عمّاذا نكتب حين نكتب
عن القراءة؟ سؤال "كتابة إبداعيّة"، أليس كذلك؟ أعني أنّ تعدّد سبل
الإجابة عليه لن يجعل أيّا من تلك الإجابات إجابةً خاطئة، قد تكون الإجابات عمليّة
أو علميّة، قد تكون شخصيّة، فلسفيّة، سياسيّة، قد تكون كلّ ذلك، ولا شيء مما سبق،
قد تكون واجبَ إنشاءٍ أو بحثًا تفكيكيًّا أو روايةً أو مقالةً عن روايةٍ. أظنني
أستطيع الزعم بأننا نكتب أوّلًا عن تجربتنا الشخصيّة، أو بعبارات أخرى عن كيف
قرأنا وما قادتنا إليه قراءتنا. هذه بسيطة. لكنّ السؤالَ يصير عندها: ماذا نختار
من هذه التجربة لنكتبه؟ ولماذا؟ أعرف أنني قلت "السؤال يصير" ثم أردفْتُه
بسؤالين، لكن – ولأكُن صريحًا – ستتكاثر الأسئلة فلا داعي للتدقيق.
عن القضيّة؟
ربّما اخترنا
أكثر ما أثارنا؟ ثم نكتبه لأسباب كثيرة لعلّ أقلها إثارةً للجدل رغبتنا في مشاركة
الآخرين. ربّما. ولعلّني لهذا السبب حين قرأتُ "خبز على طاولة الخال
ميلاد" لمحمد النعّاس شعرتُ أوّل الأمر أنني أريد الكتابة عن قضيّة الرواية
المحوريّة: المعايير الاجتماعيّة للرجولة (أو ما أُشير إليه كثيرًا بوصفه قضيّة
جندريّة). وأظنّ أنّني يجب أن أعترف هنا
أنني تأثّرت بشيءٍ من خارج الرواية: بالحملة التي شُنّت عليها (وعلى مؤلّفها وقُرّائها
وقارئاتها) حين أُعلِنَ عن حيازتها الجائزة العالميّة للرواية العربيّة. أثارت
قضيّة الرواية تحفّظات كثيرين فور ظهور النتيجة، لا سيّما بعد إشادة
لجنة الجائزة بتناول الرواية لقضيّة تعريف الرجولة والمعايير الاجتماعية المقبولة
وتحدّي الرواية لها، فبدأت مواقع التواصل تتداول صورًا لصفحات أو سطورٍ من الرواية
رأى بعض الناس – مثلما اعتدنا مع نصوصٍ مُشابِهة – أنّها تنشرُ الرذيلة وتخالفُ
الآداب العامّة وتتعدّى على الذاتِ الإلهيّة وتشوّهُ صورة ليبيا والليبيّين إلى
آخر ذلك من كلام مُعاد (حدث الشيء ذاته مع أنطولوجيا "شمس على نوافذ
مغلقة" منذ بضع سنوات). قد تكونُ الحملة هدأتْ الآن، أو كالعادة مرّت مثل أي
"ترند" آخر على مواقع التواصل، لكنّ آثارها الواقعيّة تجاوزتْ العالمَ
الافتراضيّ، فوزارة الثقافة الليبيّة التي هنأت الكاتب
محمد النعّاس على ترشيحه ثم باركت له "بأصدق التهاني" حين حَصَدَ الجائزة، مدّعيةً أنّ هذا الفوز يدعمُ
"مكانة الكتاب والكتّاب الليبييّن في الخارج ويثري الإنتاج الثقافي الليبيّ
ويُعرّف به على نطاقٍ أوسع"، سرعان ما رضخت للهبّة الشعبيّة الليبيّة فأصدرت بيانًا جديدًا تزعم فيه أنّ الرواية لم تُحل إلى إدارة المطبوعات
و"لم تتحصّل على الموافقة المطلوبة وفق القوانين النافذة، أو الإذن بالطباعة
أو النشر أو التداول".
استفزّني ذلك أكثر من
هجوم الناس ابتداءً وتبرُّئِهِم من الرواية وكاتبها. ورغم أنّ موضوع كتابتي لم يكن
متّضحًا لديّ تمامًا، كان الاستفزاز والإثارة حاضِرَيْن بدورهما. أردتُ إذن أنْ
أكتب عن تناول الكاتب محمد النعّاس في الرواية لمعايير الرجولة.
إنّ هويّة ميلاد،
الراوي والشخصيّة الأساسيّة، لا تُصادم المجتمع جذريًّا، فهو ليس مثليًّا أو
عابرًا أو متحوّلًا على سبيل المثال. وإذا كان ميلاد مهتمًّا بأمورٍ ومتقنًا
لأشياءَ قد لا ترتبط في مجتمعاتنا بمعايير الرجولة، مثل الخبز والطبخ والعناية
بالبيت، فهو من جهةٍ أخرى له ممارسات مما يتفاخر به الرجال باسم الذكورة. إنّه
يُدخّن ويسكر ويُحشّش ويمارس الجنس ويُجيد أعمالَ البناء والزراعة، حتّى إنّ حبَّهُ
للخبز قد ورثه عن والده الخبّاز (أحد أمثلة الذكورة في حياته). شعرتُ أنّ هذا
تناولٌ بارع، لأنّه يُوضّح مدى حساسيّة المجتمع من تلك الحدود الجندريّة التي
وضعها وجلس يحرسها كالمرابط على حدود الوطن أو الدين، إلى حدّ أنّ رجًلا لا
يخالفها مباشرةً ويكتفي بعدم السعي إلى حمايتها مثلما يُتوقَّع يصيرُ عدوًّا للرجولة!
هذا ما حدث مع ميلاد،
فصدامه مع المجتمع لم يأتِ من كونه مهدِّدًا لجوهر الرجولة أو الذكورة؛ فهو –
مثلما ذكرتُ – مهما اختلف في اهتماماته عن السائدِ، رجلٌ جنسانيّته غير خارجة عن
سياق معايير المجتمع الأبويّ الذكوريّ في الرواية. إنّ صدامَ ميلاد مع المجتمع
صدامُ أدوار، يتجلّى في ثلاثة أمور: في بُعده عن العنف الذكوريّ؛ وفي عدم تقييده
زوجته ونساء عائلته أو لعب دور الرّقيب القامع لحركتهنّ؛ وفي قيامه بعمل البيت
عوضًا عن زوجته. وهذه الأمور، بالنسبة إلى المجتمع، إخفاقٌ منه في حماية حدود
الذكوريّة وأدوارها لا جوهرها، إخفاقٌ تلحقه طبعًا اتهامات "التشبّه
بالنساء" و"الدياثة" وفقدان السيطرة على زوجته. يتسبّب هذا الفشل
أو الإخفاق في خلق أزمة نفسيّة عند ميلاد وإحساسه بالنقص؛ لأنّ اختياره راحته النفسيّة،
بأن يكون ذاته، يعني سخط المجتمع الأبويّ/الذكوريّ عليه.
شعرتُ بأن هذا
التناول "الخفيف" أعجبني، مثلما أعجبني أيضًا بدء النعّاس لفصول الرواية
بمثلٍ أو تعبيرٍ ليبيّ، فضلًا عن شخصيّة الرواية الأساسيّة التي تحيل إلى التعبير
الشعبيّ "عيلة وخالها ميلاد". رأيتُ في هذا تحصينًا للرواية من النقد
الاجتماعيّ، أي من نقد "تشويه صورة المجتمع الليبيّ" أو "عدم
تمثيله"، وهو نقدٌ صرخ به ليبيّون كثرٌ طبعًا، أحدهم قال إنّنا يجب ألّا
نُحدّث العالم عن مثل هذه الأمور (الذكوريّة، وحقوق المرأة، و"الصياعة")
ولكن أنّ نُحدّثه عن عمر المختار! رحمة الله عليك يا سي اعمْر، صرت ورقة توتٍ يراد
منها تغطية 1.76 مليون كيلومتر مربّع! ولكن لا حاجة فعلًا لورق التوت أو العنب؛ فلم
يكشف النعّاس المستور أو يفضح المجتمع الأبويّ الليبيّ، بل كتب ذاك الجانب منه كما
هو، وقد أجاد أحيانًا عرض بعض مشاكل المجتمع الليبيّ وبعض تحوّلاته التاريخيّة،
وإن كان الأمر مقحمًا أحيانًا. لكن العبرة في رأيي أن النعّاس لم يخفق في تصوير
هذه الناحية من المجتمع الليبيّ تصويرًا واقعيًّا، وقد جاء بأفضل دليل ليس لأحدٍ
أن ينكره (ولو حاول ذلك كثيرون!): كلامنا العادي، الأمثال والتعابير التي يستخدمها
الناس كلّ يوم.
لا أعرف كيف لأيّ
ليبيّ وليبيّة مثلًا أن ينكرا وجود وتداولَ مثل "اضرب القطّوس تخاف
العروس"؟ لا أعتقدُ أنّ أحدًا يضربُ فعلًا قطةً أو يذبحها ليلة الدُّخلة في
ليبيا (في الأغلب النساء هنّ من يُضربن ويُذبحن دون حاجة لرمزيّة القطّة...)، ولكنّني
سمعتُ المثل كثيرًا، سمعته يُقال على سبيل النصيحة قبل الزواج (ليثبت الرجل سلطته)،
وسمعته يُقال على سبيل التحسّر حين تظهر مشاكل ما بعد الزواج (فالرجل لم يثبت سلطته).
ولا أدري أيضًا كيف لأيّ ليبيٍّ أن يُنكر وجود تعبير "الراجل ما يعيبه
شي"؟ هذا القول، الذي يُستخدم لتبرير أيّ جريمة يرتكبها رجلٌ، يُستخدم أيضًا
لتشديد إدانة أيّ امرأة تفعل شيئًا من المفترض أن يحتكره الرجال (لو كانت رجلًا لما
عابها شيء!). كلّ هذه الأمثال والتعابير، وغيرها كثير (مثل "ستيرسو
يمين" (أي مقود سيارته على اليمين) يضرب لمن يُرى أن زوجته تتحكم به، أو
"خي خواته" عمن يتصوّر المجتمع أنه بسلوكياته أو كثرة نميمته أو ملازمة
أخواته يتشبّه بالنساء)، كلّها تعابير نسمعها دائمًا في ليبيا. فكيف يُنكر الناس
حقيقة المجتمع والدليل يُسمَع ويُقال كلّ يوم؟
تحمّست كثيرًا بصراحة
لهذا التفصيل، وأيضًا للدفاع عن الرواية من موجة النقد الليبيّة التي كانت تغمرها،
وهي موجة نقد استشرافيّة معتادة لا تتغافل عن الواقع - حين تنكر تمثيل عملٍ ما
للمجتمع - بقدر ما تسعى جاهدةً إلى إنكاره؛ فهذا إذن كذبٌ متعمّد، ليس تغافلًا ولا
حتّى تحرّجًا ورغبة في الستر!
عن الأمثال الليبيّة؟
لقد تحمّسْتُ إلى حدّ
أنّني تذكّرتُ أنّ علي مصطفى المصراتي، أحد أبرز رموز الثقافة في ليبيا وممن أثروا
مكتبتها إثراءً قلّ نظيره حتّى لُقب عميد وشيخ الأدباء الليبيين ولُقّب أحيانًا
"عقّاد ليبيا"، له كتابان عن الأمثال والتعابير الليبيّة: المجتمع
الليبي من خلال أمثاله الشعبية (1962)، والتعابير الشعبية الليبية دلالات نفسية
واجتماعية (1982). لكنّني للأسف حين رجعتُ إليهما لم أجد فيهما شيئًا سوى الخيبة.
في فصلين من كتاب
"المجتمع الليبي من خلال أمثاله الشعبيّة" يُورد المصراتي حفنةً من
الأمثال المتعلّقة بالبنات والمرأة. يبدأ كلامه بتوضيح أنّ هذه الأمثال "لن
تكون... حكمًا صائبًا وعادلًا دائمًا ولا هي بالقانون الذي لا يمكن أن يتغيّر.
فنظرية كانت منذ أجيال أو في فترات خاصّة لا يمكن أن تصلح بعد ظهور التطوّر
والتبلور ونشر الوعي الثقافي..." (ص86). كلام جميل. فماذا قال المصراتي رحمه
الله عن بعض هذه الأمثال؟ يأتي المصراتي بمثل "اللي عنده البنات يناسب
الكلاب". المثل ليس قاعدة، ولكن "إذا تأمّل الإنسان ظروف بعض الناس
ومآسي بعض العائلات أدرك أنّ الباعث على هذا حالات وتجارب واقعية في المجتمع"
(ص89). ثمّ يأتي بمثل "البنت تتربّى مرّتين، وحدة عند بوها ووحدة عند
راجلها"، الذي برّره بوجود "جو جديد وحياة جديدة تحتاج إلى تغيير في
العادات والطباع بما يتناسب والحياة والزوجية (...) لأن البنت إذا استمرت على
نظرتها الأولى للحياة فشلت في سياسة زوجها." (ص88-89). هذا الكلام يبدو وكأنه
قاعدة! قول "المرا حَرْفَة ولو جابها الوادي" يذكر المصراتي أنّه منسوب لجحا الذي تزوّج امرأةً جاء بها الوادي (أي دون
مهر أو تكاليف) ولكنه لم ينسجم معها فسلّطت عليه لسانها (ص93)، وهذا كلّ ما يحتاجه
هذا المثل العجيب من تعليق! وهكذا يسرد المصراتي عدّة أمثال وتعابير مهينة للمرأة
دون مَشكلتها أو نقدها ودون نقد المجتمع الذي من المفترض أن هذا الكتاب دراسة له عبر
أمثاله وتعابيره الشعبيّة. للأمانة، ينتقد المصراتي بحدّة قول "لا تأخذ راي
المرا ولا تبع الحماره من ورا" ويعدّه ظلمًا واضحًا يجب حذفه من قاموس
المعاملات (ص92). الشيء الطريف (طرافة السخرية!) أن في الكتاب فصلًا بعنوان "أمثال
يجب أن تُحذف"، يجمع فيه المصراتي بعض الأمثال التي يرى أنها "يجب أن
تحذف من قاموس الحياة، أي تلغى من فكر المجتمع" لأنه من الخطر "أن تصبح
قانونًا وتغدو عرفًا وخطة سير في الحياة" (ص40). ولكنه لا يضع في هذا الفصل
أي مثل أو تعبير من تلك المهينة للمرأة والبنات والمنتقصة منهن. وثيمة فصل
"ما يجب أن يُحذف" سياسيّة قليلًا، فيها يُورد المصراتي أمثالًا وتعابير
"في مضمونها استسلام وخنوع، تحمل المذلة وما يتفرّع منها" (ص40)، فهي
وصفٌ ملائمٌ تمامًا للأمثال السابقة عن المرأة!
خيبتي مما وجدته عند
المصراتي دفعتني للبحث أكثر. لدينا كتبٌ أخرى تسجّل الأمثال والتعابير الليبيّة.
"الأمثال الشعبيّة في ليبيا، دراسة مثالية مُحكمة مع الشرح والتحليل"
لحواء مصباح الأسعد (2014)، كتابٌ يُسجّل الأمثال ولكن لا شرح فيه ولا تحليل، بل
إنّه يكاد يكون تعتيمًا صريحًا! مَثَل "البنت تتربّى مرّتين" مثلٌ
"يُقال للمرأة عند زواجها" (ص21)، هذا كل الشرح والتحليل اللازم! مَثَل
"المرأة حَرفة ولو كان جايبها الوادي" مثلٌ "يُضرب للمرأة بأنها
حَرفة ولو كانت هدية بدون مهر" (ص21)، ولا تُفسّر المؤلّفة كلمة
"حرفة" بمعناها الليبي (حظ سيئ، شر، إلخ). في كتاب "نصوص من
الأمثال الشعبيّة" لعبد السلام إبراهيم قادربوه، يذكر في مقدّمته ثلاثة أمثال
عن المرأة من بينها "المرأة حرفة ولو كان جابها الوادي"، ويبدو أنّه
الوحيد الذي يرى ما في هذا المثل من إهانة، لكن لا داعي للمبالغة طبعًا، حيث يقول
قادربوه: "فإذا كنّا نلاحظ أنّ المثل الأخير فيه تحامل على النساء، فإن هناك
ما يقابله من الأمثال التي نجد فيها تحاملًا على الرجل" (ص15)، عادي يعني!
ولا كأن التحامل على النساء مشكلة نخاعيّة مستعصيّة! وعلى الرّغم من شهرة مثل
"اضرب القطّوس تخاف العروس" (بمختلف تنويعاته: اضرب/اذبح القطّ،
تخاف/تتربى/تتأدب العروس) لم أجده في كتب المصراتي ولا في الكتب المذكورة سابقًا
(وأضيف عليها: "رسائل الأجداد للأحفاد" لسالم العقوري (2002))، وهذا أمرٌ
غريب، لشهرة المثل وانتشاره، فلماذا لا يورده من يضعون كتبًا تُسجّل وحسب أمثالًا
وتعابير مأساويّة؟ ولماذا لم يورده المصراتي في دراسته للمجتمع الليبيّ، لا سيّما
أنّنا نلحظ براعته في تبرير الأمثال والتعابير المهينة للمرأة والكارهة لها؟ الكتاب
الوحيد الذي وجدتُ فيه المثل كان كتاب "الأمثال الشعبيّة في ليبيا"
لمحمد حقيق (1978)، وهو أحد الكتب التي تسجّل الأمثال والتعابير دون تعليق.
خاب أملي كثيرًا.
ولكنّني في الوقت ذاته شعرتُ أنّ خيبتي هذه كانت مهمّة، لأنّها أكّدت لي أنّ
المجتمع يُطبّع كلّ ما حاول النعّاس انتقاده وأثبت وجوده بالأمثال، يُطبّعه حتّى
إنّ أحدَ أبرز المثقّفين الليبيّين يبرّره، والكتب التي تزعم أنّها تؤرّخ للواقع
وتسجّله تتجاهله وتحذفه. وفي غمرة حماستي حينذاك لقضيّة الرواية والحملة التي شُنت
عليها (الحماسة التي كنت قد بدأت أدرك أنّها مختلطةٌ بقلقٍ ما)، تركتُ كتب
المصراتي جانبًا، إذ تذكّرت حينها الليبيّ الآخر الذي كتب كثيرًا عن هذه القضايا.
عن الأدب الليبيّ؟
توجّهتُ إلى كتب
الصادق النيهوم، الرمز الثقافيّ الليبيّ الآخر البارز (ولعلّه الأبرز). عند النيهوم
مشاكل في تناوله قضايا المرأة تحديدًا، خاصّةً في كتابه "حديث عن المرأة
والديانات". ولكنّه في مقالاته (التي كثيرًا ما تخلط بين جنسيّ المقالة
والقصة) صاحبُ مواقفَ أفضل بكثير من كتاباته المُمَشْكلة حول المرأة، إلى حدّ
التعجّب من التناقض أو التغيّر في أفكاره. وعلى كلّ حال، وعلى مشاكل النيهوم
الفكريّة الكبيرة (ومشاكله السياسيّة أيضًا التي سأتجاوزها الآن دون تجاوز
إدانتها)، يبقى النيهوم أحد أفضل من أرّخوا واقع ليبيا. فهو، مثلًا، على عكس
المصراتي وغيره من مؤرّخي الأمثال، لا يتجاهل مثل "اضرب القطّوس تخاف
العروس". يقول الصادق النيهوم في نصّه الطويل "تحية طيبة وبعد"، ساخرًا
من مشكلة الأمثال:
فقد قيل أيضًا إن الحاجّ الزرّوق الذي سمع من والده
المثل القائل "اضرب القطّوس تخاف العروس" تزوّج ذات مرّة وأحضر قطّة معه
في ليلة الدخلة وجلس يضربها فوق السدّة.
ليش؟ سألته العروس من باب الفضول.
قال الحاجّ الزرّوق باحثًا عن عذر عاجل: شي والله... بس
ألقيتها تباوع [تبحلق أو تتلصص] (تحية طيبة وبعد، ص23-24)
يبدو المشهد نقدًا
لعدم فاعليّة المثل لا نقدًا لوجوده! ولكنّنا إنْ وضعنا الكلام في سياق أعمّ اتضّح
أنّ النيهوم ينتقد وضع هذه الأمثال وتدوالها بصفة عامة، فهو قبل المقطع السابق كان
يتحدّث عن مثل "السكوت من ذهب" وعن أنّ الصمت ما نجح قطُّ في مساعدة الناس
على شراء الغذاء! إنّ الحاجّ الزرّوق يعاني مشكلة عويصةً كما يبدو مع الأمثال،
فنحن نراه لاحقًا في النصّ ذاته يُقال له "هذا ثور"، فيقول "باهي
احلبه" ولكنه "ينسى أن يحضر معه جردل الحليب" (تحية طيبة، ص23).
وبصراحة، أرغب في تعريفكم، عزيزاتي وأعزائي القارئات والقرّاء الكريمات والكرام
على الحاجّ الزرّوق، الشخصيّة الليبيّة المعياريّة في أعمال النيهوم.
الحاجّ الزرّوق هو
الذي تمنّى ذات يوم لو أنه تزوج كلبته التي أنجبت سبعة جراء ذكور حين أنجبت زوجته
بنتًا (تحية طيبة، ص11)؛ وهو ذاته الذي قتل زوجته لأنّها اعترضت على بيع خلخالها
لكي يتصدّق بثمنه ويكسب حسناتٍ تدخله الجنة وتقوده إلى الحوريات، فقد خنقها حين
تجرّأت على أن تقول له "حتى أنا نبّي حوريين"، فماتت وعنقها بين يديّ
الحاجّ الزرّوق وهو يسألها غاضباً "أنا مش مالي عينك؟" (تحية طيبة، ص
120)؛ وهو ذاته الذي زار شبحه النيهوم وهو في إستوكهولم لينهره ويعاتبه على عدم
ملاحقة البنات: "اعلاش قاعد هني كيف الكلب، برّه شوف الخيرات، الدنيا كلها
بناويت" (فرسان بلا معركة، ص115)؛ وهو أيضًا من كان قلبه ينعصر شاعرًا بالذلّ لأن زوجته مثلما يعتقد
تتعمّد الخروج لا لشراء حاجيات البيت بل ليعاكسها كلّ رجال الشارع (فرسان،
ص153-157). الحاجّ الزرّوق أحسبه من أهم سجّلات التاريخ عن المجتمع الليبيّ!
لقد كان النيهوم أكثر
صراحةً في تناول المجتمع الليبيّ بمشاكله الذكوريّة/الأبويّة وحدود أدواره
الجندريّة في هذه النصوص، أكثر من بعض المؤرّخين للأسف (على سيرة المؤرخين، فكذلك
حاول النعَّاس التأريخ، لكنه تاريخ مخترَع لقصة مَثَلٍ، إذ استلهم شخصيته الرئيسية
من تعبير "عيلة وخالها ميلاد" الحديث نسبيًّا). في مجموعة "فرسان
بلا معركة" نصّان بالتحديد إذا استحضرناهما هنا، فإنه يجوز لنا أن نقرأهما من
زاوية قضية الذكوريّة. وهي زاويةٌ يكاد يماسُّها تناول النعّاس لها في روايته.
مثلًا، يتحدّث ميلاد في إحدى فقرات الرواية عن تناقض الرجل الليبيّ الذي يهيم
بأغاني الحبّ جنونًا ولوعةً وهو أبعد ما يكون عن الحساسيّة واللطف. لقد كتب
النيهوم شيئًا مشابهًا قبل النعّاس بحوالي خمسين سنة. يقول:
"وكان الرجل الليبيّ يغنّي دائمًا بالعَلَمّ [نوع
غناء ليبيّ]، وكان يُقنع مستمعيه بأنّه وقع في الحبّ، وأنّ حبيبته التي تشبه
الغزال قد أحرقت قلبه وأضرمت النار في أمعائه وحرمته من النوم وجعلته يذرف الدموع
الدفينة على طاسة البوخة [كحول محليّ ليبيّ]. وفي العادة لا يكتشف المستمعون أنّ
حبيبته – في الواقع – تجلس في انتظاره فوق النطع طوال الليل، وأنّها لا تستطيع أن
تحرق قلبه أو تحرق شيئًا آخر يخصه بما في ذلك عشاؤه دون أن تتعرض لعلقة مميتة
بالقبقاب..." (فرسان، ص90).
أما نصّ النيهوم الأقرب
إلى قضية رواية النعّاس، فلا شكّ عندي أنّه مقالة أو قصّة "السباع". هذا
لو قرأناها قراءةً اجتماعيّة أو تربويّة. يروي النيهوم حكاية طفلٍ يتعرّض للتنمّر
من أولاد الحيّ ومن زملائه في المدرسة. لا يساعده أحد؛ لا الجيران في الشارع ولا
والده ولا الأستاذ في المدرسة، بل ينهرونه ويعاتبونه. وفي أحد الأيام يأخذه والده
ليضربَ ابن الجيران المتنمّر، فتحتدّ المشكلة ويخرج الجار لمواجهته ويتعالى صراخ
الرجلين بتهديدات القتل وكسر الرؤوس وهدّ الأسنان! يتدخّل أهل الشارع هذه المرّة
(فالاشتباك بين كبار!) وينتهي العراك اللفظيّ. يذهبُ الطفل إلى المدرسة، يعترضه
زميلان متنمّران، يردّد الطفل ما سمعه من والده وجارهم، يهدّدهما بقتلهما وهدّ
أسنانهما وإخراج أمعائهما. ينصرف المتنمّران، ويجلس الطفل في سلام مُهادِن، وتدور
دائرة العنف الذكوريّ.
وإن كانت القصّة
عاديّة جدًّا وواقعيّة جدًّا (كحال بعض جوانب رواية النعّاس إلى حدٍّ ما)، فقد عرف
النيهوم أنّ أبسط تعليق حول معايير الرجولة في المجتمع الليبيّ لا بدّ أن يستفزّ
المجتمع، شرر بسيط تشبّ بسببه نارُ المجتمع المحافظ المسترجل. لذلك ختم النيهوم
مقالته/قصّته بثقة مُخلصة في مجتمعه:
"سيقول أحد ما إنني أسخر من شجاعة الليبيّين في
مواجهة الخطوب.
سيفقد أحد ما أعصابه ويتّهمني بالإساءة إلى مقدّساتنا.
سيزعم أنني أنكر كلّ شيء وأنكر أنّ بلدنا غابة صغيرة مليئة بالأسود، وأنّ المواطن
الليبيّ يولد حاملًا هراوته معه ويشقَّ بها طريقه إلى الجنّة. سيقول لي أحدٌ ما
"علي الطلاق نقتلك".
لذلك الرجل أنا أقول مقدّمًا "يستر الله". (فرسان
بلا معركة، ص211)
وللنيهوم أقول: إنهم
يقولون هذا الكلام اليوم عن رواية جديدة، في سنة 2022 بعد كتابة مقالتك تلك بخمسين
سنة تقريبًا، فلا تقلق يا سي الصادق، ستر الله باقٍ! وعلى كلّ حال، يبدو أنّ الأدب
أصدق في تأريخه للواقع من كتب التاريخ والدراسات وذاكرة الناس على مواقع التواصل
الاجتماعيّ! انطلقتُ متحمّسًا أبحث عن أمثلة أخرى صادقة في تأريخ الحياة الليبيّة.
تذكرتُ مجموعة قصص "لقاء" للكاتب إبراهيم حميدان، وكيف ناقش فيها مشاكل
ذكوريّة أخرى في المجتمع الليبيّ. أخرجتُ ملاحظاتي التي سجّلتها: الشاب الذي
يتحوّل من رومانسيّة الحبّ وأحلامه إلى العنف والشتم حين ترفضه المرأة التي هام
بها في قصّة "شمس الفقدان"؛ أبو البنات الذي يتمنّى ابنًا في قصّة
"أغنية صغيرة للحياة"؛ وحتّى الرجل الذي يريد لنفسه صورةً مهيبة دون أيّ
ابتسام في قصّة "ابتسامة". فكّرتُ أكثر فتذكّرتُ الكاتبات الليبيّات المُهمَلات،
اللاتي أعترف أنّني لم أقرأ لهنّ وإنما فقط قرأت عنهنّ. الرائدة مرضيّة النعّاس،
أوّل روائية ليبيّة، في رواياتها مثل "المظروف الأزرق" وقصصها مثل
مجموعة "غزالة"؛ لطفية القبائلي في مجموعة "أماني معلّبة"؛
شريفة القيادي التي بحثت لها عن أعمال ووجدتُ نفسي أترك العمل وأقرأ لها بعض
قصصها، مثل قصّة "ردفان ثقيلان" المكتوبة على لسان متحرّش يستعيد
ذكرياته ويتعجّب من كمّ المشاعر الغريبة التي تراوده في أثناء تذكّره ماضيه. الرجل
في حالة إنكارٍ تامّة لحقيقته، وكأنه يُصدم لأوّل مرّة بحقيقة أنّ تعبير
"الراجل ما يعيبه شي" وحماية المجتمع الأبويّ للرجال وتغافله عن جرائمهم
قد لا يعني أنه رجلٌ جيد!
تحمّست (هل قلت ذلك
عشر مرات حتى الآن؟ إن لم أفعل فسأفعل!)، وأردتُ العودة إلى أعمال أخرى للنيهوم
والمصراتي والقبائلي والقيادي وإلى غير هؤلاء من كتّاب وكاتبات، مثل زعيمة
الباروني ونادرة العويتي، وأردت أن أسرع إلى أعمال خليفة الفاخري وهشام مطر وعمر
الككلي وأحمد يوسف عقيلة ومفتاح العماري ومنصور بوشناف ويوسف الشريف وكامل حسن
المقهور، أردتُ أن أُقلّب كتب الأدب الليبيّ في مكتبتنا، وأن أُنقّب في الكتب
الإلكترونيّة المتراكمة عندي. كنت قاب قوسين أو أدنى من جمع مراجع رسالة ماجستير
مقارنة موضوعها الجندر والمجتمع في الأدب الليبيّ المعاصر!
ولكن، عمّ أكتب؟ ما
الذي أثارني؟ ألم أكن أريد الكتابة عن القضيّة؟ فلماذا تركتها وانتقلت إلى المجتمع
الليبيّ بأمثاله وأدبه؟ لا أعلم، ولكنّني فعلت. كانت أسباب اختيار الموضوع تتبلور
أكثر فأكثر: الدفاع عن الرواية، تأكيد وجود تلك المشاكل، الحديث عن الأدب الليبيّ.
ولكن، تلك الحماسة، أو لنقل الإثارة التي نبعت من قضيّة الرواية وبعض ردود الفعل
عليها، والإثارة التي نبعت من انتمائي لعالم الرواية الليبيّ، كانت تقابلهما إثارة
أخرى انتزعتني ممّا بين يديّ من الكتب الليبيّة إلى موضوعٍ آخرٍ.
عن النقد؟
كنت قد تحمّست (لا
داعي للعدّ) كثيرًا مع قضيّة الرواية، مع ليبيّتها أيضًا كما هو واضح، وانتقلتُ من
موضوعٍ لآخر وكدتُ أضيع. ولكنّ إثارةً ما، أو بالأحرى قلقًا ما كان يشدّني في
اتجاه موضوعٍ آخر، لعلّه كان أوّل موضوعٍ "أثارني" أو
"أقلقني" ولكنّني تجاهلته، موضوعٍ نبع من داخل الرواية وخارجها أيضًا،
وارتبط - كما ارتبطت القضيّة قليلًا - بآراء الناس.
على عكس الموجة
الشعبيّة الليبيّة (وغير الليبيّة) التي هاجمت لمواضيعها، مدحت موجة نقديّة أخرى الرواية
ودعمتها. بدأت هذه الموجة من لجنة الجائزة بطبيعة الحال، فقد أثنتْ اللجنة على الرواية
وأشادتْ ببعض عناصرها مثل قضيّتها وسردها ولغتها. وبالطبع، تناقل كثيرون رأي
اللجنة (وإن جاز لي أن أسيء الظن، فسأقول إنّ كثيرين كرّروا كلام اللجنة دون قراءة
الرواية!). وهنا موضوعٌ آخر للكتابة: النقد المادح الذي في أفضل حالاته لا يمكن أن
يُتّفق معه كليًّا، وفي أسوأ حالاته نعجز عن رؤية منطلقٍ أو أساسٍ قويمٍ له؛ إنّه
نقدٌ يعتمدُ على المبالغة حينًا وعلى التغافلِ أحيانًا أخرى كثيرة.
أثنت موجة النقد المادح تلك على السرد في
الرواية، فوُصف بأنه مُتقَنٌ وجريءٌ واقتصاديٌّ وذو عضلاتٍ حتّى قيل إنّه تجديديّ.
وهذه أوصاف رائعة لولا أنّ سرد الرواية (فنيًّا،
وحتّى موضوعيًّا) تقليديٌّ جدًّا! فأسلوب الراوي الذي يسترجع
أحداثًا وذكريات متداخلة زمنيًّا ليس
أسلوبًا جديدًا ولا جريئًا. وهو سردٌ لا اقتصاد فيه، بل على الضدّ، فيه أحيانًا
استغراقٌ مزعجٌ وحشو. أما الحبكة، ففيها مواضع قوّة، إذ إنّ النعّاس يبرع مرّاتٍ
في تضليلنا بخصوص بعض التفاصيل، ولكن حيثما يبرع النعّاس الكاتب يخفق ميلاد
الراوي؛ فتضليل وتشويق ميلاد غير مبرّر إطلاقًا. المستمع الصامت في الرواية لم
يأتِ ليسمع قصّة محدّدة بعينها، إنما جاء ليسمع قصّة حياة ميلاد، فلماذا يختار ميلاد
قصّة محوريّةً في الرواية يلفّ ويدورُ حولها ويؤكّد طوال الوقت أهمية استطراده
ويشوّقنا والمستمع إيّاه؟ وإذا قيل إنّ ميلادًا يجعل ارتيابه وشكوكه في أمر خيانة
زينب مركز السرد بسبب ما يحدث في نهاية الرواية، إذ ندركُ أنّها رواية
"اعترافات" كما وصفها شكري المبخوت رئيس لجنة التحكيم، فإنّ النهاية
تنسف احتماليّة تلك الطبيعة الاعترافيّة حين نعي أنّ حالة ميلاد العقليّة غير
سويّة وأنّه في حالٍ من الإنكار والغياب عن حقيقة ما فعله. لماذا يعترف إذا كان لا
يدرك فعلته؟ لماذا يختار قصّة محوريّة إذا كان يغفل عن أهميّتها؟
هل يجب أن نستعين بتبريرات العقل الباطن؟! لا أظن أنّ النهاية سبقها مقدّمات منطقيّة كافية.
صحيح أنّ ما حدث في النهاية عادةً يحدث دون مبرّرات، ولكنّنا هنا كنا نتابع رحلة
ميلاد (ونقاسي استطراده!)، كنا نرى صراعه الداخلي الذي أجاد النعّاس أحيانًا كتابته،
وهو صراعٌ رأيتُ أنه نابعٌ من طبيعة ميلاد الرافضة للمعايير الاجتماعيّة إلى حدّ
عدم قدرته على فهمها أحيانًا. ولكن فجأة تحوّل الصراع إلى انسحاق وإذعان! تحوّل
ميلاد من النموذج المخالف إلى النموذج المطابق، صار تجسيدًا لتعبير "الراجل
ما يعيبه شي" إلى حدّ أنه لا يعي فداحة ما فعله! أقول إن هذا التحوّل جاء "فجأة"،
لأنّ النعّاس حرص على أن يروي لنا صراعات ميلاد النفسيّة على مدى 300 صفحة ونيف، وهي
صراعات كثيرًا ما أكّد ميلاد لمستمعه (ولنا) أنّها مهمّة لفهم قصّته. لكنّني لم أشعر
أن تلك الصراعات تطوّرت بالقدر الكافي لتوصلنا إلى تلك النهاية، لم أرَ مثلًا تحوّل
ميلاد من الرقّة إلى القسوة تحوّلًا يُبرّر بتدرّجه انفجار العنف في نهاية الرواية
(نرى لمحةً واحدةً سريعة، لا أظنّها تكفي أبدًا للوصول إلى تلك النتيجة). وهذه
حسبما أرى مشكلة، لأنها تعارض منطق الرواية ذاتها، منطق سرد رحلة صراع وفهم صدمات
نفسيّة ومؤثّرات، لو كان العمل قصّةً قصيرة لا تعمّق نفسانيّ فيها لكانت النهاية
المفاجئة ملائمة تمامًا، لكن وقد انتهجت الرواية نهج التحليل الجواني للشخصيّة فإن
النهاية المفاجئة تبدو مجرّد قلّة صبر! لذلك شعرتُ أن النهاية قطعت مسيرة ميلاد،
شعرتُ أن الانعطافة السرديّة قفزت إلى مقدّمة الطابور أمام كلّ المؤثّرات، لتصير
الأولويّة في السرد لإحداث الصدمة لا لتتّبع رحلة ميلاد. وعليّ الاعتراف بأنّ
التعويل في السّرد على إحداث صدمةٍ للمتلقّي شيء سبق لي أن لمستُه يتكرّر في بعض
قصص النعّاس التي قرأتها قديمًا حتّى شعرتُ أن هذه الصدمة هي كلّ ما يبني عليه بعض
قصصه.
ولم يمدح النُقاد – مدحهم المخيّب – السّرد
فقط، بل مدح بعضهم لغة الرواية لبساطتها وبُعدها عن الإحالات الأدبيّة
و"موضة" التناصّ. مرّة أخرى هذا ليس جديدًا، وأظنّ أن تجنّب تداخل نصوص
أخرى أو البعد عن الإحالات ليس ميزةً فنيّةً هنا بل ضرورة اقتضتها شخصيّة ميلاد
غير المثقّفة. وهذا يقودنا إلى من أغدقوا المدح على لغة الرواية، زاعمين أنها رغم
بساطتها جاءت متألّقة فصيحة، مثل ياسر سليمان رئيس مجلس أمناء الجائزة الذي نفى
تمامًا أن يكون في الرواية تكلّفٌ أو ابتذال (وهو ذاته من وصف ميلادًا بأنه
"راوٍ عليم" كما لو أنه ما قرأ الرواية أو فهم المصطلح!). أرغب أن أقول
هنا بصراحة إن لغة ميلاد ما كانت متألقة ولا وافقت شخصيّته. ميلاد البعيد عن الثقافة
والأدب الذي لم يتحدّث عن الكتب إلا في سياق ذكره كتب الطبخ أو كتب زينب أو
محاولته الوحيدة الفاشلة في القراءة، لغته كلّها تكلّفٌ وابتذال يليق بأشباه
المثقفين والأدباء الواهمين! فمثلًا، حين يصف ميلاد سقوطه أثناء تدريبات عسكريّة
ومعاقبته بجعل زملائه من المجنّدين يمشون على جسده، يقول: "وجهي تحوّل إلى تمثالٍ طينيّ، وظهري صار لوحةً فنيّةً
تحمل مقاسات الأحذية العسكرية الثقيلة"؛ وحين يصف ارتباطه بالبناية التي عاش
فيها صغيرًا يقول: "العمارة المتهاوية التي نقشتُ فيها رائحة دمي ومخاطي
وعرقي"؛ وحين يصف نهديّ امرأة يقول: "نهداها يتدلّيان كعنقودي عنب
ناضجين مستعدّين للقطاف"؛ وحين يحاول وصف الكرواسون يقول: "لكن
الكرواسون، إنه... إنه شيءٌ يشبه الرومانسية"؛ وحين يُعلّم زينب التدخين يقول
لها: "عليكِ في البدء أن تشعري بوجودها معك، استنشقيها كأنها
النصف المفقود من حياتك وقد وجدته بعد بحثٍ طويل". هل تبدو اللغة في
الاقتباسات السابقة لغةً بسيطة؟ أو هل تبدو لغة شخصٍ ساذجٍ غير مثقّف أو قارئ؟
إنّها لغة مُقلّدٍ فاشلٍ لنزار قبّاني! وإذا كان ادّعائي مقاربًا للصحّة، فلا يمكن
أن تكون هذه لغة ميلاد الرجل الذي حرص النعّاس على أن يعزله عن المؤثّرات
الثقافيّة (باستثناء الأغاني والأفلام، التي لا تؤدي بحال إلى هذه اللغة
المبتذلة). وبصراحة، كنت قد لاحظتُ مثل هذا التكلّف في بعض قصص النعّاس قديمًا، الأمر
الذي يشعرني أنّ النعّاس لم ينجح تمامًا في فصل صوت المؤلّف عن صوت الشخصيّة، وهذا
معيارٌ فنيُّ قد لا يكون هامًّا في أعمالٍ سرديَّةٍ أخرى، أما هنا فهو نقطة
إشكاليَّةٌ؛ لأنه يُماهي الفرق بين ثقافة المؤلف ومستوى ثقافة الشخصيَّةِ كما
كتبها ورسم حدود عالمها.
كلّما فكرتُ أكثر في
هذه العناصر الفنيّة وفي النقد المادح للرواية، تراجعتْ حماستي للقضيّة وهويّة
الرواية الليبيّة وراء اضطرام حماستي لنقد النقد! صارت عيوبُ الرواية تتكشّف أمامي
وتكبر، حتى انحصر موضوع الكتابة في رصد تلك العيوب التي لم ينتبه لها المؤلّف (رغم
حديثه عن مراجعة الرواية وتمزيق مسوّدتها الأولى)، ولا المحرّر أو الناشر، ولا لجنة
تحكيم الجائزة (التي تؤكّد أنها اتبعت عملية طويلة في الاختيار، ومدح رئيسها
المؤلّفَ على تأنّيه وحرصه على المراجعة)، العيوب التي لم ينتبه لها أيضًا كثير من
القارئين والقارئات ممن أخذوا وأخذن بالثناء على الرواية ونشر اقتباسات مبتذلة
منها.
وهكذا عادت إلى
الواجهة عيوبٌ كثيرة كانت قد أزعجتني في أثناء القراءة، عيوب ربّما حاولت الهروب
منها سابقًا. عيوبٌ مثل الاستغراق في الوصف دون دقّة، حدّ تشويش المشهد وتضييعه
(وهذا أيضًا شيءٌ موجود في قصص النعّاس). والدقّة في الوصف قد تأتي بإكثار
التفاصيل أو وإقلالها، فالمشكلة ليست في الاستغراق أو الاستطراد بقدر ما هي في
انتقاء التفاصيل التي تضعنا في المشهد أو تصوّره لنا وتنقل لنا مشاعره. عيبٌ آخر
في هذه الرواية التي تسأل في الأدوار الاجتماعية المعياريّة للرجال نلحظه في تسطيح
الشخصيّات النسائيّة حدّ الوقوع في النمطيّة (المومس الطاهرة، والمرأة المتحرّرة
المهنيّة التي لا تهتم بشيءٍ في حياتها الزوجيّة، والمرأة الماكرة المغرية مدمّرة العائلات
والزيجات). شعرتُ أن النعّاس حاول أن يتفادى مشاكل كتابة شخصيّات نسائيّة بوضع
نساء الرواية في الخلفيّة، وكان بمقدوره النجاح في ذلك والتملّص من الأمر، لولا
أنّه فشل في إبعاد النّساء بالقدر الكافي حتى وقع في التنميط. بل إنّ شخصيّة ميلاد التي كانت تعجبني خِفّة معالجتها
لموضوع المعايير الذكوريّة تراجعت بعض فضائلها وراء العيوب حين أنعمت النظر في
العناصر الفنيّة: روايته غير المنطقيّة للأحداث (تشويقه غير المبرّر، حالته
العقليّة، حتّى صراعاته الداخليّة التي أجاد النعّاس أحيانًا كتابتها بصدق بارعٍ
تصير متناقضة مع مآلات ميلاد وروايته)؛ لغة ميلاد المتكلّفة المبتذلة غير المتّسقة
مع شخصيّته، تحوله المفاجئ غير المبرّر في النهاية.
انعكس اتجاه حماستي تمامًا كما هو واضح، وشعرتُ أنني صرتُ أتقنّص عيوب الرواية! حتّى ما فيها من تاريخ وسياسة صار يقفز فجأةً إلى ذهني ويضايقني بعد أنْ تجاهلته أثناء القراءة. تذكرتُ عدم ارتياحي مع تفصيل تعلّم والد ميلاد الخَبز من خبّاز إيطالي ورث عنه مخبزه، وإشكاليّة هذه الرمزيّة التاريخيّة التي تكاد تقول إنّ الاستعمار الإيطاليّ جاء إلى ليبيا بفنون الخبز الراقيّة التي تخلّى عنها الليبيّون أو ضيّعوها بسبب ظروفهم السياسيّة والاقتصاديّة (وإن كان واضحًا في الرواية أن بعض هذه الظروف قسريّة). وكذلك المشهد الذي يدخل فيه ميلاد مطعم بنيامين الطرابلسي، اليهوديّ الليبيّ المهاجر في تونس، إذ رأى فيه ميلاد صورًا قديمة لليبيا بما في ذلك "قوس ماركوس أوريليوس بعد أن رمّمه الإيطاليون"، وصورة "الحاكم العسكريّ بالبو داخل مطعم يهوديّ في طرابلس يجلس صحبة ربّي [حاخام]". هل نفهم هنا أننا يجب أن نذكر محاسن الإيطالييّن الذين رمّموا ما أهمله الليبيون؟ أم أن نترحّم على بالبو مع الحمقى الذين يترحّمون عليه بوصفه "باني ليبيا الحديثة" متجاهلين واقع أنه حاكمٌ مُحتل جاء به استعمارٌ دمويّ؟ وعقب تلك المقاطع يُحدّثهم بنيامين عن حنينه إلى حياته القديمة في ليبيا، أيام التعايش العرقي والثقافي. زمن هذا التعايش الذي يتحدّث عنه بنيامين غير واضح، لكن قربه من المقاطع التي ذكرت الاستعمار الإيطاليّ يثير التوجّس من أن يكون زمن الاحتلال هو الزمن المقصود! يصف ميلاد ذلك المطعم بأنه "متحف للنوستالجيا الليبو-يهودو-إيطاليّة" (هذا مش وصف أستاذ علم اجتماع، هذا وصف ميلاد غير المثقف غير المتعلّم، وباهي!). في رأيي الشخصيّ، لا يعقل أبدًا أن يكون إلى الاستعمار الإيطاليّ ومتاحف النوستالجيا الليبو-إيطاليّة أي حنين! لهذه النوستالجيا متاحف أخرى، صورٌ أخرى للقتلى والدمار والمشانق ومخيمات الاعتقال والإبادة السكانيّة حيث لم يعلّموا عشرات الآلاف من الضحايا الليبييّن فنون الخبز. كتابات المفكّر الليبي علي عبد اللطيف احميدة عن الإبادة الإيطاليّة في ليبيا مرجع مهم لمن يريد معرفة حقيقة النوستالجيا الإيطاليّة (هذا على اعتبار أن كلّ ليبيّ وليبيّة لم يسمعوا ذلك من أجدادهم وجدّاتهم، أو يجدوه في شعر رجب بوحويش أو أحمد رفيق وكتب تاريخ ليبيا وأدبها وحتّى فيلم عمر المختار!!!).
شعرتُ بعدم الارتياح
مع هذه المقاطع، بأن صمتًا مريبًا يعلق بها؛ لأنني أشعر أن تتمّة كان يجب أن تُقال
هنا فلم تُقَلْ، تفاصيل أخرى توجهّ ذلك الكلام عن الاستعمار الإيطالي إلى كونه
كلامًا يعبّر عن أفكار رجل بسيط أو انطباعات غير دقيقة أو مجرّد تفاصيل عابرة.
لدينا بالطبع شخصيّة المادونا، الضابط المتوحّش في المعسكر الذي التحق به ميلاد لمدّة،
والذي ما انفك يهين ميلادًا ويُشكّك في رجولته أثناء التدريبات العسكريّة. اكتسب المادونا
لقبه من كلمة "مادونا – العذراء" التي كان يرددها الضابط الإيطاليّ في
المعسكر الذي تدرّب فيه قديمًا، فقد يرمز المادونا إلى الصدمة النفسيّة التي لحقت
بالليبيين من الاستعمار الإيطاليّ العنيف الذي ما زال يلاحقهم في كوابيسهم، كما يلاحق المادونا – إلى جوار آخرين – ميلادًا في كوابيسه. لكنني أعتقد أن المادونا لا يؤدّي مهمّة الرمز
إلى بشاعة الاستعمار؛ فهو مثقلٌ بالرمزيات. يمثّل المادونا ذكوريّة المجتمع
العنيفة، ويمثّل الذكورية العنيفة المرتبطة بمؤسسات الدولة والجيش، ويمثّل أيضًا
حكم القذافي ونظام "الشعب المسلّح". تمثيل المادونا للاستعمار – إن صح –
يتراجع خلف كلّ تلك الرمزيات الأخرى الأبرز بحكم موضوع الرواية وزمانها ومكانها – في
أثناء قراءتي الرواية لم أفكّر قط في أن المادونا يرمز للاستعمار، كان مجرّد رجلٍّ
ليبيّ آخر يهدّ مضجع ميلاد بمعاييره الذكوريّة العنيفة عن الرجولة. لا يتمكّن
المادونا إذن من تشويش ذلك الصمت المريب بخصوص الاستعمار الإيطاليّ، حضور بالبو في
قصّة المادونا (حيث يقال إن المادونا وُلد لأمّ إيطاليّة وأب إريتري من جنود
بالبو) أضعفُ بكثير من حضوره في "متحف النوستالجيا"، بل قد يُرى أن
والدَي المادونا يمثّلان التعايش الثقافي والعرقي!
ولكن، لأن الراوي هو
ميلاد، فقد يُلحّ علينا بواقع أن ميلادًا ساذجٌ وليس له باعٌ في السياسة والتاريخ،
فيصير الافتراض الأساسيّ أنّه لا يفهم في هذه الأمور الكبرى، ولذا لا يجدر بنا أن
نقرأ المواقف أخلاقيًّا قراءةً عقلانيّة (خاصّة حين نكتشف لاحقًا حالته العقليّة).
أظنّ أنّ النعّاس يؤكّد على طبيعة ميلاد هذه حين يجعله يتحدّث بسذاجة عن الأمن
والأمان في زمن القذافي وأن كلّ ما يحدث في البلاد من ظلم وفساد لا بدّ أن يكون
غائبًا عن الأخ القائد (وبصراحة لا أستطيع قراءة هذه الفقرات عن القذافي وعهده إلا
بسخرية مريرة تجعلني أفترض أن النعّاس كتبها قاصدًا السخرية والسذاجة). ميلاد شخصٌ
ساذجٌ ومغيّب. لكنّ الكلام عن الاستعمار الإيطاليّ وصوره وفكرة وراثة صناعة الخبز
كلّها تأتي مرمنسة دون تشويش يشبه التشويش في السخرية الخافتة في حديث ميلاد عن
الأخ القائد، أو الصراعات النفسيّة التي يخوضها ميلاد بخصوص معايير المجتمع
الجندريّة. أفلم يجدر بالنعّاس أن يرينا ذات السذاجة واضطراب الذهن حين يتكلّم
ميلاد عن الاستعمار الإيطاليّ؟ أيّ شيء يلفت انتباهنا إلى أنّ تجارب ميلاد أو
أحداث الرواية لا تقول ما لا يريد الكاتب أن يقوله. ولكننا لا نرى ذلك؛ ما نراه
بوجهٍ أوضح أن الاستعمار الإيطاليّ يظهر على أنّه نوستالجيا!
الموضوع إذن تغيّر، العيوب أبحرت بي حتى أوصلتني إلى الحديث عن الاستعمار! العمّاذا ارتبكتْ جدًّا. تداخلت المواضيع ووجدتُ نفسي أغرق في صفحات وصفحات دون القدرة على الإمساك بشيء معيّن أكتب عنه. كلّ شيء تراجع وراء السؤال الضخم الذي افتتحت به هذه الكتابة: عمَّاذا نكتب حين نكتب عن القراءة؟ هذا السؤال – سأعترف – هو في الأغلب حيلة خدعتُ بها نفسي لأكتب ما أريد أن أكتبه فعلًا دون أن أدرك ذلك، حيلة تحجب عني حقيقة تجربتي في قراءة هذه الرواية. ولكنّها لم تنجح فعلًا، أليس كذلك؟ بدأتُ بالقضيّة الاجتماعيّة التي أعجبتني وأردت أن أهبّ للدفاع عن الرواية ومؤلّفها، وانتقلتُ منها إلى البحث ونقد المجتمع وتأريخه المتغافل عن واقعه، ثم إلى الحديث عن الأدبّ الليبيّ المغمور والتعريف به، ووصلتُ في نهاية المطاف إلى تتبّع عيوب الرواية وعيوب النقد المادح لها، إلى ما أظنّ أنّني كنتُ أهرب منه.
ولكن، لماذا احتجت
لخداع نفسي؟ لقد فهمتُ ذلك في الأيام الماضيّة.
عمّاذا؟
كنتُ، كما يحدث في بعض
ليالي الأرق، أقرأ الكوميكس والروايات المصوّرة. أخذت رواية Watchmen لآلن مور
وديف غيبنز. بصراحة لم يكن خيارًا موفّقًا للأرق، أعني للقراءة نصف الواعية
السريعة الهروبيّة. مع عبقريّة آلن مور وبراعة ديف غيبنز يصير العمل استبداديًّا:
ترغمك كلّ التفاصيل على التركيز (وهذا من ناحيةٍ استغراقٌ مناسبٌ للهروب!). إعادة
القراءة مشكلة إضافية هنا، فهي في حالة الأعمال الغنيّة تمنحك راحة المألوف
المرغوبة لكنّها تفاجئك بجديدٍ غاب عنك أو تُجدّد لك أهمية شيءٍ قديم. حدث هذا
مثلًا حين قرأتُ المشاهد التي تواجه فيها الشخصيّات جريمة اغتصاب أو محاولة
اغتصاب. مع كلّ الكلام الموجع والمغضب الفترة الماضيّة – وهو كلامٌ لا ينقطع للأسف
– عن التحرّش والاغتصاب والعنف وتستّر مؤسّسات ثقافيّة بارزة على الجناة، وتساهل
مؤسّسات الأمن والعدالة معهم، والتشكيك في روايات الناجيات، وجدتُ نفسي انتبهت أكثر إلى التفاصيل في طريقة كتابة آلن مور لهذه القضيّة.
يدور حوارٌ بين
رورشاك ولوري (سيلك سبيكتر 2) عن إدوارد بليك/الكوميديّ. لا تتعاطف لوري مع مقتل
الكوميديّ البتّة، "كان وغدًا. كان وحشًا. تعلم أنه حاول اغتصاب أمي ...".
يردّ رورشاك "إذن تؤيدين مزاعم الاغتصاب التي قذفه بها كتاب هوليس
ميسون؟"، فتُصحّح له لوري بحزم: "ما قاله هوليس ميسون [في كتابه] هو ما
حدث". في مقابل تخاذل رورشاك (المتنكّر بالحذر الموضوعيّ)، نرى ثبات لوري
التي تؤكّد أنها ليست مزاعم بل وقائع. يحتدّ النقاش بينهما حين يحاول رورشاك
التملّص من الموضوع بقول إنه لم يأتِ لمناقشة "زلّات أخلاقيّة" لرجلٍ وطنيّ.
لا تتركه لوري يُفلِت، تصرخ "زلّات أخلاقيّة؟!" وتسأله إذا كان الاغتصاب
زلّةً أخلاقيّة، إذا كان كسر أضلاع الضحيّة زلّة أخلاقيّة، إذا كان خنقها حتّى
كادت تموت زلةً أخلاقيّة. يتدخّل دكتور مانهاتن وينتهي النقاش. ثم يعود بنا آلن
مور إلى الماضي، إلى محاولة الاغتصاب، لنرى بأنفسنا ما حدث بعد أن رأينا الشخصيّات
تتحدّث عنه. يتحرّش الكوميديّ بسالي (سيلك سبيكتر الأصليّة، أم لوري)، يفسّر
كلامها عن حاجتها لتغيير ملابسها بأنه دعوة له، يمسك بها، تقول له لا، فيقول لها
"لا ولكن تهجئتها ن. ع. م". تصرخ به سالي وتقول إنها لا "بلام
وألف!". لا ينصت. تحاول سالي تخليص نفسها منه، تدفعه وتجرحه في وجهه، فيفقد
عقله ويضربها ويطرحها أرضًا. في اللحظة الأخيرة قبل أن تكتمل الجريمة يدخل
بالمصادفة أحد "الأبطال" الآخرين، ينهال على الكوميديّ ضربًا، يلعنه
ويشتمه متقزّزًا، ولكنه يتركه ينصرف دون محاسبة حقيقيّة، ثم يقول هذا البطل المنقذ
لسالي بقلة صبر: "استري نفسكِ بحقّ الله!".
استوقفتني هذه
المشاهد، دقّة وصدق معالجة آلن مور لهذا الأمر، وكيفيّة عرضه في سياق
"الأبطال": بطلٌ مغتصب، بطلٌ متستّر يحمّل الناجية المسؤوليّة، وبطلٌ
يُشكّك في التهمة ويجعلها "مزاعم". أعتذر من الاستطراد، لكنّني أخيرًا
كتبت شيئًا عن القراءة دون تهرّب أو تمويه، دون قلق! ولكن، لأعُد لما قبل هذا
الاستطراد، حين قلتُ إنّني فهمت حاجتي لخداع نفسي كان ذلك بسبب قراءة تلك الفصول
من رواية Watchmen في ليلةٍ مؤرّقة، بسبب الخيبة التي قرأتها فيها.
لعلّ Watchmen هي أوّل قصّة تضع "الأبطال الخارقين" في سياق واقعيّ، بكلّ
مشاكل العالم ووسخ السياسة وأوهام المبادئ العالية والتفوّق الأخلاقيّ. قبل واقعية
Invincible وقبل جنون The Boys، وقبل
"ماذا لو" Irredeemable وInjustice، كتب آلن مور عن أبطال خارقين مغتصبين
ومجرمي حرب، أبطال خارقين يخدمون الإمبرياليّة العالميّة والحكومات الفاشيّة،
أبطال خارقين متطرفيّن، غير مكترثين، منفصلين عن الواقع. كتب آلن مور عن خيبة
العالم الواقعيّ في مواجهة عالم الخيال. هذا الإحساس العميق بالخيبة، الذي نجده في
كلّ صفحةٍ من صفحات الرواية حيث تتكشّف حقيقة هؤلاء الأبطال، كان في الأغلب ما
دفعني إلى فهم ما حصل لي حين أردتُ أن أكتب عن رواية "خبز على طاولة الخال
ميلاد".
حين أُعلن فوز الرواية،
تردّدت. سبق لي أنْ قرأتُ أعمالًا للنعّاس منذ سنوات، قصص قصيرة ومقالات، شعرتُ أنّها
متكلّفة وأن قصّصه تعتمدُ كثيرًا على إحداث الصدمة (عدا قصّة أو اثنتين)، وقد توقفت
عن متابعتها. وسبق أيضًا أن قرأتُ روايات من قوائم جائزة "البوكر
العربيّة"، وتعجبّت كيف رُشّحت، بل كيف نُشرت! خليط غير مبشّر من التجارب
السابقة. ربّما ما كان يجب أن أشعر بهذا التردّد؟ لا مفرّ من حضور التجارب السابقة
وتأثيرها، ولكنّني لم أقرأ الرواية مثقلًا بالتصوّرات أو الأحكام المسبقة وحسب، بل
أتيتُ أيضًا بكثير من الأمل: لعلّ النعّاس تطوّر، لعلّه استفاد من التحرير، لعلّ
معايير لجنة الجائزة أعلى هذه السنة، لعلّ كلّ كلام النُقّاد عن الرواية صحيح،
وإعجاب القُرّاء والقارئات صحيح، لعلّ ثمّة أمل. أتيتُ بكثير من الأمل، وكثير من
الدوافع التي تُعدُّ سيئة! أردتُ أن أقرأ الرواية لأعرف بنفسي صدق ما يقوله الناس
من عدمه، لأواكب التطوّرات الثقافيّة في عالم العربيّة، لأستطيع أن أُطلق العنان
لثرثرتي. شعرتُ أيضًا بمسؤولية، التزامٌ وطنيّ! يجب أن أقرأ رواية ابن بلادي التي
مُنحت أكبر جائزة عربية! وشعرتُ أيضًا بأن أهمية القضية المحوريّة في الرواية
وحديثها عن المجتمع الليبيّ كلّها أشياء عندي مسؤولية تجاهها، مسؤوليّة قراءتها
ودعمها. أظنّ أنّ وصف مسؤولية غير دقيق، فالإحساس فعلًا كان أقرب للأمل من
المسؤوليّة، أملٌ شديدٌ في أنْ يصدُقَ كلام كلّ النُقّاد، في أنْ تستحقّ الرواية
التكريم، في أن يُبدع النعّاس عملًا رائعًا، في أن تنتقد الرواية مشاكل معايير
الرجولة والجندريّة في المجتمع الليبّي وتنتقد ذكوريته وأبويته، حتّى في أن تُعرّف
العالم على أدب ليبيا! آمالٌ كثيرة!
وخيبات كثيرة. قرأتُ
الرواية. أعجبني بعض ما فيها ولم يعجبني الكثير ممّا فيها. كنت أرغم نفسي على
القراءة أغلب الوقت، لم أستمتع بالرواية إلا في أحيانٍ قصيرة عابرة. قلت لزوجتي
وأنا أصدّع رأسها بأكثر ممّا كتبته هنا (الحمد لله عليها وعلى حبّها الصبور!): لا
داعي لأنْ تضيعي وقتكِ بقراءتها. ولكنّني أمضيتُ وقتًا طويلًا أحاول الكتابة عنها
وأنفقت حبرًا وورقًا (وهذه كذبة طبعًا لكنّني استهلكتُ الكثير من الكهرباء على
الكمبيوتر وأنا أكتب مسوّدةً تلو الأخرى)، يدفعني ذلك القلق من موضوعٍ لآخر، من
استطرادٍ لآخر، دون أنْ أركن إلى شيء. حتى قرّرت أن قضيتي المحوريّة ليست الحديث
عن قضيّة الرواية والأدب الليبيّ، ولا تفكيك عناصر الرواية الفنيّة ومواجهة النقد
المُلمِّع غير النزيه، ولكنّ قضيتي هي هذه الحيرة حول الكتابة: أهدافها وموضوعها
ودوافع اختيار ذلك الموضوع. خيبتي بقيت عالقة بي حتى صارت حيرة اقتضت حيلة.
أردتُ فعلًا أن تكون
روايةً رائعة، أو حتّى جيّدة. لكنها كانت روايةً عاديّةً مليئةً بالعيوب، استمتعتُ
ببعض صفحاتها، وأقررتُ بإتقان فقرةٍ هنا ومشهدٍ هناك وبأهمية القضية وصدق تصوير
المجتمع. نعم، لقد تطوّر النعّاس كثيرًا، لكن ليس بما يكفي، ونعم، أظنّ أن التحرير
ساعده كثيرًا، ولكن ليس بما يكفي. كانت قراءة
الرواية كاملةً عملًا شاقًّا، كانت واجبًا أرغمت نفسي على إكماله متمسّكًا بأملٍ
ما في أن تشفع الرواية لكلّ ذلك بعد قليل، بعد بضعة فصول، مع النهاية، ولكنّ ذلك
لم يحدث. قلت لنفسي إنّ الرواية ليبيّة جدًّا، فيها تاريخ ليبيا ومجتمعها، شوارع
طرابلس وتفاصيلها، أغاني أحمد فكرون، ألا يشفع لها كلّ هذا؟ لو كان، لمُنحت
الجوائز الأدبيّة لمنشورات المكاتب السياحيّة! حسنًا، قضيّة الرواية مهمّة،
واستخدام الأمثال، ألم يعجبك هذا؟ لعلّ بحثًّا أو مقالة كانا سيؤدّيان الغرض دون
مزاعم الإبداع الفنّي. ماذا عن تعريف العالم بأدب ليبيا وثقافتها؟ ثمّة أعمالٌ
أجدر، ثم إنّ هذا لا يحدث بروايةٍ أو كاتبٍ واحد، شهرة الكوني الخارقة لم تُعرّف
أحدًا على أيّ شيء سوى أعماله؛ حين ترشّحت رواية "زرايب العبيد" لنجوى
بن شتوان في القائمة القصيرة لذات الجائزة (وهي الرواية التي قصدتها حين قلت لم
أعرف كيف ترشحت ولا كيف نشرت، والتي سأقول أيضًا إن رواية النعّاس مع عيوبها أفضل
منها!)، قيل حينها الكلام ذاته عن تعريف العالم بأدب ليبيا، ولم ينتج من ذلك شيء
سوى أنّ بن شتوان نشرت ثلاثة كتب بعد ذلك لم يتحدّث عنها أحد. لعلّك إذن تبالغ؟ تقتنص
الأخطاء (وهذا كلامي بطرف لساني أو أصابعي قلتُه سابقًا)، تقتنص الأخطاء وتنتقد؟
الكمال صعب، وقلّ من يصل إليه! لا تكن نخبويًّا إقصائيًّا!
توقفت قليلًا مع هذه
المراجعة الذاتيّة الأخيرة. اتهمتُ نفسي بالنخبويّة والشروط التعجيزيّة والسكن في
الأبراج العاجيّة (آسف على السجع). ولكن، كلا، لن أتنازل بصراحة، فخيبتي أكبر. أعلم
تمامًا أنّ لا مشكلة في أن تكون الروايات الأولى متعثّرة، أن يكشف لنا الكاتب
والكاتبة عن لمحة إبداع، عن موهبة دفينة نشجعهم على استخراجها وصقلها وتطويرها.
المشكلة في تجاهل أن ما رأيناه كان مجرّد "لمحة"، كان بناءً غير متكامل،
خطوةً أولى. فهل المطالبة بعدم تجاهل العيوب، واستنكار قلب العيوب إلى فضائل شرطٌ
تعجيزيّ؟ هل استهجان منح الجوائز لأعمال عاديّة أو سيئة نخبويّة؟! لا شروط
تعجيزيّة هنا ولا نخبويّة، خيبةٌ فحسب. ثمّة أعمال كثيرة مهما محصّناها لا نجد
فيها عيبًا واحدًا. فكّرتُ فورًا بطبيعة الحال بتولستوي، واستحضرتُ رواية
"الحاج مراد" فقد أعدتُ قراءتها منذ مدّة قريبة. ليس في الرواية كلمةٌ
واحدة في غير موضعها، روايةٌ لا شيء يُضاف إليها ولا شيء يُعدّل فيها. فكّرتُ
أيضًا في كتاب "العودة" لهشام مطر وروايته "في بلد الرجال"، قرأتُ
كليهما بسبب فوز "العودة" بعدّة جوائز وبسبب مدح "في بلد
الرجال". وحزّروا ماذا حدث؟ كان كلّ المدح صادقًا، لم يخبْ ظنّي بل صار عندي
كاتبٌ مفضّلٌ جديد قرأت كلّ أعماله وبعضها أكثر من مرّة. كثر حديث قرّاء العربيّة
منذ سنوات عن رواية "ستونر" لجون ويليامز، قرأتها وكانت فعلًا مدهشة ولعلّها
صارت من رواياتي المفضّلة (جدير بالذكر هنا أن أوّل رواية نشرها ستونر كانت سيئةً
إلى حدّ أنّه تبرأ منها وتجاهلها تمامًا ثم كتب بعدها أعمالًا عظيمة، ولكنّه لم
يُمنح أي جائزة على روايته الأولى تلك!). رواية "الأشياء تتداعى" لتشينوا
أتشيبي قرأتها حذرًا من أنْ تكون أهمية قضيتها ما بعد الاستعماريّة قد منحتها قيمة
أعظم ممّا تستحق، وانتهى بي المطاف قارئًا روايات أتشيبي الخمس ومقالاته وشعره.
الأمر ليس مستحيلًا! ليس نخبويًّا وليس تعجيزيًّا، بعض الكتب يُمدح ويُمنح الجوائز
ويناقش قضايا، وبعض الروايات الأولى يخلو من العيوب أو على أقل تقدير لا تثقله
العيوب إلى حدّ أن يغرق ويغرقنا معه في الخيبة.
أردتُ حقًّا أن أكتب
بشغف، أن أمدح وأشجّع وأدعم، أن أدافع بشراسة عن قيمة الرواية الفنيّة، أن أهدي
أصدقاءنا غير الليبيين الكتابَ، أن أضعه في قائمة توصيات الأدب الليبيّ. أردتُ أن
أعقد هدنة مع الجوائز الأدبيّة وأقول حسنًا في هذه الحالة كانت الرواية تستحقّ.
أردت أن أقول نعم، الرواية تنتقد المجتمع وتعالج الذكوريّة والأبويّة وتفعل ذلك
ببراعة وليس لأحد أن يفتح فمه ويقول الرواية فازت لموضوعها. أردتُ أن أقتبس منها
اقتباساتٍ لا أستدلّ بها على الابتذال. أردت أن أمدح فيها شيئًا غير قضيّتها. أردت
وأردت وأردت، ولكنّني لم أجد شيئًا مما أريده، لم أجد ما أكتب عنه، فوجدتُ نفسي
أنتقل لمواضيع أخرى، أهرب إلى الأمثال الليبيّة، أقتبس من النيهوم وأُعدّد أعمالًا
ليبيّة، نقلني القلق إلى أشياء أرغب في الكتابة عنها (حتّى انتهى بي عند رواية Watchmen!)، ووجدتُ
نفسي محاصرًا، فلا مفرّ من أن أكتب نقد النقد، أن أقتبس الابتذال وأشير للعيوب،
وأدركتُ أنني كنت أخدع نفسي لئلا أواجه الخيبة، كنت أتخفّى وراء الحيرة وأطرح أسئلةً
كبيرة مثل عمَّ نكتب حين نكتب عن القراءة وأعيش دور الفيلسوف الأدبي! ليخيب أملي
حتّى فيّ أنا، وأقرّ بخدعتي، وأعترف بأنني لا أستطيع إجابة هذا السؤال حقًّا، حتى لو
كان في هذه المقالة محاولات، لأنني لا أريد حقًّا إجابة هذا السؤال، فالسؤال
الوحيد الآن هو: عمّاذا تكتب حين تكتب عن قراءة "خبز على طاولة الخال
ميلاد" يا إبراهيم؟
أظن أنّ الإجابة
واضحة.
* الاقتباسات من
رواية Watchmen هي بترجمتي، وبطبيعة الحال طوّعتها قليلًا للعربية، مثل حال كلمتي
نعم ولا وتهجئتهما.
ملحوظة: أزعجتُ زوجتي
الحبيبة (قارئتي ومحرّرتي الأولى!) وبعض الصديقات والأصدقاء بقراءة مسودات هذه
المقالة الطويلة، ليس فقط لتنقيح لغتي الركيكة أو مشاركتي انطباعاتهم العامّة، بل
فرضتُ عليهم مناقشتي وتحدّي ما كتبته. أظنّني كنتُ ما زلتُ متأرجحًا بين الأمل
والخيبة، راغبًا في أن أكون مخطئًا، في أن يقول لي أحدهم أو إحداهن كلامك متحامل
أو نخبويّ أو متهافت. الشكر موصولٌ لهن ولهم جميعًا. هو طبعًا هذي مقالة مش بحث
دكتوراة محتاج شكر وتقدير! لكنني شعرتُ أن بيننا تواطؤًا ما أحببتُ تقديره وشكرهن
وشكرهم عليه.
مراجع:
أبوخشيم، حواء مصباح سعد. الأمثال الشعبيّة في
ليبيا: دراسة مثالية محكمة مع الشرح والتحليل. مطبعة العمرانية للأوفست. الجيزة.
ط1. 2014.
حقيق، الحاج محمد.
الأمثال الشعبيّة في ليبيا. الشركة العامة للنشر والتوزيع والإعلان. ليبيا. ط1.
1978.
العقوري، سالم. رسائل
الأجداد للأحفاد. دار الكتب الوطنية. بنغازي. ط1. 2002.
قادربوه، عبد السلام
إبراهيم. نصوص من الأمثال الشعبيّة. الإدارة العامّة للثورة الثقافيّة. بنغازي.
دون طبعة. دون سنة.
المصراتي، علي مصطفى.
التعابير الشعبيّة الليبيّة، دلالات نفسيّة واجتماعيّة. المنشأة العامة للنشر
والتوزيع والإعلان. ليبيا. ط1. 1982.
المصراتي، علي مصطفى.
المجتمع الليبيّ من خلال أمثاله الشعبيّة. طرابلس. ط1. 1962.
النيهوم، الصادق.
تحية طيبة وبعد. تالة للطباعة والنشر. طرابلس. ط2. 2001.
النيهوم، الصادق.
فرسان بلا معركة. تالة للطباعة والنشر. طرابلس. ط1. 2001.
Moore,
Alan; Gibbons, Dave (1986). Watchmen. DC Comics. California. 2014.
لقد مررتُ من هنا، وأعجبني ما كتبت كثيراً، في انتظار القادم !
ردحذفوأخيراً انتهيت من قراءة هذا المقال، وكل الكتب والأسماء التي ذُكرت ولم أعرفها ذهبت للبحث عنها وسأقرؤهم وعنهم، أنا قارئة من الصين، سعيدة بهذا القدر الذي قادني لصفحتك، ولكنك لم تجدد كتاباتك منذ زمن طويل، آمل أن تكونوا بخير..
ردحذف