الاثنين، 8 يونيو 2020

"حياة كاملة" و"ستونر": الانتصار الهزيمة والدمار





قرأتُ في الفترة الماضية رواية حياة كاملة لروبرت زيتالر. بداية مملة جداً أليس كذلك؟ أهلاً، لقد فعلتُ شيئاً! حسناً، لعلي أحاول تحسين هذه البداية بذكر ما يحدث في الرواية. ما الذي يحدث في الرواية؟ لا شيء. أعني، تحدث فيها حياةٌ كاملة، ولكن لا شيء يحدث فعلاً. مازالت بداية مملة؟ نعم، مشكلة... حسناً، عرفت: قرأتُ منذ سنوات رواية ستونر.

لحظة، أسمعكَ تعترض أيها القارئ العزيز، ألم تبدأ بالحديث عن رواية حياة كاملة؟! هذا صحيح، بدأتُ بذكر حياة كاملة. وأسمعكِ توضحين الاعتراض أيتها القارئة العزيزة، فلماذا انتقلت فجأةً إلى رواية ستونر؟! سؤال جميل (وكأني أستاذ ثانوية لا يريد تحطيم معنويات تلاميذه)، والإجابة بسيطة: لأن إيجر ابن عم ستونر (من جديد وكأني أستاذ ثانوية لا يعرف الإجابة فيعطي إجابة أغمض من السؤال!). ولكن بعيداً عن التفاهة (آسف)، أندرياس إيجر بطل حياة كاملة هو بالفعل ابن عم ويليام ستونر بطل ستونر، على الأقل من حيث الأنساب الأدبية.

إيجر يكبر في مزرعة، يبلغ ويستقل، ينتقل بين عدة أعمال ووظائف، يتزوج، يحب ويفقد، يذهب إلى حرب لا يفهم أسبابها، يجد بيتاً، ويموت مسناً كبيراً منسياً وحيداً دون ندم في بيته. ستونر يكبر في مزرعة، يبلغ ويدخل الجامعة ويستقل، يدرس الأدب، يتعين في الجامعة، لا يذهب لحربٍ لا يفهم أسبابها، يتزوج، يحب ويفقد، يؤلف كتاباً، ويموت مسناً كبيراً منسياً وحيداً دون ندم وهو يتناول كتابه. فماذا يحدث بين البداية والنهاية؟ ما يحدث لإيجر وستونر متشابه: تحدث الحياة لهما. وهذا سبب ظهور ستونر من بين صفحات حياة إيجر بالنسبة لي: الحياة حدثت لهما، كلاهما لم يواجها الحياة، لم يصارعاها، لم يحقدا عليها، لم يندما، لم يفعلا شيئاً سوى قبول كل شيء والاستمرار في المضي قدماً نحو الموت الحتمي في أحد الأيام.


إيجر لم يحاول الحب بعد أن فقد حبه، ستونر كذلك لا شيء يقول لنا إنه حاول الحب مرةً أخرى بعد أن فقد حبه (وأقصد هنا كاثرين عشيقته وليس زوجته إيديث). إيجر حين فقد زوجته وبيته لم يتدمر ولكنه استمر في العمل وفي جمع المال وفي الاستمتاع بالطبيعة وعثر على بيتٍ جديد واستمر في الحياة، ستونر حين فقد حبيبته وفقد حتى وظيفته المحببة هو الآخر لم يتدمر ولكنه استمر في العمل وفي الحياة. إيجر يمثل جيلاً كان يحب الطبيعة ويغضب من جيل "السواح" الذين يرون الطبيعة مجرد شيء للاستهلاك، ستونر يمثل جيلاً يحب الأدب والعلم بصدق ويغضب من جيل "المدعين" الذين يرون الأدب والعلم مجرد شيء للاستعراض. إيجر يعيش كيفما شاء ولا يهتم بكونه صار عجوزاً غريب الأطوار في نظر أهل البلدة، ستونر يعيش كيفما شاء ولا يهتم بكونه صار أستاذاً غريب الأطوار في نظر طاقم وطلاب الجامعة. إيجر يموت وحيداً بلا ندم، ستونر يموت وحيداً بلا ندم. علي الاعتراف بأنني حين كتبت عن كل منهما "لم يتدمر" خطرت بذهني جملة هيمنغواي الشهيرة من العجوز والبحر حيث يقول إن الإنسان تمكن هزيمته لكن لا يمكن تدميره، وفكرت في كيف أن قبول إيجر وستونر لكل ما يحدث لهما، استسلامهما لصروف الدهر ونوائبه، هو ما سمح لهما بالنجاة والاستمرار: لم يصارعا الحياة إلى أن تدمرهما، استسلما فقط لكل شيء، لم يسبحا ضد تيار النهر بل سمحا له بأن يحملهما إلى حيث يشاء... سأعود لهذا بعد أن أذكر نقطةً سريعة (أو ربما طويلة!).

ثمة أشياء كثيرة في حياة كاملة يمكننا الحديث عنها. هذه القارئة قد تفكر في ما يحمله صراع الطبيعة والصناعة في الرواية من دلالات حول الفلسفة الرومانسية الألمانية، هذا القارئ قد يفكر في إيجر وقوته وارتباطه بالطبيعة وفي رجل نيتشه الخارق، تلك القارئة قد تفكر في عيش إيجر شبه الغريزي أو الفطري وتلفت الانتباه إلى أنه دائماً يفعل أشياءً دون أن يعرف لماذا ولكنه فقط يعرف أنه يريد فعل ذلك ويستطيع، ذلك القارئ قد يفكر في أن لاتفكير إيجر قد يكون انعكاساً لعواقب اللاتفكير وكيف أن ذلك قد يدفع المرء إلى المشاركة في أعمال فظيعة دون تفكير (مثل مشاركة إيجر في الحرب دون فهم)، هاتيك القارئة قد تشير لفكرة التحول الجيلي والعالمي من مجتمعات إنتاجية مترابطة إلى مجتمعات استهلاكية منعزلة، وذاك القارئ قد يشير إلى الأساليب الفنية في توظيف الذاكرة المتداخلة مع السرد أو توظيف الوصف السينمائي للمشاهد. ثمة أشياء كثيرة في الرواية يمكننا الحديث عنها، أشياء كثيرة تشجع على قراءتها! ولكنني أريد الحديث عن شيء واحد: عن النهر الذي لم يسبح إيجر وستونر ضد تياره، وإنما تركاه يحملهما.

السباحة ضد التيار ليست بالضرورة عملاً جيداً، الأمر سيعتمد على اتجاه التيار: إن كان يحملك باتجاه الهلاك أم الخلاص. نهر حياة إيجر وستونر كان يحملهما باتجاه الفقد المتكرر: فقدان الحب، فقدان الوظائف، فقدان العائلة، فقدان الحياة الاجتماعية، فقدان كل ما يُقال لنا إننا يجب أن نسعى إليه. أليس هذا تياراً يستحق أن نسبح ضده؟ بل أليس هذا نهراً يستحق أن نخرج منه كلياً ونجفف أنفسنا على ضفته ثم نبحث عن نهر آخر لن يصيبنا بانهيارات عصبية وبالضغط والقرحة؟! ربما الإجابة المنطقية هي نعم بكل تأكيد وليذهب هذا النهر للجحيم! وربما الإجابة المنطقية المخلوطة ببعض الواقعية هي كذلك نعم بكل تأكيد ولكن أحياناً لا نستطيع مغادرة النهر. وهنا نعود لكلمة "الاستسلام"، الاستسلام للتيار. إيجر وستونر استسلما للتيار. وهنا ربما مفاجئة سريعة: الاستسلام للتيار ليس دائماً هزيمة، بل يمكنه أن يكون انتصاراً. وهنا أوضح كذلك لماذا قلت إن إيجر هو ابن عم ستونر، وليس أخاه التوأم مثلاً، فثمة فرق في استسلامهما للتيار.

إيجر وستونر استسلما لتيار الحياة (لا داعي لتكرار الكلام الذي كررته كثيراً أصلاً عن كل ما فقداه!)، ولكن رغم أنهما يشتركان في عدم ندمهما فهما يختلفان في رأيي اختلافاً كبيراً في استسلامهما، اختلافاً يجعل استسلام ستونر انتصاراً بينما يجعل استسلام إيجر مجرد استسلام وإن لم يكن هزيمةً.

قد تسألني كيف يكون الاستلام انتصاراً؟ وقد تسألينني كيف كان استسلام ستونر انتصاراً ولم يكن استسلام إيجر انتصاراً؟ سأحاول أن أشرح.

عند الاستسلام للتيار فإن النهر سيحملك أنتَ أو أنتِ. وبعيداً عن كلام التغير والتطور وعواقب اتجاه هذا التيار، وبالتركيز على "المحمول/ة" فقط، فإن الشيء الوحيد الذي سيحدده النهر هو "اتجاه التيار"، ولكنه لن يحدد "ذات المحمول/ة". التيار سيحملكَ أنتَ طالب الدراسات العليا المحكوم باعتبارات مؤسساتية وأكاديمية ولكنه يدرس مجالاً يحبه ويعرف ماذا يحب، التيار سيحملكِ أنتِ الكاتبة المحكومة بسياسات منصات النشر والمجلات والمواقع ولكنها تكتب وتنشر ما تحبه وتؤمن به وتعرف ما تحبه وتؤمن به، التيار سيحملكَ إلى زواج، سيحملكِ إلى علاقة، سيحملكَ إلى عائلة، سيحملكِ إلى وظيفة... طوال الوقت ستبقى "أنتَ" أو "أنتِ" المحمول/ة. وهذا الإدراك هو ما يجعل الاستسلام لتيار الحياة انتصاراً. هذا كان انتصار ستونر، وهذا كان سبب تفكير جون ويليامز مؤلف ستونر في أن يفتتح الرواية باقتباس "البطل الحقيقي هو من يستطيع أن يكون نفسه"، أي أن يكون هو هو وتكون هي هي. ستونر لم يذهب للحرب رغم ضغوطات وتصورات عدم الوطنية والجُبن والتولي يوم الزحف، ستونر لم يحاول إصلاح زواجه رغم تمثيليات "العائلة السعيدة" و"المظاهر" و"ماذا سيقول عنا الناس"، ستونر لم يتفادَ الدخول في علاقة حب حقيقية رغم إدانات الخيانة الزوجية والانحلال، ستونر لم يتجنّب مواجهة تعيين معيد جديد في الجامعة رغم اتهامات التحيّز والغيرة. ستونر على مدى حياته كان يعرف نفسه جيداً: كان يعرف أنه لم يذهب للحرب لأنه لا يرى أهميتها وليس لأنه جبان أو غير وطني، كان يعرف أنه لم يُصلح زواجه لأن هذه ليست الحياة العائلية التي يريدها ويعرف أن زوجته كذلك لا تريدها، كان يعرف أنه يدخل في علاقة لأنه يحب كاثرين ولأنها تحبه ليس لأنه خائن أو شهواني، كان يعرف أنه يواجه تعيين المعيد الجديد بسبب زيفه وخداعه، وأيضا دفاعاً عن قداسة الأدب والعلم ليس لأنه غيران أو متحيّز. ستونر كان يعرف نفسه وكان "يكون نفسه"؛ فكان استسلامه للتيار انتصاراً لأنه واثقٌ بأن التيار يحمله هو، ويعلم أنه مهما كانت الوجهة التي سيحمله التيار إليها فهو الذي سيصل إليها، خلاصاً أم هلاكاً، ستونر هو الذي سيصل. وهنا لعلي أستدرك على وصف "خلاصاً أم هلاكاً" وأقول بأن خلاص ستونر ربما بدأ منذ اللحظة التي أدرك فيها حبه للأدب وغيّر اختصاصه الجامعي من الزراعة إلى الأدب، اللحظة التي عرف فيها نفسه وبدأ فوراً "يكون نفسه"، وجهة التيار ليست مهمة، الخلاص تحقق، ولا ندم.

وبعد كل هذا التغزل بستونر، أجدني أقف حائراً أمام إيجر، ابن عم ستونر، المحمول الآخر على تيار الحياة، المستسلم الآخر. ولكن، يا أستاذ إبراهيم، لماذا تقف حائراً أمام إيجر؟ سؤال جميل عزيزي القارئ أو عزيزتي القارئة، ولو أنه لا داعي لرسميات أستاذ يعني. الحيرة سببها أن إيجر لا أظنه كان يعرف نفسه، لا أظنه كان يدرك شيئاً. من أبرز صفات إيجر، كما ذكرتُ سابقاً، أنه لا يفكر فعلاً، يعيش ويتصرف فقط لأنه يريد ويستطيع. فكرتُ الآن أن هذه "العبثية الحياتية" ربما تمكن مقارنتها مثلاً بميرسو، بطل الغريب لألبير كامو، ولكن حتى ميرسو الذي كان يعيش وفق رغباته وغرائزه كان يسبح ضد التيار بعبثيته هذه ويرفض منح المعنى للأشياء التي يمنحها العالم معنى مثل موت أمه وقتله للعربي المجهول. ولكن إيجر مازال متميزاً عن ميرسو، لأن إيجر لا يفكر، لا يفكر حتى فيما يرفضه! حتى مشاعره الغاضبة تجاه السواح لا يفسرها ولا يتوقف عندها، وحتى حين فكر مرةً في دوافع السواح الذين رآهم أشخاصاً ضائعين يبحثون عن شيء لا يعرفونه لم يفكر ولو لحظة في أن تشخيصه هذا ينطبق عليه. قد يمكن القول إن ستونر كذلك لا يتأمل ولا يفكر (أخرجتُ ميرسو من المعيارية بسبب استعماريته وعبثيته التدميرية، تدميرية بتعاميها عن واقع وجود معنى؛ فقتله للعربي المجهول ليس مجرداً من المعاني العنصرية والاستعمارية والعنيفة، رغم محاولة التظاهر بأن تجريد الفعل من التبرير الفكري وجعله نتيجة عادية لضربة شمس يعني أنه فعل غريزي بريء! لذلك يبقى ستونر وحده المعيار هنا!). كما قلت قد نقول إن ستونر كذلك لا يتأمل ولا يفكر كثيراً، ولكن الفرق هنا أن ستونر فلسفته الحياتية واضحة في الرواية، "نفسه" التي عرفها وكانها واضحة من البداية (عدم ذهابه للحرب وبقاؤه في الجامعة حدث مبكراً في الرواية ووضّح فوراً "نفس" ستونر)، وهذا يختصر علينا عملية البحث عن تفكير وتأملات، بينما رواية حياة كاملة تُذكّرنا طوال الوقت بأن إيجر لا يفكر ولا يفهم.

ولذلك أشعر أنني لا أستطيع أن أصف استسلام إيجر بأنه انتصار، كان مجرد استسلام للتيار. الحب كان "معجزةً غير مفهومة" بالنسبة له، الكوارث التي حلّت به كانت مجرد كوارث قد تعلق بذاكرته وتعود بين حينٍ وآخر ولكنه يتجاوزها لمتابعة المسير، مساعدته لبعض الناس أيضاً تحدث دون تفكير ودون تأمل فيما حدث بعدها، الحرب لم يكن يفهم معناها، مشاعره تجاه السواح لم يكن يفهمها، لم يكن يفهم حتى لماذا يتابع العمل ويجمع المال. كان فقط يعرف أنه يعمل ويجمع المال (ربما ليتمكن من الأكل، أو ربما فقط لأنه يظن – دون تفكير – بأن هذا ما يجب فعله)، حتى ارتباطه بالطبيعة كان متناقضاً لأنه دون تفكير، فنحن نشعر أنه يحب الطبيعة ونتفهم غضبه من السواح الذين يستهلكونها، لكنه هو كذلك يستهلكها ويسخرها للعمل وكسب المال (حين يعمل مرشداً سياحياً!). إيجر لم يكن يفكر، ولكنه عاش، عاش حياة لم يكن يفهمها إلا أنه ما انفكّ يشعر بالذهول تجاه كل ما فيها من جمال، ولذلك يمكننا تفهّم أن يموت دون ندم بعد حياة كاملة .

وربما هنا الفرق بين ما يمكن أن نعتبره "رسالة" كل من الروايتين. مع الاعتذار لحزب "الفن للفن" على الجلطة الخفيفة التي ربما أصابتهم بها كلمة "رسالة"! وإن كان بإمكاني مساعدتكم على التعافي، فلنعتبر أن "رسالة" أعني بها الرسالة التي شعرتُ بأن المؤلف كتبها لي حين قرأت الرواية، يعني هي قراءة شخصية تواصلت مع الشخصيات والأحداث وخرجت من الرواية برسالة. باهي؟ ما حد يزعل يعني (ولو أن عادي لو زعلتوا شوية).

رسالة ستونر هي عن كيف يمكننا أن نجعل الاستسلام للتيار انتصاراً بمعرفة أنفسنا، أما رسالة حياة كاملة فهي عن كيف يستسلم كثيرون للتيار دون أن يكون استسلامهم هزيمة، أو، بالعودة إلى حكمة هيمنغواي، دون أن يكون استسلامهم دماراً.

بصراحة، مازلت غير مقتنع بأن استسلام إيجر ليس هزيمة، ولكن الذي لا خلاف عليه هو أنه لم يكن دماراً. لهذا أرى أن ستونر كان بطلاً لأنه انتصر، بينما إيجر كان شخصيةً رئيسية لأنه فقط نجا. ستونر استسلم للتيار ولم يعبأ بالوجهة التي يحمله إليها لأنه يعرف نفسه، هذه بطولته وانتصاره؛ إيجر استسلم للتيار دون أن يعرف نفسه، ولكنه كان يعرف أن التيار يحمله، يعرف أنه لم يغرق، ولهذا لم يتدمر، وربما هذه ليست بطولةً ولكنها تبقى نجاةً. وربما هذه رسالةٌ مهمة، رسالة تقول إنه لا داعي أن يكون الجميع أبطالاً، وإننا إن لم نستطع الوصول إلى بطولة ستونر فبإمكاننا في النهاية النجاة مثل إيجر، بإمكاننا أن نموت دون ندم؛ فالنجاة قد لا تكون انتصاراً، ولكنها ليست هزيمة، وبلا شك ليست دماراً.


8 مايو 2020

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق