العودة من أجل المواساة
"ونفسُ المُحبِّ متخلّصةٌ
عالِمة بمكانِ ما كان يُشركها في المجاورة، طالبةٌ له، قاصدةٌ إليه، باحثةٌ عنه،
مشتهيةٌ لملاقاته، جاذبةٌ له لو أمكنها كالمغنطيس والحديد."
ابن حزم
"ألا ليت عيني قد رأت من رآكم"
مجنون ليلى
سافرت
زوجتي منذ مدّة. أواسي نفسي في غيابها بأشياء كثيرة: المكالمات الطويلة والصور
الكثيرة والنوم والعمل والأصدقاء والقراءة، القراءة كثيرًا. أحاول استحضار سارة
بالقراءة، أُقرّبها عبر هذا البُعد. أقرأ كتبها وأتتبع أثر تخطيطها وتعليقاتها في
الهوامش، تعجبني أفكارها وأضحك معها (في غيابها) على تعليقاتها الساخرة. أقرأ ما
مدحته وما تحبّه. أكملتُ روايةً كنتُ قد بدأتها وتركتها قبل أن أعرف سارة، عدتُ
لها لأنّ سارة أخبرتني أنّها فيما مضى قد قرأتها وأعجبتها (في إحدى فقرات الرواية تُوصف
مشاعر وأفكار إحدى الشخصيّات الرئيسيّة التي وجدتْ الحبّ، ينطبق الوصف عليَّ حين
وجدتُ الحبّ مع سارة: "لم تعتقد يومًا أنها جديرة بأن يُحبّها أحد. ولكنها
الآن تعيش حياةً جديدةً هذه لحظتها الأولى، وحتّى بعد مرور سنواتٍ عديدة ستظلُّ
تقول في نفسها: نعم، تلك كانت بداية حياتي."). أقرأ أعمال أحد شعرائها
المفضّلين ("أنتِ غائبة. أنا غائبٌ. والأشياء غائبة أيضًا. إذ يعجز العالم أن
يكون في غيابكِ."). وأقرأ شعرًا أبحث عن صورتها فيه وأُعلّم صفحاته لأقرأ لها
منه ("أبحث عن ذكراك. / أتسلل بمصباحٍ إلى بيوتٍ فارغةٍ لأسرق صورتكِ / رغم
أنّني مُتيقّنٌ مما سأجده").
أواسي
نفسي بمحاولة عبور المسافات نحو سارة بالقراءة. ثمّة قراءات أخرى تتخلّل قراءات الشوق
والمواساة: ما أقرأه لبحثٍ حول مقالةٍ ما، ما أقرأه في ازدحام القطار متّجهًا إلى
العمل في الصباح، ما أقرأه في عصر نهاية الأسبوع الخامل، ما أقراه عند محاولة
النوم. قراءات لها أهدافٌ ودوافع متعدّدة، بحث، توصيات، ملء الساعات، ولكنّني أدرك
الآن أن كلّ قراءة تصير قراءة مواساة في غياب سارة. قد لا تكون قراءة مواساة
مباشرة، كتلك التي أقتفي فيها أثر سارة أو أبحث عنها فيها، ولكنّ حتّى هذه
المواساة العَرَضيّة فيها إعانةٌ على الصبر (نحاول صبرًا ومواساةً أو نموتُ شوقًا
فنعذرا!). وقد دفعني هذا الإدراك إلى التفكير في ممارسة قرائيّة أراها منذ زمنٍ
بعيد قراءة مواساة، وقد لجأتُ إليها بطبيعة الحال في هذا الغياب: إعادة القراءة.
قرأتُ
رواية "اختفاء" لهشام مطر منذ بضع سنوات. قرأتُ أعماله متأخّرًا،
والتأخّر هنا هو بالنسبة إلى تاريخ صدورها، أما بالنسبة إلى حاجتي لها وقدرتي على
احتواء ما قد تمنحه لي، فقد قرأتها في الوقت المناسب تمامًا، فإذن لا غرابة أنّني صرتُ عاشقًا لأعمال
هشام مطر أحاول قراءة كلّ ما كتبه (وأظنني قريبٌ من ذلك، لولا بعض مقالاته القديمة
المفلتة من بين يدي، ولكنني وراءها والزمن طويل!). صار هشام مطر من كتّابي
المفضّلين على الإطلاق، وهذه ملحوظةٌ مهمّة لأن هذا يعني لي – من بين ما يعنيه –
أنني أستطيع قراءة أعماله في أي وقت، حتّى في فترات الاكتئاب الشديد أو الشوق
الشديد، حين نفقد القدرة على التركيز وتتضاءل أهمية كلّ شيء في مواجهة ما نمرّ به
من كربٍ يتمركز وسط حياتنا ضخمًا ملقيًا بظلالٍ ضخمةٍ مثله تحجب عنا كلّ شيء. عندي
– ولله الحمد – مجموعةٌ صغيرةٌ من هؤلاء الكتّاب والكاتبات والكتب، لا يشفي حضورهم
من الاكتئاب مثلًا أو يُعوّضني عن غياب حبيبتي، ولكنه يواسي، يُعين على الصبر
والتجلّد في حين يُخفق آخرون وتُخفق أمورٌ كثيرة.
ومع هذا
الارتباط العميق، تتكوّن مع تلك المجموعة من الكتب ومؤلّفيها ومؤلّفاتها علاقة،
شيءٌ لعلّه يشبه الحبَّ، حيث يصير الكتاب مصدر راحة ومؤانسة ومواساة، يصير مساحة
أمانٍ وأُلفة، فتكون في العودة إلى هذا الكتاب المؤازر عودةٌ إلى كلّ ما أحببناه
فيه أوّل مرّة وكلّ ما نحبّه في مؤلّفه أو مؤلّفته. يشبه ذلك الحبّ، أليس كذلك؟
أعود لمن أحبّ لأنني أعلم أنها مصدر راحة ومؤانسة ومواساة، أنجذب إلى كلّ ما
أحببته وأحبّه فيها وأقصد إلى المساحة الآمنة التي يخلقها حضورها، باحثًا عن
أمانها المألوف.
وهكذا،
أعدتُ قراءة رواية "اختفاء" بحثًا عن المواساة.