العودة من أجل المواساة
"ونفسُ المُحبِّ متخلّصةٌ
عالِمة بمكانِ ما كان يُشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدةٌ إليه، باحثةٌ عنه،
مشتهيةٌ لملاقاته، جاذبةٌ له لو أمكنها كالمغنطيس والحديد."
ابن حزم
"ألا ليت عيني قد رأت من رآكم"
مجنون ليلى
سافرت
زوجتي منذ مدّة. أواسي نفسي في غيابها بأشياء كثيرة: المكالمات الطويلة والصور
الكثيرة والنوم والعمل والأصدقاء والقراءة، القراءة كثيرًا. أحاول استحضار سارة
بالقراءة، أُقرّبها عبر هذا البُعد. أقرأ كتبها وأتتبع أثر تخطيطها وتعليقاتها في
الهوامش، تعجبني أفكارها وأضحك معها (في غيابها) على تعليقاتها الساخرة. أقرأ ما
مدحته وما تحبّه. أكملتُ روايةً كنتُ قد بدأتها وتركتها قبل أن أعرف سارة، عدتُ
لها لأنّ سارة أخبرتني أنّها فيما مضى قد قرأتها وأعجبتها (في إحدى فقرات الرواية تُوصف
مشاعر وأفكار إحدى الشخصيّات الرئيسيّة التي وجدتْ الحبّ، ينطبق الوصف عليَّ حين
وجدتُ الحبّ مع سارة: "لم تعتقد يومًا أنها جديرة بأن يُحبّها أحد. ولكنها
الآن تعيش حياةً جديدةً هذه لحظتها الأولى، وحتّى بعد مرور سنواتٍ عديدة ستظلُّ
تقول في نفسها: نعم، تلك كانت بداية حياتي."). أقرأ أعمال أحد شعرائها
المفضّلين ("أنتِ غائبة. أنا غائبٌ. والأشياء غائبة أيضًا. إذ يعجز العالم أن
يكون في غيابكِ."). وأقرأ شعرًا أبحث عن صورتها فيه وأُعلّم صفحاته لأقرأ لها
منه ("أبحث عن ذكراك. / أتسلل بمصباحٍ إلى بيوتٍ فارغةٍ لأسرق صورتكِ / رغم
أنّني مُتيقّنٌ مما سأجده").
أواسي
نفسي بمحاولة عبور المسافات نحو سارة بالقراءة. ثمّة قراءات أخرى تتخلّل قراءات الشوق
والمواساة: ما أقرأه لبحثٍ حول مقالةٍ ما، ما أقرأه في ازدحام القطار متّجهًا إلى
العمل في الصباح، ما أقرأه في عصر نهاية الأسبوع الخامل، ما أقراه عند محاولة
النوم. قراءات لها أهدافٌ ودوافع متعدّدة، بحث، توصيات، ملء الساعات، ولكنّني أدرك
الآن أن كلّ قراءة تصير قراءة مواساة في غياب سارة. قد لا تكون قراءة مواساة
مباشرة، كتلك التي أقتفي فيها أثر سارة أو أبحث عنها فيها، ولكنّ حتّى هذه
المواساة العَرَضيّة فيها إعانةٌ على الصبر (نحاول صبرًا ومواساةً أو نموتُ شوقًا
فنعذرا!). وقد دفعني هذا الإدراك إلى التفكير في ممارسة قرائيّة أراها منذ زمنٍ
بعيد قراءة مواساة، وقد لجأتُ إليها بطبيعة الحال في هذا الغياب: إعادة القراءة.
قرأتُ
رواية "اختفاء" لهشام مطر منذ بضع سنوات. قرأتُ أعماله متأخّرًا،
والتأخّر هنا هو بالنسبة إلى تاريخ صدورها، أما بالنسبة إلى حاجتي لها وقدرتي على
احتواء ما قد تمنحه لي، فقد قرأتها في الوقت المناسب تمامًا، فإذن لا غرابة أنّني صرتُ عاشقًا لأعمال
هشام مطر أحاول قراءة كلّ ما كتبه (وأظنني قريبٌ من ذلك، لولا بعض مقالاته القديمة
المفلتة من بين يدي، ولكنني وراءها والزمن طويل!). صار هشام مطر من كتّابي
المفضّلين على الإطلاق، وهذه ملحوظةٌ مهمّة لأن هذا يعني لي – من بين ما يعنيه –
أنني أستطيع قراءة أعماله في أي وقت، حتّى في فترات الاكتئاب الشديد أو الشوق
الشديد، حين نفقد القدرة على التركيز وتتضاءل أهمية كلّ شيء في مواجهة ما نمرّ به
من كربٍ يتمركز وسط حياتنا ضخمًا ملقيًا بظلالٍ ضخمةٍ مثله تحجب عنا كلّ شيء. عندي
– ولله الحمد – مجموعةٌ صغيرةٌ من هؤلاء الكتّاب والكاتبات والكتب، لا يشفي حضورهم
من الاكتئاب مثلًا أو يُعوّضني عن غياب حبيبتي، ولكنه يواسي، يُعين على الصبر
والتجلّد في حين يُخفق آخرون وتُخفق أمورٌ كثيرة.
ومع هذا
الارتباط العميق، تتكوّن مع تلك المجموعة من الكتب ومؤلّفيها ومؤلّفاتها علاقة،
شيءٌ لعلّه يشبه الحبَّ، حيث يصير الكتاب مصدر راحة ومؤانسة ومواساة، يصير مساحة
أمانٍ وأُلفة، فتكون في العودة إلى هذا الكتاب المؤازر عودةٌ إلى كلّ ما أحببناه
فيه أوّل مرّة وكلّ ما نحبّه في مؤلّفه أو مؤلّفته. يشبه ذلك الحبّ، أليس كذلك؟
أعود لمن أحبّ لأنني أعلم أنها مصدر راحة ومؤانسة ومواساة، أنجذب إلى كلّ ما
أحببته وأحبّه فيها وأقصد إلى المساحة الآمنة التي يخلقها حضورها، باحثًا عن
أمانها المألوف.
وهكذا،
أعدتُ قراءة رواية "اختفاء" بحثًا عن المواساة.
العودة من أجل المستقبل
"فإذا ذُكرت له ليلى، آب إليه عقله وأفاق من غشيته وتجلّت عنه غمرته، فإذا قُطع ذكرها عاد إلى وسواسه وسوء حاله..."
الرواية تحكي قصّة نوري الألفي، ابن المعارض اليساريّ كمال باشا الألفي، التاجر الغني الذي
كان مستشارًا للملك الذي أسقطه انقلابٌ عسكريّ. يعيش نوري ووالداه في
المنفى، في القاهرة وفي دولٍ أوروبيّة يقضون فيها الإجازات. يحيط بهم في القاهرة نعيمة
الخادمة، وعم سمير البواب، وعبدو السائق. تموت والدة نوري. يتزوّج والده بعد مدّةٍ
منى، المرأة التي دخلت حياة الأب الأرمل والطفل يتيم الأم وسيطرت على قلبي
الاثنين. يُرسَل نوري للدراسة في مدرسة داخليّة في بريطانيا. وفي أحد الأيام، بينما
نوري ومنى ينتظران والده في فندقٍ أوروبيّ لقضاء الإجازة معًا، يقرءان خبرًا في
الجريدة عن خطف المعارض السياسيّ كمال باشا الألفي. ليست الرواية، التي نقرأها
بكلمات نوري (أشعر أنّه في الأغلب كان يكتب)، مجرّد تسجيلٍ للأحداث (وفاة والدته،
زواج والده بمنى، إدخال نوري مدرسةً داخلية، خطف والده، محاولات البحث عنه وفهم ما
حدث، علاقة نوري بمنى، تطوّر حياة نوري وعودته إلى القاهرة، إلخ)، ولكنّها
استكشافٌ عميقٌ لما حدث ولأثره على نوري (تحقيقٌ مع الذات، لاستعارة إحدى كلمات
نوري).
ثمّة
الكثير ليُكتب عن حبكة الرواية، عن دراستها الإخفاء القسري وحضور المخفيين غير
المنقطع (يُخفى والد نوري قسريًّا، لكنه لا يغيب عن السرد أبدًا)، عن الحياة والبلوغ، عن التقاء
العوالم المختلفة. الحبكة من الأشياء التي تبقى كما هي حين نعود إليها، وليس هذا
نقدًا للحبكة، أو نقصًا في إعادة القراءة، بل هذا تفصيلٌ يتّسق مع أُلفة وراحة هذه
العودة إلى المساحة الآمنة: أعرف ما سيحدث بالضبط، متيقنٌ مما سأجده، ولكنّني مع
ذلك ما زلتُ أريد أن أتذكّر ما حدث، ما زلتُ أريد أن أعرف كيف فكّر نوري وبماذا
شعر وكيف عبّر عن ذلك!
حين
قرأتُ الرواية أوّل مرّة، أذكر بوضوح أنّني فكرتُ كثيرًا: هشام مطر شاعرٌ مدهش!
لقد عدتُ إلى الرواية هذه المرّة بقلمٍ أخضر، لكيلا أفقد تخطيط قراءتي الأولى
بقلمٍ أزرق. أردتُ حفظ الدهشة الأولى وإضافة الدهشة الجديدة، فكما قلتُ: لقد
أتيت متيقّنًا مما سأجده. ولم تخِب ثقتي، كان الأزرق محفوظًا كما هو (وكأن الخطوط
والأقواس الزرقاء حفظت الدهشة لا الكلمات فقط): "أردتُ أن ألبسها كما قد
تلبس ثوبًا، أن أنطوي بين ضلوعها، أن أكون حجرًا في فمها". نبرة الحبّ
الحميميّ "عميقةٌ بلا نهاية"، دون ذكر أسرار حسّاسة، فلعلّه عمق الإسرار
بالنفس. "كان يجب أن يُقطّع العالم لساعات نملؤها، وإلا أصابنا الجنون من الوحدة"،
أظنني كتبتُ في الأعلى "ملء الساعات" محاولًا تفادي "قتل
الوقت" متأثّرًا بهذه الجملة دون أن أدري! وخطٌّ أزرق تحت "كان الحنين
حجرًا في فمي"، ذات الصورة تعود من جديد، ربّما يعبّر عن التعلّق، حين تريد
أن يحملك الآخرون أو حين تحمل أنت شيئًا. كأن ذلك الخط الأزرق انتظرني بتلك الجملة مدركًا أنني سأعود إلى الكتاب بحجر الحنين في فمي، لأواسي نفسي في غياب
حبيبتي التي أحنّ إليها وأشتاق!
وفي بعض
الأحيان تداخل الأخضر مع الأزرق. حين يصف نوري ارتعاد قلبه "كأنه شيء
مأسور"، كتبتُ بالأخضر على الهامش المجاور للجملة بخطّها الأزرق: "مجنون
ليلى"، مستحضرًا القصيدة المنسوبة إليه التي يقول في مطلعها: "كأنَّ
القلبَ ليلة قيل يغدى / بليلى العامريّة أو يُراحُ؛ قطاة عزّها شركٌ فباتت /
تجاذبه وقد علق الجناحُ". لا أعلم لماذا لم أكتب ذلك بالأزرق أصلًا؛ فهذه من
قصائدي المفضّلة! لكن لعلّ ذلك الخطّ الأزرق كان استحضارًا لقول المجنون، والأخضر
الآن يُصرّح بنيّة الأزرق.
تكاثرت
الخطوط طبعًا، وتراكم الأخضر فوق الأزرق. خطٌّ أخضر تحت وصفه مطعمًا تناول فيه
العشاء مع والده ومنى على أنه "لا مكان، فلا هو البيت الذي اشتقتُ له ولا
المدرسة التي أخشاها"، مكانٌ مجرّدٌ من المشاعر إلى حدّ الفناء. أقواسٌ خضراء
حول فقرة: "راجعتُ الرسائل التي بعثتها مرارًا وتكرارًا، مكثرًا التفكير
فيها، وكانت دائمًا أطول مما يجب. احتفظتُ بنسخٍ من المسوّدات النهائية، وما أن
ألقي المظروف في صندوق بريد المدرسة، تصير تلك النسخ أكثر قيمةً، حيث تكون حينها سجّلًا
لما ستحمله [منى] بين يديها عمّا قريب. فأعيد قراءة النسخ، وأعثر على المزيد من
المبالغات"، كم مرّة نقرأ الرسائل التي بعثناها؟ خطٌّ تحت "كانت تضمّ
كتفيها بشدّة كأنها تخشى أن يتهاوى جسدها". عندما يقول نوري بعد عودته إلى
القاهرة: "كلّ ما أحببته وكل ما ضاع كان يومًا ما هنا. وها أنا ذا أصل إلى
الغياب، بعد أن رحل كلّ شيء"، أستحضرُ الشعر مرّة أخرى وأكتب على الهامش قول
علي بن الجهم: "يشتاق كلّ غريبٍ عند غربته / ويذكر الأهل والجيرانا والوطنا؛
وليس لي وطنٌ أمسيتُ أذكره / إلا المقابر إذ صارت لهم وطنا"، وأتعجّب كيف
فاتني أوّل مرّة، وأندهشُ مرّة أخرى لشاعريّة لغة هشام التي ما انفكت تستحضر الشعر
إلى ذهني!
مع
تعمّقي في لغة هشام وجدتني أتوقّف عند كتابته عن الصمت في الرواية. وصفه إياه في مواقف
اجتماعيّة: الصمت غير المحتمل بين الغرباء، صمت الاستراحة بين أحاديث المعارف
الجدد، الصمت المعاند، صمت الرفقة، الصمت المتحفّظ الذي يُسدَل على حوارٍ ما لحماية
مشاعر المتحدّث "كما يسحب الطبيب الستارة وراءه قبل أن يفحص المريض".
وللصمت أيضًا صفات كثيرة، فهو يصير أحيانًا مكانًا، صمت والد نوري
"شاسع" (صحراء؟ حقل؟)، صمت والدته في أيامها الأخيرة صار "أعمق"
(هاوية؟ بئر؟)، الصمت في غرفة والدته في المستشفى يطرقه رنين آلات الإنعاش
والمراقبة (جدار؟ تابوت؟). كتابة هشام عن الصمت ظهرت لي بصفتها ثيمةً جديدة، لكن
أغلب جمل الصمت وأوصافه كانت تحتها خطوطٌ زرقاء!
* * * *
*
لم تنقطع
الدهشة، وهذا مصدر الثقة التي تجعلني أعود، ذلك التعلّق المنبهر الذي يُؤكّد لي أن
هذه الرواية مثلًا ليست روايةً تُقرأ ثم تُترك للغبار على الأرفف،
ليس بريق هذا الحبّ لمعانًا يصدأ ويخفت، بل نور نجمٍ لا يغرب! تُعيدني الثقة التي مُنحت
لي، الثقة في أن كلّ ما أحببته موجود، وحين أعود سأجد أكثر وأكثر. أحبّ ابتسام
سارة وضحكها، أثق أنها حين تبتسم أو تضحك تزيحُ عني كلّ همومي وتُعيد إليّ عقلي
ونفسي. تصدُق ثقتي كلما ضحكت وابتسمت. معرفتي المسبقة داعية للعودة. ومع الوقت، مع
العودة الدائبة، صرتُ أكتشف ضحكات وابتسامات، لكلّ موقفٍ ولكلّ غزلٍ ولكلّ مزحةٍ
(للمضحكة حقًّا ضحكة، وللسخيفة جدًّا ضحكة!). تتجلى التفاصيل الدقيقة، تخطيطٌ جديد
يُضاف إلى صفحات ما ومن أحب كلّما عُدتُ، يجاور التخطيط القديم ولا يمحوه.
ولكن هذا
الاكتشاف ليس اكتشافًا حقًّا؛ فأنا لم أغفل تلك التفاصيل، بل عدتُ إليها لأنني
أعرفها، ثقتي مبنيةٌ على يقيني مما سأجده. كلّ الخطوط الجديدة الخضراء
وضعتها حول كلامٍ قرأته سابقًا! إذن الاكتشافُ الموصوف أقرب إلى التذكّر،
استكشافٌ للذاكرة. فكيف نصف استكشاف الذاكرة؟ إنه فعل حفظ، أليس كذلك؟ خطٌّ أزرق
وخطٌّ أخضر، صور للابتسامات، ملاحظة خضراء جديدة بجوار تخطيط أزرق، فيديو لسارة
تضحك. أستكشف، أتذكّر، أحفظ، ليس لأنني أعيش في الماضي، ولا لأنني أخشى من فقدان
شيءٍ ما، ولكن لأنني أثق في أنّ هذا الحفظ مداومة، هذا الحنين إلى الماضي شوقٌ إلى
المستقبل: أحفظ الحبّ في الماضي لأداوم عليه، وأداوم عليه في الحاضر أيضًا لأحرص
على حفظه، وما أحفظه إلا لأستزيد منه في المستقبل! فالخطوط في الكتاب هي للمستقبل،
صور سارة على الهاتف للمستقبل؛ لأنني سأعود إليها في المستقبل، أتذكّرها ليرجع لي
عقلي، لأفيق من غشيتي وأرى التفاصيل مرّة أخرى، لتتجلّى عني غمرتي وأجد مساحتي
الآمنة مرّة أخرى، وأدرك (أي أعرف وأُبصر في آن) أنّني أُوتيتُ رزقًا متجدّدًا، لا
تكون العودة له تراجعًا بل استمرارًا، حفظه والمداومة عليه ليسا حسرة ورثاء بل هما
حمدٌ وعرفان، لأنني أدركُ أنّني رُزقتُ حبًّا يتّسع بلا انقطاع.
العودة لتتسع الرؤية
"وللحبّ علاماتٌ يقفوها الفَطِنُ، ويهتدي إليها
الذكيُّ، فأوّلها إدمان النظر... ومنها الإقبال بالحديث... ومنها أن يجود المرءُ
ببذل كلّ ما كان يقدر عليه... ومن أعلامه أنك تجد المحبّ يستدعي سماع اسم من يحبّ،
ويستلذُ الكلام في أخباره ويجعلها هِجِّيراه [دأبه وعادته]"
ابن حزم
كتبتُ
مؤخّرًا عن روايةٍ انتقدتُ فيها صوت الراوي غير المنطقي وغير المتّسق مع شخصيّته.
ومنذ مدّةٍ أقرأ كثيرًا عن جوزيف كونراد وبالأخصّ عن روايته "قلب
الظلام" وإشكاليات صوت راويها تشارلي مارلو. هذه الانشغالات الراهنة أثّرت في
قراءتي الثانية لرواية "اختفاء" وأثْرتها.
في
قراءتي الأولى للراوية انتبهتُ لبراعة صوت الراوي نوري، كيف يتّسق صوته مع شخصيّته
وثقافته، وكيف يبرع في نسج سردٍ تتداخل فيه الذكريات والمشاعر والفترات الزمنيّة
على نحوٍ سلسٍ ومنطقيّ. في هذه القراءة الثانية لم أجد مفرًّا من مقارنة هذه البراعة
بتلك الرواية التي كتبتُ عنها وعن مشاكل صوت الراوي فيها، لغته التي لا تلائم
شخصيته، سرده للأحداث بتشويقٍ غير منطقي، النهاية التي تنسف أشياء كثيرة. ولكن هذه
مقارنة سهلة بين التدنيّ والرفعة إلى حدّ أنها قد تكون غير عادلة (في حقّ الرواية
الأخرى!). لذلك، أرى أن التعمّق الحقيقيّ الراهن جاء بسبب قراءاتي عن راوي
"قلب الظلام".
عدتُ مؤخّرًا لأعمال
كونراد وسيرته وقرأتُ كتابات عديدة عن "قلب الظلام" وصوت الراوي فيها
(لأسباب يطول شرحها، لعلّ ما يهمّني منها الآن أنّه استغراقٌ لم يخلُ من المواساة
والتجلّد هو الآخر!). إحدى الورقات البحثيّة حلّل صاحبُها الراويَّ نفسيًّا، ووصفه
بأنّه "راوٍ متصدّع"[1].
استوقفني هذا الوصف فلم يمرّ علي من قبل، ولا أظنه مصطلحًا نقديًّا. التلاعب بصوت
الراوي الأوّل (أو الراوي بضمير المتكلّم) ليس شيئًا جديدًا بالطبع. لعلّ أشهر شكلٍ
من أشكال هذا التلاعب هو "الراوي غير الموثوق"، ومثاله الأبرز هولدن من
"الحارس في حقل الشوفان"، حيث نكتشف في نهاية الرواية أنه يكتب من
مصحّةٍ عقليّة، فنُشكّك في صحّة روايته للأحداث. ثمّة تنويعات أخرى، قد يكون صوت
الراوي مُثقلًا بشخصيّة صاحبه، راوي "مذكرات من تحت الأرض" لدوستويفسكي
يكاد يكون غير موثوق لشدّة تمترسه وراء نظرته الشخصيّة للعالم، ولعلّنا نستطيع
تشخصيه على أنه راوٍ متقوقع. راوي "ابن الشعب" لتشينوا
أتشيبي نرى تحوّل أفكاره وتغيرّ مواقفه بحسب الظروف (فيتحوّل من المؤيد الممتن المادح لنزاهة الوزير ووطنيّته، إلى الثوريّ المعارض الذي
كان دائمًا يعرف حقيقة فساد الوزير ذاته!)، فلعلّه يُشخّص بوصفه راويًّا متقلّبًا. ولكن العبرة هنا ليست في التلاعب أو الكتابة، إنّها في إمكانيات التصنيف – دون تقيّد بمصطلحات النقد – وما يعنيه ذلك من القدرة على
التشخيص الدقيق، ولعلّ هذا هو الباب الذي فتحه لي تشخيص مارلو بصفته "راويًّا متصدّعًا"، خاصّة أنّه كان تشخيصًا نفسيّ المنشأ. ورغم ما استحضرته ذاكرتي من
أمثلة عن الرواة، سأعترف بأنني لا أذكر بالضبط عماذا كنتُ أبحث حين وقعتُ صدفةً على
ورقةٍ تناقش صوت الراوي المصدوم نفسيًّا (من trauma أو traumatised narrator) في روايتي هشام مطر "في بلد الرجال"
و"اختفاء". لم أقرأ إلا ملخّص الورقة، ولكن انجذابي إلى فكرة الراوي المتصدّع جعل العنوان وحده كفيلًا بفتح عينيّ على صوت نوري في "اختفاء".
علاقة نوري بوالده
معقّدة جدًّا، بينهما مسافة غريبة (مليئة بالصمت والأسرار)، وكثيرًا ما يُعلّق
نوري على بُعد والده قبل خطفه. هذه المسافة تزداد (فعليًّا وعاطفيًّا) بعد إخفاء
والده، وتظهر في أعباء الاختفاء، وثقل الأسرار التي لا بدّ من كشفها، وحنق نوري من الكلام عن شجاعة والده والتزامه السياسيّ (فماذا يهمّ ذلك مقابل رغبة الطفل في حضور
والده؟). ومع ذلك، نوري متعلّق بوالده جدًّا، يبحث عن أثره في كلّ مكان، في رائحة
جسده على حزام ساعة معصمه، يحاول ارتداء ملابسه، يحفظ له معطفه، يُفكّر في إكمال
كتابٍ توقّف والده في منتصفه. هذا الجذب والشد في سرد نوري أشعر أنّه فعلًا يعبّر
عما يحدث لنا من إنكارٍ وتعلّق ناتج من صدمةٍ نفسيّة، نبتعد بأفكارنا وكلامنا
وربّما حتّى بمشاعرنا، ولكننا نقترب دائمًا بقوّة غامضة. ولأن نوري ليس "راويَّا غير موثوق"، إنه صريحٌ جدًّا في بعض الأحيان في عرض مشاعره وأفكاره، فإننا
نرى جراحه النفسيّة في مشاهد كثيرة (يرويها هو لنا): كذبه على صديقه الوحيد
المقرّب جدًّا أليكسي وكتمه أشياء عنه؛ انهياره أثناء ممارسة الحبّ وإخفائه سبب ذلك
عن شريكته وتركها تظن أن الدموع في عينيه دموع نشوة وسعادة؛ تعلّق نوري بالنساء في
حياة والده. لا يكذب نوري ولا يُضلّل حقًّا، ولكنّه يكتم ويدفن! وأحيانًا يبدو أن
ذلك يحدث دون وعي، ولعلّ أفضل مثال على ذلك نجده في قصّة نعيمة.
في قصّة نعيمة (تفاصيلها
الآن ليست مهمّة بقدر أهمية كتمان نوري) نعرف حقيقة ما حدث قبل أن يكشف نوري ذلك؛
فهو يروي قصّة نعيمة في وسط الكتاب أو ثلثه الأوّل كاشفًا حقيقتها بوضوح لنا، لكنه
يتجاهل هذه الحقيقة في بقية السرد إلى أن يصل إلى الحادثة التي فجّرتها.
يلتزم نوري ببعض التسلسل الزمني في سرده للأحداث، لكنّ تجاهله لحقيقة نعيمة لا
يبدو التزامًا بالترتيب الزمنيّ وحسب؛ فالرواية تتداخل فيها الأزمان بتداخل
الذكريات (وهذا الأسلوب يبرع فيه هشام مطر كثيرًا)، تجاهل نوري إذن أقرب لكونه
إنكارًا وكتمانًا. المشهد الذي يعترف فيه نوري بالحقيقة لا أظنه مشهدًا
"يكتشف" فيه فعلًا بقدر ما هو مشهدٌ "يواجه" فيه شيئًا يعرفه
وتجنّبه (وكما يقول في نهاية الرواية عن هذه الحقيقة: "ما كنتُ أعرفه - وودتُ
لو لم أعرفه - يستحيل نطقه."). أظن أن هذه قد تكون قراءة سليمة، خاصّة أنني
شعرتُ أن هشام مطر (وأتعمّد هنا ذكر المؤلف لا الراوي) قصد إخبارنا بالحقيقة
مبكرًّا؛ فالعبرة من قصّة نعيمة ليست الصدمة السرديّة ولكنها صدمة نوري النفسيّة،
يهرب نوري من حقيقة نعيمة، يدفنها في النصّ كما كان يدفنها طيلة حياته قبل أن
يُواجَه بالحقيقة التي لم يستطع أن يواجهها بنفسه، وحتّى حين تتجلّى الحقيقة، فهو لا يستطيع النطق بها. ثمّة مثالٌ آخر على هذا
الكتمان، علاقته بمنى. لا يُصرّح نوري بما حدث بينهما أبدًا، يُلمّح بشاعريّة
وغموضٍ، وكأنه يحرص على الاحتفاظ بالقدرة على الإنكار. لكن الحقيقة (الواضحة لنا)
تُفلت منه بين حينٍ وآخر (فيما ينقله لنا من تصرّفات شخصيّات أخرى، أو في حديثه عن شعورٍ بالذنب
راوده أحيانًا).
كلّ هذه الأشياء كانت
واضحة مع القراءة الأولى، أعني أننا نشعر بكلّ هموم نوري ومشاكله، نرى كتمانه
ونرى ما يفلت من بين قبضة صمته، نشعر بألمه وحيرته وصراعاته. لكن هذه القراءة
الثانية، بتجاورها مع القراءات الراهنة عن صوت الراوي، وسّعت رؤيتي لتفاصيل هذا
الاتسّاق النفسيّ في شخصيّة نوري وصوته، صوت الراوي المصدوم نفسيًّا. هل جلس هشام
مطر واخترع نوري وكتب له ملفًا كاملًا عن حالته النفسيّة؟!
أتذكّر الآن حديث
تولستوي عن شخصياته، كيف تفاجئه بتصرفاتها وتحزنه مآلاتها، إلى حدّ أن نشعر أن
الشيخ لا يتحكّم في شخصياته! ولكن، ربّما هذه موهبة الكتّاب الكبار، لا يخترعون
شخصيات بل يعثرون عليها. يقول هشام مطر إنه حين بدأت رواية "اختفاء" تتبلور في ذهنه
شعر بوجود نوري. وصف ذلك في بعض أحاديثه بأنه يشبه دخولك المسرح في اللحظة
الأخيرة، ما إن تجلس في مقعدك تنطفئ الأضواء ويبدأ العرض. تشعر بالشخص الجالس
بجوارك دون أن تراه. تتحرّج بطبيعة الحال من أن تلتفت وتنظر إليه مباشرةً، ولكنه
موجود، شخصٌ كامل. ذكر هشام هذا التشبيه في عدّة مقابلات وحوارات، وفي أحد حواراته
أضاف أنه يتملّكه فضولٌ نحو ذلك الشخص الجالس بجواره: بماذا يفكّر وهو يسمع
المعزوفات؟ ماذا يتذكر؟ لماذا تنهّد حينها؟ لماذا وضع يديه على ركبتيه؟ لقد ذكّرني
هذا الفضول كثيرًا بكلام تولستوي عن شخصيّاته. لعلّ الكتّاب المبدعين والكاتبات المبدعات لا
يخترعون الشخصيّات ولكن يستكشفونها، يراقبونها بفضول، يُسجّلون ويتساءلون. لعلّ هشام
لم يجلس ليؤلّف ملفًّا طبيًّا كاملًا عن حالة نوري العقليّة والنفسيّة، ربّما وجد
نوري وتركه يتحدّث، بكلّ كتمانه وصراعاته، وكان ما كان من إتقان.
* * * *
*
كما هو
واضحٌ من الاستطراد السابق، تعمّقتُ كثيرًا في صوت الراوي في هذه العودة. لم يكن تميّز
صوت الراوي غائبًا عني في قراءتي الأولى، لكن مع قراءاتي الراهنة عن صوت الراوي وما
عرفته من مقابلات وحوارات هشام مطر اتّسعت رؤيتي. الشيء ذاته يحدث مع من نحبّهم،
نفهمهم أكثر كلّما عدنا إليهم، عشنا معهم، حادثناهم، سمعناهم. أعرف ما تحبّه سارة
وما تكرهه، ومع العودة الدائمة تتّسع المعرفة، تتحوّل من التعلّم إلى الامتزاج، لا
أسأل سارة ماذا تحبّ وماذا تكره، فقد صرتُ أحبّ ما تحبه وأكره ما تكرهه، لا أسألها
إلام تحتاج، فقد صرتُ أحتاج إلى أن أحمل إليها ما تحتاجه قبل أن تعي هي ذاتها أنها
تريده.
نتجاوز
ضغوطات البدايات وتوتّرها (على ما فيها من متعة وإعجاب ودهشة)، لنركن في عودتنا
الواثقة إلى ألفةٍ تسمح لنا بإطلاق النظر في أرجاء المدى الذي لم نشح بصرنا عنه
أصلًا ولا نريد. الكتاب مألوف، ضغوطات القراءة الأولى وتوقّعاتها وتلك الرغبات
المزدحمة، في التركيز والفهم والاستمتاع، كلّها تغيب عن القراءة الثانية، تحلّ
محلّها الثقة وحسب، وأليس هذا ما نرجوه من الحبّ؟ كلّ هذا الفهم غير المثقل
بالتوقّعات، كلّ الفهم الذي يحيل الرغبات من التشوّش إلى الانعتاق، كلّ هذا الفهم
الذي يستغني أحيانًا حتّى عن النطق والإشارة، إلى حدّ أن أظن أن ذهني ممزوجٌ بذهن
حبيبتي وأن الفكرة تخطر ببالنا معًا. كلّ هذا قد يمكن وصفه بأنه الألفة، ألفة تلك
المساحة الآمنة، التي تسمح لنا بتعمّقٍ لا ينقطع، التي
تسمح لنا بانطلاقٍ لا ينتهي، لا تُكلّفنا بهذا السعي الراسخ، بل تُريحنا، تريحنا إلى حدّ أننا نعود ونعود ونعود.
نعود
فنتعمّق، والعودة هنا استمرارٌ كما قلتُ، مداومةٌ على التذكّر والحفظ
للمستقبل، إدمانٌ النظر. أكتب عن الرواية، فأتذكّر وأتعمّق وأستطرد، وينمو ما
أكتبه إلى صفحات وصفحات. تمامًا كما يحدث حين يقودني حوارٌ مع أحد الأصدقاء إلى
الحديث عن سارة، أُقبل على الحديث عنها، عن كيف بدأت اللحظة الأولى في حياتي معها،
أستدعي اسمها وأسلتذ الكلام في أخبارها وسرد بدائع كتابتها وحدّة ذكائها وراحة
حضورها وهوسي وتعلّقي وشغفي! أبذل كلّ ما أقدر عليه لأشرح لمن أحدّثه كيف تحوّلت الحاجة
من حرجٍ يستحيل النطق به إلى غزل خاصٍ بنا ترادف فيه كلمة "أحتاجك"
كلمة "أحبك". العودة حفظٌ وتذكّرٌ واستطراد، فهي ملازمة، ملازمة
داخليّة في انشغال الذهن وارتحاله دومًا نحو من أحبّ، وملازمة خارجيّة في استذكار
من أحبّ والاستغراق في السرد. تصير العودة بهذا المعنى بقاءً، أليس
كذلك؟ الحبّ شاسع وعميق، والحركة داخله لا تسعى نحو أفق أو قاع، الحركة فيه
استقرار، سعيٌ نحو البقاء، رحلةٌ بلا وجهة كما يقول المتصوّفة، لأن غايتها ملازمة
حبيبتي، ولما كان سعيي في حبّها ثباتًا وتعمّقي فيه رسوخًا، تصير الحركة إدماني
النظر إليها وتلذّذي بالكلام عنها، ولمخالفة المتصوّفة هذه المرة أقول: كلّما
اتّسعت رؤيتي لحبيبتي اتّسعت العبارة بالعشق والحمد! وكيف لا، ومع كلّ عودةٍ،
استمرارٍ، بقاءٍ تتّسع بها الحياة.
العودة لاستئناف الحياة
"والله عزّ وجلّ يقول ((هو الذي خلقكُم مِن نفسٍ
واحدةٍ وجعلَ منها زوجها ليسكنُ إليها)) فجعل علّة السُّكون أنها منه."
ابن حزم.
"وحُكي أنّ مجنون ليلى قيل له: ما اسمك؟ قال:
ليلى."
أظنني
أستطيع أن أتكلم أكثر عما وجدته في قراءتي الثانية هذه لرواية "اختفاء"،
ما راجعته من انطباعات[2]، وما شطحتُ في تحليله من
رمزيات[3]، وما عقدته من مقارنات مع
أعمال هشام مطر الأخرى[4]، ولعلّي أتوقّف مع مقارنة بأحد
أعماله، مقارنة مهمّة لما أريد قوله عن العودة.
في "اختفاء"،
بعد خطف والده بزمن، يزور نوري منى ليُمضي معها بضعة أيام من إجازته. كان
يتوقّع استقبالًا حميميًّا، ولكنّه يجد منى متوترةً رفقة صديقٍ لها في شقتها.
يتوتّر نوري بدوره، يختلق عذرًا، جاء ليزور أحد أصدقائه ويجب أن ينصرف. وبينما كان
يقف في الردهة منتظرًا وصول المصعد، منى وصديقها يراقبانه من عند الشقّة، يقول لنا
نوري: "كنت أعلم أنها تعلم أنّني أكذب، ألّا صديق يتوقّعني وأنّني، أكثر من
أي شيءٍ آخر، كنتُ أرغب في أن أُتوقّع، أن أُنتظر، أن يُرحّب بي." أعود لهذا
المشهد أو لهذا الشعور لأن هشام عاد له في كتابه الجميل "شهر في سيينا".
يتحدّث
هشام عن تجوّله في سيينا رفقة زوجته ديانا. يصف ولوجهما ساحة بيازا ديل كامبو في
مركز المدينة ويقول: "كان الأمر بمثابة دخولنا ديانا وأنا إلى مساحةٍ خاصّةٍ
بنا، مساحة كنا مُنتظريْن فيها على الدوام، وشعرنا أننا بمجرّد أن نغادرها فسوف
نبقى منتظريْن. وفكّرتُ، أليس هذا على الأقل أحد تعريفات السعادة، أن
تُنتظر؟" العودة تعني أن لديك ما تعود إليه، لديك من ينتظرك، فلا يكون انتظار
سارة لي تعريفًا من تعريفات السعادة إلا لأنّه يدلّ على المساحة الآمنة التي أداوم
على العودة إليها، حيث الراحة والألفة والحياة. وفي ذات الكتاب (الذي عدتُ له بضع
مرات من بينها مرّة قرأته فيها لسارة) يتحدّث هشام عن اللقاء، عن لوحة "الجنّة"
للرسّام دي باولو وتصويرها لقاء أزواجٍ في الفردوس (قديس وملاك، زوج وزوجة،
عاشقان، ذات الشخص في شبابه وفي كهولته، إلخ). يقول هشام معلّقًا إن طموح كلّ لقاء
بعد فراق لا بدّ أن ينطوي على رغبةٍ في التعرّف وشوقٍ إلى سردٍ كاملٍ لكلّ ما حدث في أثناء الغياب: "وكأنّ تفكير دي باولو قاده إلى أن الجحيم الحقيقيّ ليس جحيم
النيران ولكن جحيم ألّا يتعرّف علينا أولئك الأقرب لنا. نحن نريد أن يرونا، وأن
نعيد بدورنا اكتشاف قدرتنا الذاتيّة على التذكّر، لكي نعثر في النهاية على
المواساة القابعة بين القصد والتعبير عنه، بين الشعور المخفي وهيأته الخارجيّة. تفهم اللوحة ذلك. تفهم أن أكثر ما نرجوه، أكثر حتّى من النعيم، هو أن يُتعرّف
علينا، رغم كلّ التحوّل والتغيّر الذي قد يكون لحق بنا في رحلتنا، شيءٌ ما فينا لا
بدّ أن يستمر ويبقى واضحًا لأولئك الذين أمضينا وقتًا طويلًا نحبّهم. لعلّ كلّ
تاريخ الفنّ تجسيدٌ لهذا الطموح، كلّ كتاب، كلّ لوحة، كلّ سيمفونيّة هي محاولات
لسردٍ شامل لكلّ ما يتعلّق بنا."
نعود
ليتعرّف علينا من نحبّ، وفي تذكّرهم لنا تذكّيرٌ لنا بقدرتنا نحن أيضًا على
التذكّر، إذن حين أعود لحبيبتي أعود لنفسي، فكما يقول بسّام حجّار: "لا يكون
لقاء بين المحبّين إلا جمعًا وانفرادًا في وقتٍ معًا"؛ فاللقاء "جمعٌ إذ
ينال المحبّ نفسه بعد غربة". وفي هذا العالم الذي نحتاج فيه لملء الساعات
لئلا نُجنّ من الوحدة، في هذا الحاضر الذي، كما يقول هشام في "شهر في
سيينا"، "لا يمنحنا أي خيارات، بل يُصرّ على الاستبداد
بانتباهنا"، قد نضيع من أنفسنا، ننزلق نحو غيابٍ في غياب "أنتِ غائبة.
أنا غائب"، ولذلك تُلحُ علينا العودة، تلحُ علينا الحاجة إلى الألفة والسُكنى،
ولذلك أعود إليهما بعودتي إلى سارة، نفسي وعلّة سكني، فاللقاء كما يقول بسّام
"لا يكون إلا استئناف حال"، أعود إلي لأستأنف سكني الذي وجدته حين
وجدتُ سارة، أعود لأستأنف الحياة التي بدأت في اللحظة التي وجدتها فيها.
ليست العودة
انسحابًا أو تراجعًا، ولا أخشى من عودةٍ تخيب، بل أعود راغبًا في الألفة والسكنى
ومحتاجًا للمواساة والراحة، أعود لأنني متيقّن مما سأجده، متيقنٌ مما سأجده عند
سارة. أفلا يقتضي هذا اليقينُ المداومةَ؟ بلى، لأن "منتهى ما تصبو إليه:
الاطمئنان إلى دوام حضور الآخر والتزامه"، أداوم على العودة لأنني أحتاج إلى
الملازمة، لأن "العاشق لا يُفني رغبته بل يستزيد التهافها بالمِزاج"،
وكيف تفنى الرغبة في الحياة؟ لا تفنى بعد أن وجدتُها ومنحتُ اسمها لزوجتي عرفانًا
واعترافًا، أنادي سارة "حياتي" أكثر من أي اسمٍ آخر.
* * * *
*
سافرت
سارة منذ مدّة. أواسي نفسي في غيابها بأشياء كثيرة، كلّها في صميمها عودة، عودةٌ
إلى المساحة الآمنة، حيث أُنتظر، حيث يُتعرّف علي وأتعرّف، حيث أعود لأستأنف
الحياة بتذكّرها واستكشافها والتعمّق فيها وحفظها والاستطراد في الكتابة عنها،
أعود لأستمرّ وأبقى، أعود متيقنًّا مما سأجده. وهكذا، وهذا حال مواساة العودة،
أداوم إذن على العودة إلى حياتي، إلى سارة.
* * * *
*
استدراكٌ أوّل
يقول ابن حزم إنّ محبّة العشق "اتصال النفوس"، ويستدل على ذلك بأن الله تعالى قال ((هو الذي خلقكم من نفسٍ واحدةٍ وجعل منها زوجها ليسكن إليها)) "فجعل عِلّة السُّكونِ أنها منه". ويُقرّ ابن حزم بأن المحبّةُ ربّما كانت "لسببٍ من الأسباب" ولكن تلك المحبّة "تفنى بفناء سببها، فمن ودَّكَ لأمرٍ ولّى مع انقضائه". أما محبّة العشق، التي "لا عِلَّة لها إلا... اتصال النفوس"، فيقول عنها ابن حزم: "حاشا محبّة العشق الصحيح المتمكّن مِن النفس فهي التي لا فناء لها إلا بالموت. وإنّك لتجدُ الإنسانَ السَّالي بزعمه، وذا السنِّ المتناهية، إذا ذكّرتَهُ تذكّر وارتاح وصبا، واعتادهُ الطربُ واهتاجَ له الحنين."
استدراكٌ ثانٍ
يُروى أن
المجنون ذكر ليلى في رحلةٍ له مع أبيه وأنشد أبياتًا؛ فبكى أبوه رحمةً له وقال:
"يا بني، هل لك أن تسلو بغيرها؟" فقال: "والله ما أجد إلى السلو
سبيلًا...".
[1] الورقة
تستخدم وصف "معيب faulty"، وقد رأيت أن ترجمة "متصدّع" أفضل
لما لها من دلالة على الانشقاق والانجذاب بين طرفين، وهو ما يوافق حال مارلو
ويوافق أيضًا فكرة تلك الورقة البحثية.
[2] في قراءتي
الأولى لرواية "اختفاء" كنتُ قد قرأتُ لتوي رواية "الحبّ
الأوّل" لتورجينيف، قرأتها بسبب مقالة لهشام مطر عنها! ولذلك حين قرأتُ
"اختفاء" كان مثلث الحبّ بين الأب والابن والزوجة الجديدة من
"الحبّ الأوّل" عالقًا بذهني، وركّزتُ على مثلّث نوري ووالده ومنى. ولكن
مع العودة انتبهت لصورةٍ أوسع، نوري ليس مرتبطًا بمنى فقط، بل هو مرتبطٌ بكلّ
النساء في حياة والده: والدته، نعيمة، منى، بياتريس. ارتباطات نوري تتباين ما بين
الجهل والحقيقة والحنين والهوس، لعلّها تتصارع ما بين رغبته هو في أن يكون مستقلًا
عن والده (مثلًا علاقته بمنى)، ورغبته في أن يقتفي آثار والده (نظرته لبياتريس).
[3] نظرتُ في هذه القراءة الثانية لرمزيّة المدرسة الداخلية، لعلّها تُعبّر عن
المنفى، وهي في الحقيقة أوّل منافي نوري (وكانت الخطوط الزرقاء كثيرة)، بحكم أن
القاهرة كانت بالنسبة له وطنًا بينما كانت منفىً لوالده. وهذا شيءٌ آخر قد نُفكّر
فيه، تفاعل كلّ عوامل الاغتراب والمنفى والحنين والانتماء، سويسرا والقاهرة، الجاحظ
والسيّاب ومونتالي ورحمانينوف، ثمّة تجاور ثقافيّ وربّما حتّى مزاحمة، قد يشطح
المرء حتّى ويُسقط هذه الصراعات على نساء الرواية، الوالدة بهويتها الوطنية
(البلاد لا تُذكر في الرواية، لكنها تبدو قريبةً جدًّا من ليبيا)، نعيمة المصريّة،
منى المصريّة البريطانيّة، وبياتريس السويسريّة، وعلاقة نوري بكلٍ منهن.
[4] قارنت "اختفاء" بأعمال هشام الأخرى، موضوعات الراوية التي تتشابه
مع موضوعات "في بلد الرجال" (المعارضة، القمع، المنفى، الأب المهووس
بواجبٍ وطنيّ وصدامه مع عائلته، علاقات العائلة، الأصدقاء، النهاية المرتبطة
بالأم، الراوي المصدوم نفسيًّا)، الموضوعات الجديدة (التوسّع في المنفى والاغتراب،
التجاور والتفاعل الثقافي، أثر الإخفاء القسريّ). اقتفيتُ أثر حياة هشام مطر من
مقالاته ومقابلاته، في صغره كانت تُقرأ له كتب ألف ليلة وليلة والجاحظ وبدر شاكر
السياب، ألف ليلة وليلة مذكورةٌ في رواية "في بلد الرجال"، ويظهر الجاحظ
والسيّاب في "اختفاء". حبّ هشام للسباحة في صغره وكيف كان يسبح حتّى لا
يرى اليابسة، وما فعله نوري البالغ الذي سبح بعيدًا حتى غابت اليابسة واستلقى يطفو
على صفحة "الهواء المتنفّس".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق