأعمال العميقة، المُفكّر الجادّ الملتزم الناشط في قضاياه الفكريّة والاجتماعيّة، المُصلح الاجتماعي والواعظ الدينيي، كيف كان لي أن أتخيّله إلا وقورًا؟ الوقار بالمعنى المنقوص المعتاد، المعنى الذي يسلب من الرجال والنساء بعض صفاتهم الإنسانية (الضعف، الفكاهة، المتعة، السعادة، إلخ) مقابل صفات مُترفّعة. بعد ذلك، بعد وقوعي في الحبّ جدًّا، شرعتُ أقرأ أكثر في سيرة الشيخ. وصُدمت! نعم، لقد كان شيخًا وقورًا، مُصلحًا ملتزمًا بقضاياه، بل حتى مُفكّرًا وأديبًا مكتئبًا وحزينًا ويزعم أنّه لم يعرف السعادة يومًا في حياته (وهو زعمٌ رفض تشيخوف تصديقه، ربّما لرِقة قلبه ورِقة صداقته بتولستوي، بينما صدّقه غوركي المتشائم دون تشكيك). ولكنّني وجدتُ شيئًا آخر، بل أشياء أخرى، وجدتُ إنسانية تولستوي الكاملة: الأب الذي يلعب مع أطفاله، بل والذي يتآمر مع أطفاله في إعداد مقالب لضيوف المنزل؛ الزوج الذي يعاني مشاكل حادّة مع زوجته؛ الأب المُقرّب روحانيًا وفكريًّا من بناته؛ الشخصية الشهيرة الخجولة التي لا تحب المحافل والاحتفاء؛ الصديق الذي يتحدّث بأريحية وبألفاظٍ سوقية (يقول غوركي: حين كان تولستوي يتلفّظ بها، كانت تكتسب جمالًا عجيبًا!)؛ الصديق الذي يُمازح أصدقاءه وضيوفه ويحرجهم (غوركي راح ضحيّة مشاغبات وأسئلة مُحرجة!)؛ الناقد الساخر الذي يمزّق كتابًا رديئًا بجملةٍ واحدة؛ الشيخ الذي يُحبّ المشي والتجوال والذي يُصفّر مع الطيور في جولاته، أو يقفز ويلاحق أرنبًا بريًّا بمتعةٍ طفولية، أو يتوقّف ليتحدّث مع سحليةٍ تتشمّس في الطريق!

الصور التي نُكوّنها عادةً ما تكون محكومةً بمفاهيم تقليديّة لا شيء يُبرّرها سوى الجهل؛ وأعني هنا الجهل بالآخرين. هذا الجهلُ قد ينتجُ عن تقدير، مثل حال ذاك الشخص المعجب بهشام مطر، وحالي أنا مع تولستوي. وهذا التقدير قد يؤدي إلى صناعة صورة رومانسية مثاليّة (أي رمسنة أو رمنسة، مش مهم)، تغفلُ عن كثيرٍ من الصفات بينما تضخّم أخرى تتّسق مع الصورة النمطيّة تلك، مثل الجديّة والحزن والكآبة. وهكذا تصير السعادة والفكاهة والمتعة أشياء عابرة وتافهة، والأدهى من ذلك أنّها تصير أشياء غير معينةٍ على الخلق والإبداع؛ فالسعداء لا يكتبون!

وجودُ تجربة واحدة لا ينفي وجود تجارب أخرى، مثلما أنّ وجود صفة إنسانيّة واحدة لا ينفي وجود صفات إنسانيّة أخرى (وقار تولستوي لا ينفي فكاهته، وأسى كتابات هشام مطر لا ينفي المرح في شخصيّته). المشكلة في خلقِ صورٍ مُطلقة: صورة الكاتبة السوداوية المنعزلة، صورة الشاعر المتهوّر المكتئب، صورة الشيخ الوقور حدّ الملل، صورة الكاتب المُعذّب بماضيه أبد الدهر. الرمسنة تأليهٌ لصورٍ معيّنة تُلغي إمكانية وجود تجارب مختلفة.

تجربتي مختلفة (نعم، سأتحدّث عن نفسي). ثمة كُتاب وكاتبات وشاعرات وشعراء يكتبون ألمًا وحزنًا. تجربتي لا تنفي تجربة غيري، ولكنها قد تكشفُ اختزاليّة الرمسنة. أول خطوة لمواجهة التنميط هي الاعتراف باختلاف تجارب المكتئبين والمكتئبات. فلعلّنا نُميّز بين طريقتين في التعامل مع الاكتئاب: الخوض في الألم، أو الهروب من الألم. قد أكون ممن يهربون ويهربن بالكتابة. بعض تدويناتي على هذه المدوّنة تبدأ بالحديث عن الكآبة ومحاولاتي للهروب منها. وأعرف أنّ بعض التدوينات الأخرى كُتبت في أوقاتٍ صعبةٍ جدًّا من حياتي، فحتى إن لم أذكر فيها أنّني أفرّ فزعًا من الكآبة، فأنا أعرف أن هذا ما كنتُ أفعله. الفرار من الكآبة يجعلها "مكانًا"، يعني أنني كنتُ أفرّ إلى مكانٍ آخر، فما هو هذا المكان؟ لا بدّ أنّه السّعادة، أو ربّما النسيان المؤقّت. حجبٌ مؤقّتٌ للكآبة، لكنّه يسمح برؤية السّعادة التي كانت قبل ذلك محجوبة؛ ولكنّ الهاربين والهاربات إلى السّعادة لا يكتبون؟

الصور النمطيّة لا تتوقف عند تجاهل اختلاف التجارب، ولا عند التشكيك في تجاربنا الشخصية التي لا تطابق تلك الصور. مشاكلي كما ذكرتُ في البداية كثيرة! الصور النمطيّة لا بدّ أن يكون فيها تجاهلٌ للحالات النفسيّة التي نعيشها. إنّها تنتقي تجارب معيّنة وترمي بأخرى حتى تصل إلى نتيجة نمطيّة؛ نتيجة خاطئة في أغلب الأحيان، ولكنّها خفيفة ظريفة وسهلة الهضم: السعداء لا يكتبون.

فمن الذي يكتب؟ من ليس سعيدًا.
لماذا تكتب التي تكتب؟ لأنّها ليست سعيدة.
متى يكتب الرجال والنساء؟ حين لا يكونون ولا يكنّ سعداء وسعيدات.

هل تتضمّن هذه الإجابات الثلاث كلّ الاحتمالات الممكنة؟ لا، بالطبع. وكذلك إجابة أو قاعدة السعداء لا يكتبون لا تتضمّن كلّ الاحتمالات الممكنة. وهذا ما قد يدفعنا إلى قلب هذه القاعدة إلى سؤال، مثلما نفعل (أو يجدر بنا أن نفعل) مع كل المسلّمات التي نرمسنها ونتداولها دون تشكيك.

السعداء لا يكتبون؟
يمكننا الردّ على السؤال بطرح أسئلة أخرى: ماذا نفعل بكلّ النصوص التي كُتبت بسبب تجارب سعيدة؟ ماذا نفعل بكلّ الكُتّاب والكاتبات الذين يقولون إنّهم لا يشعرون بالسعادة إلّا حين يكتبون؟ لستُ مبدعًا أو كاتبًا على سنّ ورمح، ورغم أنّني أعاني من الكآبة، إلّا إنّني كتبتُ وأكتب وأنا سعيد. حين رحمني الله بالحبّ وأنقذني من الظلمات بنور حبيبتي، حين صرتُ سعيدًا حقًّا لأوّل مرّةٍ في حياتي؛ صرتُ أنشط، أكتب وأقرأ وأعمل أكثر. فكيف حدث هذا إن كان السعداء لا يكتبون؟

السعداء لا يكتبون؟
طريقةٌ أخرى للإجابة عن السؤال، ليس بطرح أسئلة، ولكن بإجابة طويلة فيها عشرون كلمة متشابهة: السعداء لا يكتبون ويكتبون، والسعيدات لا يكتبن ويكتبن، والمكتئبات يكتبن ولا يكتبن، والمكتئبون يكتبون ولا يكتبون. هذه ليست إجابة، صح؟ يعني، قلتُ فيها كلّ شيء، الجميع يفعلون ويفعلن ولا يفعلون ولا يفعلن في ذات الوقت! كيف؟! ببساطة لأن هذه إجابة تُوضّح عبثية السؤال، فنحن إن أردنا التحدّث عن "الجميع" فلا بدّ أن نتحدّث حقًّا عن الجميع، وهذا يعني أن نرمي في القمامة تلك الصور الرومانسية النمطيّة، التي تحاول اختزال "الجميع" في اقتباسٍ شاعريّ يتحدّث عن تجربةٍ واحدة.

صياغة أخرى للقاعدة: الجميع يعيشون ويعشن تجاربَ متنوّعة.

تحدٍّ أخير للسؤال العبثي: أنا سعيد، في قمّة السعادة، وكتبتُ هذا التدوينة. علّل!

26 -7- 2020

الاثنين، 8 يونيو 2020

"حياة كاملة" و"ستونر": الانتصار الهزيمة والدمار





قرأتُ في الفترة الماضية رواية حياة كاملة لروبرت زيتالر. بداية مملة جداً أليس كذلك؟ أهلاً، لقد فعلتُ شيئاً! حسناً، لعلي أحاول تحسين هذه البداية بذكر ما يحدث في الرواية. ما الذي يحدث في الرواية؟ لا شيء. أعني، تحدث فيها حياةٌ كاملة، ولكن لا شيء يحدث فعلاً. مازالت بداية مملة؟ نعم، مشكلة... حسناً، عرفت: قرأتُ منذ سنوات رواية ستونر.

لحظة، أسمعكَ تعترض أيها القارئ العزيز، ألم تبدأ بالحديث عن رواية حياة كاملة؟! هذا صحيح، بدأتُ بذكر حياة كاملة. وأسمعكِ توضحين الاعتراض أيتها القارئة العزيزة، فلماذا انتقلت فجأةً إلى رواية ستونر؟! سؤال جميل (وكأني أستاذ ثانوية لا يريد تحطيم معنويات تلاميذه)، والإجابة بسيطة: لأن إيجر ابن عم ستونر (من جديد وكأني أستاذ ثانوية لا يعرف الإجابة فيعطي إجابة أغمض من السؤال!). ولكن بعيداً عن التفاهة (آسف)، أندرياس إيجر بطل حياة كاملة هو بالفعل ابن عم ويليام ستونر بطل ستونر، على الأقل من حيث الأنساب الأدبية.

إيجر يكبر في مزرعة، يبلغ ويستقل، ينتقل بين عدة أعمال ووظائف، يتزوج، يحب ويفقد، يذهب إلى حرب لا يفهم أسبابها، يجد بيتاً، ويموت مسناً كبيراً منسياً وحيداً دون ندم في بيته. ستونر يكبر في مزرعة، يبلغ ويدخل الجامعة ويستقل، يدرس الأدب، يتعين في الجامعة، لا يذهب لحربٍ لا يفهم أسبابها، يتزوج، يحب ويفقد، يؤلف كتاباً، ويموت مسناً كبيراً منسياً وحيداً دون ندم وهو يتناول كتابه. فماذا يحدث بين البداية والنهاية؟ ما يحدث لإيجر وستونر متشابه: تحدث الحياة لهما. وهذا سبب ظهور ستونر من بين صفحات حياة إيجر بالنسبة لي: الحياة حدثت لهما، كلاهما لم يواجها الحياة، لم يصارعاها، لم يحقدا عليها، لم يندما، لم يفعلا شيئاً سوى قبول كل شيء والاستمرار في المضي قدماً نحو الموت الحتمي في أحد الأيام.

الاثنين، 30 ديسمبر 2019

ترجمة "وليمة متنقلة" لهيمنغواي: هل أشبعت القراء حقاً؟


في الفترة الماضية بدأت إحدى الصديقات قراءة كتاب "وليمة متنقلة – A Moveable Feast" لإرنست هيمنغواي. هذا الكتاب الصغير لديه مكانة خاصة في قلبي، وقصتي معه طويلة.. القراءة الأولى، القراءات اللاحقة، تطور أهمية الكتاب عندي، اختلاف تجارب القراءة، كمية الناس الذين أهديتهم الكتاب وصدعتهم به... إنه كتاب عزيزٌ غالٍ، ولذلك سعدتُ بقراءة الصديقة له، رغم أنها كانت – كما سيتضح – قراءةً تشوبها خيبة الأمل. ورغم ما أحاط بقراءة الصديقة من مشاكل، فقد كتبتْ عنه بعض الملاحظات التي تشير لجوانب مهمة في الكتاب، ويمكن الاطلاع عليها في هذه التغريدات على تويتر.


غلاف الطبعة الأولى من الكتاب

وبالعودة إلى موضوعنا، فأنا شخصياً قرأتُ الكتاب وأعدتُ قراءته بالإنجليزية. الصديقة قرأته بترجمة الدكتور علي القاسمي العربية. وأثناء قراءتها شاركتني – بطبيعة الحال! - إحدى فقرات الكتاب التي يتحدث فيها هيمنغواي مع صديقه إيفان شيبمان عن الأدب الروسي ودوستويفسكي وتولستوي (تاج راسي وراسكم!) – لهذا قلتُ سابقاً "بطبيعة الحال"، 90% من الرسائل التي تصلني من الأصدقاء عبر تويتر رسائل عن تولستوي!

الفقرة التي شاركتني إياها الصديقة من الترجمة العربية هي التالية:

وقلت: "كنت أفكر بدوستويفسكي. كيف يستطيع رجل أن يكتب بذلك الأسلوب السيئ، سيئ لدرجة لا تُصدَّق، ومع ذلك فإنه يحرك مشاعرك بعمق؟"
فقال إيفان: "قد يكمن السبب في الترجمة، فالترجمة هي التي أظهرت تولستوي بصورة جيدة."
"أعرف ذلك. أتذكر كيف حاولت أن أقرأ تولستوي عدة مرات فلم أفلح حتى عثرت على ترجمة كونستانس غارنيت".
وقال إيفان: "يقولون إن بوسع الترجمة تحسين الأصل. وأنا متأكد من ذلك على الرغم من أنني لا أعرف الروسية. ولكننا – كلينا – نعرف الترجمات. بيد أن الحرب والسلام جاءت مترجمةً، روايةً رائعة حقاً، بل أفترض أنها الأعظم، وبإمكانك أن تقرأها مرةً تلو أخرى."

وقد بدأت الصديقة تتساءل عن أثر الترجمات على الأعمال الأصلية وعن فكرة أن الترجمة ربما بوسعها "تحسين الأصل"، ولكن قبل أن نتعمق في ذلك أكثر كانت حاستي العنكبوتية (نكتة عن سبايدرمان) قد أنذرتني بأن شيئاً ما غير سليم هنا... صحتُ في ذهني "إلى سيارة الوطواط!" (نكتة عن باتمان) وانطلقتُ إلى النسخة الإنجليزية لمراجعة الأصل.

الأربعاء، 6 نوفمبر 2019

شهر في سيينا لهشام مطر: نحن هنا نتعلم كيف نعيش.



منذ فترة اكتشفتُ أنني ارتكبتُ خطأً فادحاً. رواية "في بلاد الرجال" لهشام مطر صدرت سنة 2006، وأنا بكل حماقة تعطلتُ في قراءتها 11 سنة! خطأ فادحٌ فاضح في هذه الحياة التي لا وقت فيها لقراءة كل شيء ولذلك نتمنى أن نقرأ ما يستحق القراءة قبل أن تُغلق كل الكُتب. ولكنني حاولت تصحيح هذا الخطأ. قرأتُ "في بلاد الرجال" سنة 2017، بعد 11 سنة من صدورها، ولكنني قرأتُ كتاب "العودة" المدهش سنة 2017، هذه المرة سنةً واحدةً فقط بعد صدور الكتاب في 2016. تقدمٌ جيد، أليس كذلك؟ حسناً، لقد حرصت على أن أتقدم أكثر.

كتاب هشام مطر الجديد "شهر في سيينا" A Month in Siena صدر بتاريخ 17 أكتوبر 2019. لماذا أعرف تاريخ صدور الكتاب بهذه الدقة؟ لأنني لأول مرةٍ في حياتي أطلب كتاباً قبل صدوره، وقد وصلني عبر البريد بتاريخ 17 أكتوبر بالضبط. لقد حاولتْ الظروف أو الصروف أن تتواطأ ضدي وضد الكتاب، هذه مشاغل وهذه هموم وهذه صاحبة الفخامة الكآبة وهذه حوادثٌ مؤلمة، ولكن هذا التواطؤ لم ينجح إلا في تعطيلي أسبوعين أو ثلاثة فقط!

حين قرأت "في بلاد الرجال" صُدمت: كيف تعطلت لهذه الدرجة؟ كيف لم أنتبه لهذا الكتاب الممتاز ولهذه الرواية التي قد تكون إحدى أفضل الروايات اللاتي قرأتهن؟ وحين قرأت "العودة" لم أُصدم، بل فقط تأكدت أن هشام مطر كاتبٌ وشاعرٌ حقيقيٌّ جداً، وشعرتُ بأن "العودة" كتابٌ اقترب كثيراً من درجة الكمال. والآن وقد قرأت "شهر في سيينا" فها أنا ذا أزداد يقيناً فوق يقيني بأن هشام مطر من أفضل الكُتَّاب المعاصرين.

اللغة تشبه الذاكرة أليس كذلك؟ نستخدم كلمات من ذاكرتنا للتعبير عن شيء جديد أو بالأحرى لتذكير بعضنا بعضاً بشيء قديم لنفهم شيئاً جديداً. وأظن أن المقارنة كذلك نوعٌ من أنواع اللغة الذاكرية. ولذلك سأبدأ بهذا الاستذكار: لقد ذكرني الكتاب بإدوارد سعيد وخورخي لويس بورخيس وعبدالفتاح كيليطو. سنجد عقلانية وأناقة إدوارد الأكاديمية، وسنجد شغف بورخيس بالتفاصيل والأحلام والخيال، وسنجد فضول كيليطو وهو يحاول فك ألغاز الأعمال الفنية. ولكن هذا لا يعني أن هشام مطر ليس موجوداً، بل موجود، فالعقلانية عقلانيته والأناقة أناقته، والشغف شغفه وأحلامه وخياله، والفضول فضوله، واللغة لغته الرائعة المدهشة بدقتها. ولهذا السبب كذلك، لحضور هشام في كتابه الجميل هذا، فقد ذَكَّرني بكتاب "وليمة متنقلة" لهيمنغواي، ذلك الكتاب الصغير الذي أهديت منه نسخاً عديدة، والشيء بالشيء يُذكر فقد تحدثت وأوصيت وأعرت وأهديت كتابي هشام مطر "في بلاد الرجال" و"العودة" عدة مرات كذلك. وهذه الذكرى القديمة عن كتاب هيمنغواي الذي كتب فيه عن تجارب شبابه في باريس بجمالٍ حميميٍّ (أو ربما بروستي) مُدهش تقودني لوصف الذكرى الجديدة التي هي كتاب هشام هذا.

"شهر في سيينا" كتاب يتحدث فيه هشام عن شهرٍ أمضاه في مدينة سيينا الإيطالية بعد الانتهاء من تأليف كتابه "العودة". "العودة" كتابٌ جميلٌ ويقترب من درجة الكمال كما ذكرتُ سابقاً، ولكن جماله هو ذاك الجمال الشاعري، جمال قصائد الرثاء التي تتمكن بمعجزةٍ سليمانية من تذويب فضة الحزن وتشكيل الجمال منها. حين كتبت عن "في بلاد الرجال" قلت إنه كان كتاباً مرهقاً، "العودة" لم يكن مختلفاً في إرهاقه العاطفي الجميل. في كتاب "العودة" يذكر هشام عادته في الذهاب إلى المتاحف ليختار لوحةً ويقف أمامها لزمنٍ طويل يدرس كل تفاصيلها. هكذا قد نفهم لماذا قرر هشام أن يذهب إلى سيينا ليشاهد اللوحات السيينية الغامضة التي قال عنها:

"كانت تقف منفردةً، لا من العصر البيزنطي ولا من عصر النهضة، طفرة بين الفصول، مثل الأوركسترا تُدوزِن أوتارها في الاستراحة."