الأحد، 16 أبريل 2017

لنا جحيمنا ولكم جحيمكم!


ليس لدي شيء أتحدث عنه، فقط الكثير من الغضب والكثير من الحقد والكثير من اليأس. وأطنان من الملل (أنا الآن في العمل، شششش لا أريد أن يعرف أحد ماذا أفعل!). وفي هذا السياق، فقد وجدتُ بضعة أغصان يابسة من القهر لأرميها على نار غضبي الملولة وأقرر كتابة شيء ما. 

الموضوع ببساطة هو الكُتَّاب والشعراء والمبدأ. والمبدأ هنا هو الالتزام الحقيقي بكل الهراء الذي يتظاهر الكُتاب بأنهم يعتنقونه: الإنسانية، الحقوق، الحرية، الأدب، الفن، كل شيء آخر يقولون أن هذه الرواية أو تلك تعبير عن صراعه مع كذا في كذا وانتصار الكذا على كذا. هذا تعريفي للمبدأ لغايات هذه الورقة البحثية التي أقدمها إلى المؤتمر السنوي السابع والثلاثين حول الكلام الفراغ.

وبعد تعريف المبدأ، ثاني أهم نقطة يجب أن أذكرها أن المبدأ مستحيلٌ في عالمنا الذي فيه "يمتد عمر الشاعر الحر، إلى أقصاه: بين الرحم والقبر!". لا يمكن لأي كاتب أو شاعر أن يلتزم بحديثه عن الحرية في دول يتصدق فيها الحكام بنسبة بسيطة من الحرية بين الحين والآخر لتزكية استبدادهم ومباركة حكمهم. الموضوع مللنا من القراءة عنه والحديث عنه: عالمنا سجنٌ كبيرٌ في أحسن الحالات، وفي أسوأها قبر. الكاتب الملتزم بالمبدأ سيكتب على جدران السجن أكثر مما سيكتب في الجرائد والمواقع. والكاتب الذي يعيش المبدأ عظم الله أجرنا فيه.

فما المشكلة إذاً؟ المشكلة هي ببساطة أن يكذب الكاتب. أن تجد كاتباً (بدون ذكر أسماء) يعيش مستفيداً من النظام، وينال المكافآت والمناصب والدعم، ويكتب مادحاً ملمعاً. ثم! فجأةً! بعد سقوط النظام، يتضح أن هذا الكاتب كان يكرهه! كان يحتقره! كان وكان وكان! بل كان على وشك الإطاحة بالنظام بنفسه لولا أن تدخلت الأقدار وانتفضت البلاد ومات القذافي. ونعم، أنا أتحدث عن ليبيا طبعاً. كثيرون جداً هم هؤلاء الكتاب عندنا. أشخاص "ناموا في الفراش مع القذافي" (لاستعارة التعبير الإنجليزي) ثم بعد موته أعلنوا أنهم لم يكونوا معه في الفراش إلا ليحاولوا خنقه بالوسادة وهو نائم! لا يا راجل؟! احلف؟!

وحسناً، هذا شيء طبيعي. هذا الانقلاب ضروري. بعض الكتاب من هذا النوع كان موقفهم أكثر اعتدالاً، لم ينكروا ماضيهم ولم يتناقضوا مع أنفسهم كلياً. بعضهم استغلوا جرائم القذافي أثناء أحداث انتفاضة 2011 والحرب التي لحقتها، وجعلوا ذلك نقطة انفصالهم عن القذافي (صح النوم!)، والتزموا الصمت حول صمتهم طيلة أربعة عقود تجاه بقية جرائم القذافي. هؤلاء تأخروا كثيراً في محاولة الالتزام بالمبدأ. ولكن تبقى فضيحتهم أهون بكثير من فضيحة من حاول تغيير تاريخه!

بعض الكتاب نجدهم يقولون: كتاباتنا كانت ثورية! حقاً؟ ألهذا السبب كلما ظهر لكم كتاب كانت البلاد تنتفض وتثور؟ آه، ربما لم يفهم أحد. حسناً، أكمل لو سمحت. نعم (سيقول ذلك الكاتب)، كتاباتي كانت ثورية، تحرض على الثورة ضد الظلم، كتاباتي كانت تمثل ضمير ليبيا وروحها. هل هذا صحيح؟ عماذا كنت تتحدث في كتاباتك؟ القمع؟ التعذيب؟ الدولة البوليسية؟ الجوع؟ لا، لا، لا (سيتابع ذلك الكاتب)، كنت أتحدث عن ثقافة ليبية تعتبر أقلية وعن تاريخ قديم وأشياء هكذا ولكنها تعبر عن ليبيا كلها وعن وضعها وواقعها وتاريخها وأحلامها وطموحاتها... يعني.. (يبدأ الكاتب يتعرق).. يعني أنا حفظت التراث الليبي وهكذا، وكان لي أثر عظيم على.. يعني عالمياً يعتبرونني كاتباً مشهوراً. ثم يستأذن الكاتب ويذهب للمشاركة في مؤتمر دولي عن الكتابة، ويتحدث فيه بحرية بالغة عن الحرية نفسها وعن الإنسان وعن نضاله 40 سنة ومقاومته برواياته التي لم يفهم أي مواطن أنها روايات تطالب بالثورة على الظلم. بصراحة، لا توجد أيادٍ كافية في العالم لمنح مثل هذا الكاتب الكفوف التي يستحقها.

هنالك كُتَّاب ليس لكتبهم أي أثر في الثقافة الليبية (وأعني هنا الثقافة بمعناها الواسع جداً، من ثقافة المواطنين في الشارع إلى ثقافة المفكرين والأدباء). ولا نصف حبة أثر ميكروسكوبية. ومع ذلك يدعون أنهم يمثلون ليبيا! يا أساتذتي الكرام، ألا تدركون أن الناس لا يهتمون بنتاجكم الأدبي إلا لأنه لا يمثلهم من قريب ولا من بعيد؟ ألا تفهمون ذلك؟ ألا تعلمون أنكم تنتجون أعمالاً قد تكون تحفاً فنية، وهي بالنسبة لليبيين هكذا بالضبط: تحف فنية لا تقدم ولا تؤخر. ربما شيء جميل تستمتع به، ثم تنساه، لأنه لا يعنيك. إنه شيء قد يعجب شخصاً أجنبياً، شخصاً يبحث عن واقع مختلف عنه، فلا يختلف كتاب يروي (أو يزعم بأنه يروي) قصةً في ليبيا عن كتاب يروي قصةً في المريخ فيها تنانين تسافر عبر الزمن بسبب لعنة سحرية، كله خيال علمي فانتازي بالنسبة له.

ولكن القارئ الليبي، الذي اشتاق لصوته لمدة 42 سنة (وعاد من جديد يشتاق لصوته، فلم ينتهِ هذا الفراق بعد)، هذا القارئ يريد من يهمس بحقيقته، يريد أن يقرأ نفسه. إن قصةً قصيرة عن صديقان قديمان يتلقيان في مقهى متسخ ويستذكران الماضي الذي لا يعود أقرب بكثير إلى واقع القارئ الليبي من قصة سيريالية فلسفية عن رجل يعيش في الصحراء ويعاني من أزمة هوية. أعلم أننا يمكننا أن نقرأ ما نشاء في الفن، ويمكننا القول بأن هنالك رمزية للصحراء وأزمة الهوية وإلخ، ولكن حتى قصة المقهى واللقاء فيها رمزية وتحتاج لتفسير، وتفسير قصة تعتمد على الرمزية لاختراق الخطوط الحمراء أكثر وضوحاً وتواصلاً مع الواقع الليبي من تفسير رواية تبذل مجهوداً كبيراً في تفادي الخطوط الحمراء. ثم يظهر هذا الكاتب ويقول أنا كاتب ثائر أُمثل المجتمع! ويُرسل له الحاكم المستبد الظالم مرتباً شهرياً في محل إقامته خارج ليبيا يكفي 20 عائلة في ليبيا؛ لأن الحاكم غاضبٌ عليه وعلى تمرده بالطبع!

وهنا لا أستطيع منع نفسي من التفكير بأسى في الكُتاب الذين عبروا عن الواقع فعلاً، الكُتاب الذين أُلقي بهم تباعاً في السجن.. ما هو إحساس أحد هؤلاء الكتاب وهو يقرأ مقابلة في مجلة شهيرة مع ذلك الكاتب الذي يتحدث عن الحرية؟ ما هو إحساس الكاتب الذي يكتب عن القهر فعلاً، يكتب عن الجوع الذي شعر به فعلاً، يكتب عن اليأس الذي كان يقبض عليه وسط الشوارع التي تفيض بالبؤس والقمامة في هذه البلاد، وهو يقرأ أن هذا الكاتب أم ذاك الذي يعيش في الخارج على حساب الحكومة كان يمثل الشعب برواياته التي لا تتحدث عن الشعب بل عن "شريحة" من الشعب بعيداً عن بقية البلاد، أو ذلك الكاتب الذي كان يكتب أفكار وتوجهات الحاكم الذي يقمع الشعب ثم يقول أنه يمثل الشعب! ما هذا الهراء يا عالم؟! بماذا يشعر الكاتب الذي تبهدل في السجون وبماذا يشعر الكاتب الذي يكتب من وسط الشعب وبماذا يشعر الشعب؟

لستُ كاتباً، ولكنني من الشعب، ولذلك سأقول بأنني لا أشعر بشيء، لا أشعر بأن هذه الأعمال تشدني، أو تمثلني، أو تقترب مني ولو قيد أنملة. أشعر فقط بالغضب من كل ذلك الكذب والكذب والكذب، وأترك المائة كتاب التي ألفها الروائي الشهير العالمي الذي ترجمت أعماله لألف لغة والذي يقول أنه يمثل ليبيا لدرجة أنه يكاد يكون هو من خلقها كلها وهو لا يعتبرها وطنه أصلاً، وأخذ كتاباً صغيراً من قصص قصيرة لكاتب لم ينشر سوى هذا الكتاب ويكاد الناس أن ينسوا أنه موجود؛ فهذا الكاتب كاتب ليبي حقيقي ويمثلني، والآخرون فليذهبوا إلى الجحيم.. أعني جحيماً آخر غير ليبيا، فجحيم ليبيا لا يمثلونه!



6 أبريل 2017

الجمعة، 14 أبريل 2017

أنا أهرب...


حسناً، لا أعلم من أين أبدأ وهذا ليس مهماً، ولم يكن مهماً على الإطلاق في أي يوم من الأيام. كل ما في الأمر أنني لاحظتُ شيئاً: يا إلهي كم أكتب كثيراً! أعني كميات كبيرة من الهراء! هذا الكتاب أكتب عنه 16 صفحة! ذلك الكتيب الصغير 11 صفحة! 7 صفحات! 6 صفحات! ما هذا؟! ألا أستطيع أن أكتب مثل أي إنسان طبيعي آخر صفحةً أو صفحتين؟ ألا أستطيع مثلاً أن ألتزم بعدد 750 كلمة، أو 1,200 كلمة؟ 

حسناً، هذه التدوينة ستكون فقط 1,200 كلمة. بالحرف! وباستثناء العنوان طبعاً. والتاريخ. فقط. استثناءان وحيدان. باقي النص سيكون 1,200 صفحة من الصراخ! بالطبع لا يمكن معرفة أنني أكتب بسرعة وكأنني أصرخ حالياً، ولكن هذا ما يحدث، لدرجة أن معدل تنفسي مرتفع! علامة تعجب أخرى لتوضيح الفكرة! علامة تعجب!

حسناً، أولاً، أعلم أن هذه ثالث فقرة أبدأها بكلمة "حسناً"، ثانياً، كلمة حسناً يبدو أنها تأتي مع كل نفس عميق أخذه محاولاً تهدئة نفسي. حسناً.. نفس عميق. استرخاء. اهدأ يا أنا. اهدأ.. فكر في شيء هادئ، شيء مُهدئ. ليس لدي شيء مُهدئ أفكر فيه، كل شيء سيثير حزني وحسب. ونعم، أنا مكتئبٌ جداً، ولعل هذا السبب الأول في كثرة قراءاتي وكثرة كتابتي مؤخراً.

أحاول الغرق..

ولا مشكلة في ذلك حقاً، الشخص الذي يحرق علبة سجائر من شدة القلق، والذي يسكب زجاجة خمرٍ كاملة في جوفه محاولاً إغراق واقعه بالنسيان، والشخص الذي يتشبث بالوسادة والفراش محاولاً تجاهل العالم الذي يقف عند رأسه بجوار السرير، لستُ مختلفاً عن كل هؤلاء في محاولات الهرب.. محاولات الغرق. وربما هذا سبب أنني أمتلك "نفساً طويلاً" في كتابة الكلام الفارغ الذي لا يأتي بجديد.

لا أقدم أفكاراً جديدة، لا أقدم معلومات حصرية، لا أكتب إبداعاً فنياً لا مثيل له، أو ربما له مثيل عظيم! لا أفعل أي شيء يُبرر أنني أجلس وأكتب على مدى 16 صفحة متواصلة عن رواية قرأتها وشعرتُ بأنها عادية! إن وجهات نظري التي أعبر عنها تجعل حجم هذا التعبير يبدو غريباً. كتاب أعجبني أكتب عنه 7 صفحات. كتاب أحسست أنه عادي وربما سيء أكتب عنه 16 صفحة. كيف يحدث ذلك؟ لا أعلم، إنه فقط يحدث.

وبصراحة لا توجد مشكلة حقيقية في ذلك، أنا لا أكتب لأحد، أكتب فقط لنفسي، لكي أتذكر، لكي أشعر بأنني فعلتُ شيئاً ما، لكي أخدع نفسي بإنجاز لا يعلم أحد بوجوده. أنا أمر بأزمة وجودية، وهذا شيء طبيعي مع الاكتئاب الذي أعاني منه. ولكن، إذا كان الأمر عادياً ولا مشكلة حقيقية فيه، فما المشكلة إذاً؟! المشكلة أن هنالك مشكلة وهمية في الموضوع: شعوري بأن هذا غير سليم.

من أين جاء هذا الشعور؟ ببساطة جاء من واقع أنك إذا أردت كتابة أشياء عادية (مثل المقالات والمراجعات والتدوينات)، وإذا أردت الكتابة بشكل محترف، فعليك أن تكتب ما بين 750 و1,200 كلمة. هذا إذا كنت تريد من الناس أن يقرأوا فعلاً! إما هذا أو أن تكتب بأسلوب يشد القارئ ولا يشعره بأنه يقرأ 25 صفحة من الهراء لدرجة أنه يصاب بجلطة في منتصف القراءة وتُضيف ضحية جديدة إلى مسيرتك بصفتك قاتلاً متسلسلاً يقتل ضحاياه بالملل والكلام الفارغ.

أنا الآن عند 475 كلمة. حسناً، يجب أن أركز. أن أختصر الكلام. أن أصل إلى الفكرة. أن أختار الأفكار المهمة فقط... على الأقل هذا ما يجب أن تفعله في حالة كنت تكتب لكي يقرأ الناس. ولكنني لا أريد ذلك، لا أريد موازنة كلماتي، لا أريد اختيار أفكار أقولها وأفكار أمحوها بألم، لا أريد أن أتوقف كل مرة أثناء كتابتي لكي أراجع ما كتبته، ولا أريد حتى أن أكتب مسودة ثم أراجعها. أحد الكتاب كانت لديه تعليقات لطيفة حول الكتابة. كان يقول بأنه يسمح لنفسه باستثناء واحد للاحتفاظ بفكرة أو جملة في المقالات التي يكتبها، يعني حين يراجع المقالات ويقوم بتحريرها. وكان يقول أيضاً بأن المراجعة/التحرير ليست فقط البحث عن أخطاء طباعية، ولكنه الهجوم على حشود الكلمات وتقطيعها إلى أن تُباد كل الكلمات الضعيفة ولا تنجو إلا الكلمات القوية! هذه مهنة الكاتب الحقيقي. الكاتب الذي يريد إيصال فكرة من الكتابة، ولا أعني هنا الكاتب الفنان، أي الأديب، ولكن الكاتب "غير الخيالي".

بصراحة اللغة العربية تحتاج لمواكبة التصنيفات الإنجليزية للأدب: fiction خيال، بمعنى أدب متخيل (قصص، روايات، مسرحيات، إلى آخره)، وnon-fiction ليس خيالاً، بمعنى أدب واقعي (مقالات، مذكرات، مراجعات، إلخ – ولا أعلم لماذا كتبت "إلى آخره" المرة السابقة! لقد زدتُ عدد الكلمات بلا فائدة! ومازلتُ أفعل ذلك! تباً!).

نعود إلى الموضوع في الفقرة ما قبل السابقة. الكاتب الذي يريد إيصال فكرة، عليه أن يعمل. ربما أتحدث من تجربة شخصية وربما أتحدث من تجربتي بصفتي قارئاً (لا أحد يعلم!)، ولكن الكاتب عليه أن يُنتج نصاً يوصل الفكرة، مهما كانت طريقة كتابة النص، قد يكتب مقالة قصصية، قد يكتب مقالة أكاديمية جداً، قد يتحدث عن موضوع مختلف تماماً ولكن فيه عبرة لن تضيع على القارئ. عليه أيضاً أن يختار كلماته بعناية. أن يختار الكلمة التي لا تكون صحيحة لغوياً وحسب، المعنى المعجمي لم يعد كل ما في الأمر، ولكن عليه أيضاً أن يختار كلمة لها معنى شعوري مناسب أيضاً، كلمة حين يقرأها القارئ سوف يتخيل شيئاً معيناً. حين تريد وصف شخص وظيفته الوقوف خارج مبنى مثلاً، فإن الأمر سيختلف تماماً، أعني الشعور الذي يراود القارئ، سيختلف تماماً ما بين كلمة "بواب" وكلمة "حارس".

الخلاصة، لأني الآن تجاوزت 800 كلمة، الخلاصة أن مثل هذه الكتابة الجادة، وأيضاً (مع الاعتذار على استخدام هذه الكلمة!) الهادفة، هي كتابة تحتاج للكثير من الانضباط والكثير من العمل. ولكن، لا يوجد أي انضباط عند الشخص الذي يدخن علبة سجائر كاملة، والشخص الذي يدلق زجاجة خمر كاملة، والشخص الذي ينام يوماً كاملاً، و.. و.. و... لا يوجد غرق منضبط. يوجد فقط استسلام كامل للأعماق.

وهذا ما أفعله. هذا ما أحاول الآن تبريره لنفسي، لكي أجعل المشكلة "الوهمية" تختفي من خاطري، وتبقى كتاباتي طويلة بلا أي مشكلة. أنا أهرب. ولا أهرب باتجاه أحد، لا أريد لأحد أن يفهم أو أن تصله فكرة، أو أي شيء. ربما أتمنى أن يقرأ بضعة أشخاص (يعدون على أصابع يد واحدة!)، ولكن هؤلاء ليسوا "ناساً"، هؤلاء لن يتفرجوا علي وأنا أهرب، هؤلاء يرونني أهرب، فيركضون معي، ونصل في نهاية الطريق إلى جدارٍ ما، وننهار على الأرض، ونبكي معاً.. ثم أراهم أنا يهربون، فأركض معهم، ونصل إلى جدارٍ آخر، أو حافة، أو نتوقف عن الركض ونمشي معاً... هنالك أشخاص يعتبرون استثناءً لكل شيء في الحياة.

967 كلمة.

قلتُ بأنني سألتزم في هذه التدوينة بعدد 1,200 كلمة. هل هنالك فكرة أريد إيصالها؟ من الأفضل لي أن أنتبه! أوه تكاد تنفد مني الكلمات! أوه علي مراجعة كلامي! أوه يجب أن أنضبط! أوه! أوه! فليذهب كل ذلك إلى الجحيم! أنا أهرب هنا، لا أريد الالتزام بكل تلك القواعد التي لها غاية نبيلة وتهدف إلى شيء مثالي يثير الغثيان.

أنا فقط أهرب. وسأهرب بعشرة صفحات، عشرين صفحة، أو مائة صفحة. هذا ليس مهماً. ولا داعي لأن أتساءل وأشكك في نفسي. حين يأتي وقتٌ أريد أن أكتب فيه مقالةً لتنشر في مجلة ثقافية معتمدة ضمن حدود 1,200 كلمة مع مراجعة مدقق لغوي ومحرر لهذا القسم من المجلة، حينها سوف أبذل مجهوداً في أداء "وظيفة". ولكن الآن.. وهنا.. الآن وهنا أنا أهرب. أركض، أو أمشي، أو أغرق، أو أتحدث بهدوء مع أحد الأشخاص المميزين مع كوب من القهوة.

الآن لا أحتاج للالتزام بأي شيء سوى الحرية... لا داعي حتى لقيد 1,200 كلمة.


1,120 كلمة.

5 أبريل 2017


في بلاد الرجال لهشام مطر: عن الرعب تحت الشمس وإرهاق الماضي.




لقد كان كتاباً مرهقاً.. مرهقاً جداً... لم أتوقع أبداً أن يكون الكتاب هكذا. 

لقد سمعتُ عن الكتاب كثيراً، منذ صدوره وإلى اليوم (تقريباً 10 سنوات). وكيف لا، والكاتب هشام مطر ليبي حقق شهرةً في الخارج، في العالم الآخر. في السنوات الأولى لصدور الكتاب ربما كنا نتجاهله لأنه كتاب يتحدث عن جماهيرية القذافي، يتحدث عن ليبيا التي كنا لا نتحدث عنها إلا همساً بعد النظر حولنا ألف مرة. ربما هذا كان سبباً لاواعياً في تجاهل الكتاب، بالرغم من أن مثل هذه الكتب الممنوعة والخطيرة كانت خطيئة يحرص كثيرون على ارتكابها زمن القذافي، كانت الخطيئة الكبرى، المتعة القصوى، التمرد السري البائس ضد هذه البلاد وهذا الطاغية – الكتب الممنوعة كانت سلعةً أثمن من المخدرات وأقوى نشوةً منها، فربما لم يكن هذا السبب فعلاً. وإن كنت لا أعلم هل هذا السبب له دوره أم لا، فإنني أعلم يقيناً أن السبب الأساسي في إهمالي لقراءة الكتاب هو أنني كنتُ دائماً أشعر بأن هذا الكتاب ليس مهماً بالنسبة لي. ألفه رجلٌ لم يعش في ليبيا فعلاً، عاش أغلب حياته خارجها. ألفه بالإنجليزية. كان يكتبه للعالم، وليس لليبيا. كان يتحدث عن أشياء أعيشها، وتجارب اختبرتها. فلماذا سأقرؤه؟

ربما لم أكن مخطئاً فيما يخص طبيعة الكتاب، ولكنني كنتُ بلا شك مخطئاً في تجاهله.

مؤخراً أثار كتاب هشام مطر الجديد "العودة" ردود فعل عالمية إيجابية بشكل كبير. لقد فاز بجائزتين مرموقتين حتى الآن (حسب علمي). قلتُ في نفسي ربما حان الوقت لأقرأ كتبه. اشتريت "في بلاد الرجال" و"العودة"، وبقيتُ متردداً بخصوص الكتاب الذي في المنتصف "اختفاء". وكالعادة دائماً بقيتُ أتعطل وأتعطل وأقلب الصفحات الأولى لرواية "في بلاد الرجال" وأؤجل الأمر. إلى أن فاز كتاب "العودة" بجائزته الثانية مؤخراً. حسناً، هذه السنة أريد القراءة لكُتَّاب ليبيين والتعرف على الأدب الليبي. هشام مطر كاتب ليبي، وإن كنتُ مازلتُ متوجساً من كتابه هذا باعتباره كتاباً "أجنبياً". حفزتُ نفسي بخبر الجائزة الجديدة وبمشروع قراءتي الليبي. وبدأت في قراءة رواية "في بلاد الرجال".

لقد كان فخاً!

بداية الكتاب كانت مليئة بالابتسامات. إنها ليبيا. إنها بلادي التي تربيت فيها! نعم، سليمان (بطل الرواية والراوي) كان يعيش في طرابلس، وطرابلس مختلفة نسبياً عن بنغازي، وفي فترة زمنية تسبق طفولتي. لكنه كان يعيش حياةً شبيهةً بحياتي. حياة صغيرة. عائلة صغيرة، شارع واحد، جيران. كنتُ أبتسم كثيراً، كل شيء كان يجعلني أشعر بالحنين. حتى اسم دلع البطل الذي يناديه به البعض "سلومة"، كان يجعلني أشعر بالحنين بالرغم من أنه ليس اسمي، ولكنني كنت أقرأ اسم الدلع هذا بلهجة ليبية، أقرأ فيه الطفولة. إن هشام مطر يتذكر طفولته بوضوح دقيق، وضوح يلتقط حتى نبرة الناس وحركاتهم بالضبط وهم يلقون التحية على "سلومة" ويقولون له "يا بطل". لقد جذبني الكتاب بهذه النوستالجيا. احتواني، وطمأنني، ولف ذراعيه حولي.. ولم أكن أعلم أنه كان يمد يده إلى داخل صدري...

لقد بدأ الكتاب يمد يده إلى قلبي...

شيئاً فشيئاً بدأت الأحداث تتسارع.. شيئاً فشيئاً كانت يد الكتاب تقبض على قلبي.. شيئاً فشيئاً كان هشام مطر يستعيد كل مشاعر الطفولة في الجماهيرية: كل عدم الفهم الطفولي لتصرفات الكبار وخوفهم وسرية أحاديثهم وهمسهم وتحذيراتهم من تكرير الكلام، كل الرعب مما يحدث للآخرين وتسمعه وتراه، كل الخوف حتى من سماعة الهاتف والمكالمات.. لقد انغلقت يد الكتاب على قلبي، وعصرته! عصرت منه كل مشاعر وذكريات الطفل الذي يعيش في بلاد يتعلم فيها الخوف وهو صغير دون أن يفهمه، وشيئاً فشيئاً يكبر ليفهم تماماً سبب هذا الخوف فيبدأ في تعليم الأطفال هذا الخوف من جديد: لا تذكر ما سمعته لأحد! لا تُكرر هذا الكلام! اذهب والعب قليلاً أريد الحديث مع عمو، لا تتحدث في الهاتف عن شيء سلم عليه واعطني السماعة، لا تخرج هذه الكتب من البيت، لا تتحدث مع أولاد هذا الجار، ولا تعد للعب مع أولاد ذاك... لقد عصر الكتاب قلبي وأخرج من داخلي كل تلك المشاعر القديمة... مشاعر الطفل الخائف الذي لا يفهم شيئاً، ومشاعر الرجل الذي يكبر ويفهم ويحمد الله أنه لم يفعل شيئاً خاطئاً في صغره ويبدأ فوراً في الحذر حول الأطفال...

لقد عصر الكتاب قلبي!

وأرهقني.. كان وكأنه يفرض علي إعادة عيش تجارب نفسية مؤلمة... لا أذكر أن فرداً واحداً من عائلتي الممتدة الكبيرة، أعني أخوالي وأعمامي، كان يؤيد القذافي أو يدعمه، بل كان الجميع ينتقده ويتحدث عن جرائمه، غالبيتهم كانوا يتحدثون عن المملكة، "العهد البايد" (و"الباهي" في روايات أخرى)، غالبيتهم يقرأون ويتبادلون الكتب الممنوعة بسرية... وكثيرون سُجنوا وتعذبوا في سجون القذافي، غيرهم مهاجرون لم يكونوا يستطيعون العودة لأسباب أمنية، وآخرون كانوا معارضين صريحين في المنفى... كان هنالك الكثير من الرفض للقذافي في العائلة، وكل ذلك جعل نقد جماهيرية القذافي شيئاً عادياً داخل بيوت العائلة، ولكنه أيضاً زاد من الخوف.. عتبات البيوت كانت المكان الذي تخلع فيه حذاءك وحذرك، وحين تخرج ترتدي الاثنين وتنطلق في عالمٍ من الصمت. الكلام مسموحٌ به داخل البيت فقط. جدران بيوت العائلة وحدها ليست لها آذان، لكن بقية جدران المدينة كلها آذان وأعين.

هشام مطر أعادني إلى طفولتي، وجعلني أعيد عيش كل ذلك الرعب وعدم الفهم. لم أكن أخاف على سليمان، سلومة.. لم يكن رعبي هو على سلومة بطل الرواية الصغير، وأنه يتوجَّب عليه أن لا يتحدث مع رجال اللجان الثورية، أن لا يعطيهم معلومات، أن يكون حذراً، وأن يسمع كلام أهله.. لم أكن أخاف على سلومة، كنت أخاف على نفسي... ياه كم يتذكر هشام مطر طفولته الليبية. لقد اقتنعت بأنه بالفعل كتب ليبيا كما هي.

لقد أرهقني الكتاب لدرجة أنني وصلتُ مرحلةً كنت أخشى فيها من العودة لقراءته. لقد حاولت، بعد أحد الفصول الذي كاد أن يقتلع قلبي من مكانه، حاولت أن أغادر جسدي قبل أن أعود للقراءة! قلت في نفسي يجب أن أكمل قراءة الكتاب، ولن أستطيع فعل ذلك وأنا موجود! لا أستطيع أن أترك قلبي وروحي في داخلي ليقبض عليهما الكتاب مرةً أخرى ويعصرهما! ولكن، لحسن الحظ أو بؤسه، كان ذلك الأثر قد اختفى حين بدأت الرواية تصف أحداثاً حقيقية.

الرواية كلها حقيقية. كل تفاصيلها. ولكن ما أعنيه هو أنه حين بدأت الرواية تصف أحداثاً نعرفها جميعاً ونعرف بشاعتها وعشنا مع رعبها طويلاً نُغذي بها رفضنا الدائم للقذافي، حين بدأت الرواية تصف هذه الأحداث وتغيرها قليلاً (للتماشي مع طبيعة الرواية "المتخيلة" المبنية على أحداث واقعية)، فقدت الرواية سيطرتها العنيفة علي، أعني أن قبضتها العاطفية التي كانت تعصر قلبي ارتخت.

حدث ذلك بالتحديد مع أحداث إعدام الصادق الشويهدي رحمه الله، طبعاً أقصد الشخصية في القصة المبنية على الصادق الشويهدي رحمه الله. إنها قصةٌ أعرفها جيداً، حفظتها، رأيت صورها، أعلم كل شيءٍ حولها واكتسبت تجاهها مناعةً من نوعٍ ما. إن كان يمكن وصف الاعتياد على الألم بأنه مناعة، فأنت ستشعر بالألم، كل ما في الأمر أنه لن يكون جديداً. هذه الأحداث كانت منعطفاً في الرواية، ربما كان منعطفاً يمثل انتقال الرواية من رواية تشارك الليبيين ذكرياتهم، إلى رواية تخاطب العالم غير الليبي – العالم الآخر. في ذلك المنعطف تحررتُ من الرواية، لم تعد تقبض علي، وكأنها تركتني وذهبت تبحث عن آخرين لتقبض على قلوبهم وتعصرها (إحدى الصديقات، التي ليست من ليبيا، أخبرتني عن صدمتها وخوفها من الرواية وعن ألمها الذي لا تريد تذكره والذي تسببت به هذه الأجزاء من الرواية.. يبدو أن الرواية بالفعل نجحت في القبض على قلوب غير الليبيين في هذه الأجزاء...).

بعد هذه الأجزاء، كانت هنالك أجزاء قصيرة أخرى قد تعود بالقارئ الليبي إلى واقعه وتثير فيه مشاعر دفينة. هي الأجزاء التي تتحدث عن المعتقلين والبوح بأسماء الرفاق والخيانة والبطولة والصمت. إنه شيءٌ بشعٌ بلا شك، أن ينكسر الإنسان تحت التعذيب ويُدفع نحو الخيانة. ولكن ذكرياتي عن الأمر، القصص التي كنت أسمعها طوال الوقت عن المعتقلين ومنهم، مختلفة قليلاً عما في الرواية. الرواية تضع تلك الصورة المعتادة لخيبة الأمل في الخيانة والتقزز منها، وربما هذا للتوافق مع إحدى عبر الرواية التي يريدها هشام مطر، والتي سأذكرها لاحقاً. الواقع في ليبيا كان مختلفاً. كان التعذيب قد وصل بالناس إلى تقبل الخيانة. نعم، لهذه الدرجة كان الوضع سيئاً. لقد سمعتُ قصصاً كثيرةً جداً عن رفاق يعتذرون لبعضهم ويسامحون بعضهم، ولم يكن الأمر محصوراً بالرفاق في جريمة معارضة النظام، فهنالك قصص كثيرة عن أشخاص أبرياء لا علاقة لهم بشيء ينهارون تحت التعذيب وينطقون بأسماء لأشخاص آخرين أبرياء. أحد هؤلاء أعطى المحققين اسم أحد أصدقائه، وحين التقيا في السجن اعتذر له وقال له قلت في نفسي أنت لن تعترض على مؤازرة صديقك والتسكع معه قليلاً، خاصةً وأنهم هددوني بإحضار أبي وأمي للسجن! لقد اختار الرجل البريء أن يعطيهم اسم صديق هو الآخر بريء لأن صديقه سوف يتفهم، وبعد سنوات السجن الطويلة يروي لك القصة ضاحكاً. ونعم، كانت هنالك قصص بطولية، سوف تسمع عن أشخاص اشتهروا بأنهم لا يمكن كسرهم وإخراج ولو حرف واحد من بين شفاههم، سوف تسمع عن أشخاص لم يكونوا يدخلون لجلسة تعذيب ولكن لجلسة مصارعة فيلكمون ويركلون ويعضون معذبيهم! سوف تسمع عن أشخاص كانوا يعترفون على أنفسهم ويبرئون رفاقهم. ولكنك سوف تدرك أن الجميع تقبلوا الخيانة حين تكون نتيجةً للتعذيب. ولكن ليس الوشاية! هذه كانت آفة البلاد، وبالتالي كانت أكبر خطيئة يمكن ارتكابها في أعين الناس. التبليغ عن شخص ما. ولكن في السجن، تحت التعذيب، كانت الخيانة مختلفةً تماماً...

بعد أن تعبر الرواية ذلك المنعطف، أعني بعدما شعرتُ أن الرواية بدأت في مخاطبة العالم، فهي تنتهي بثلاثة أصوات...

صوت ليبيا يتراجع في الخلفية، يصبح قصصاً بعيدة. يعرفها كل الليبيون جيداً، ويعيشونها، ولا تعود الرواية تشدهم فعلاً – على الأقل هذه تجربتي، القبضة ارتخت من على قلبي وذهبت تبحث عن ضحايا آخرين!

صوتٌ آخر أعلى يخاطب العالم الخارجي (أو ربما يسمعه العالم الخارجي بوضوحٍ أكثر)، صوتٌ يقول بأن هنالك عالم بالرغم من أنه يقع تحت الشمس مباشرةً ويكاد يحترق تحت ضوئها إلا أنكم لا تعرفون عنه شيئاً ولا ترونه، وفي هذا العالم لا نهاية هوليوودية سعيدة، في هذا العالم الدماء بشعة وليست شيئاً نبيلاً بطولياً، في هذا العالم ينهار الأبطال، يبكون، يتبولون على أنفسهم، يخونون رفاقهم، لا يوجد بطل يحتفظ بصمته ويموت مرفوع الرأس (وهذه العبرة التي ربما تكون السبب في تصوير هشام مطر للخيانة في صورة مخزية قد تخالف الواقع). في هذا العالم الحياة ليست طبيعية. أشعر بأن هذا الصوت موجه للعالم الخارجي، العالم حول ليبيا، فهذه الحياة "غير الطبيعية" التي لا تنتهي نهايةً سعيدة هي الحياة التي نعيشها، الحياة التي كنا نعيشها تحت القذافي، والتي مازلنا نعيشها في ظروف أسوأ اليوم...

الصوت الثالث هو صوت الليبي المنفي. صوت الليبي الذي يقول بأنه انقطع عن بلاده بسهولة كبيرة. لم يستبدلها ببلاد أخرى، ولكن حبل الوطنية الرفيع جداً (كما يصفه هشام مطر، معقباً بأن هذا قد يكون سبب هوس الجميع بحمايته!) ينقطع، وتبقى البلاد مجرد فراغ في صدرك. الليبي المنفي، المغترب، الذي يتساءل بغضب عما تريدُ تلك البلاد من أولادها بعد، ألا يكفيها ما أخذته منهم؟! هذا صوتٌ لا أظن أن العالم الخارجي سوف يسمعه، ولا أظن أن ليبيا سوف تسمعه بوضوح، ولكن أي ليبي اغترب قليلاً سيسمعه ويفهمه جيداً.

لا أريد الحديث عن المعاني الكامنة في الرواية. أظن أن أبرز معنى في هذه الرواية التي تقف فجأةً لتخاطب العالم هو أن هناك حقيقة تقع تحت الشمس مباشرةً لا يراها العالم، حقيقة لا نهاية سينمائية سعيدة وبطولية فيها. وربما هناك رسالة أخرى، رسالة ضمنية في علاقة سلومة بأمه نجوى، أمه التي يمكنها أن تكون رمزاً لليبيا، الفتاة التي تزوجت رغماً عنها، والتي ربطتها علاقة متقلبة بابنها، فهو يحبها ويريد إنقاذها، وأحياناً يكرهها ويغضب منها – ليبيا هي أمنا التي نغيب عنها ونتفادى الاتصال بها، ولكن حين نراها نصيح بشوق "ماما! ماما! ماما!". ربما هذه أبرز المعاني في الرواية. باقي الكلام نعرفه، الليبيون عاشوه، كثيرون في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والعالم الثالث عاشوه واختبروه جيداً. القارئ الأوروبي ستختلف ردة فعله مع هذه الرواية الأجنبية تماماً عليه، القارئ الشرقي ستكون له ردة فعل أكثر وعياً بتفاصيل هذه الرواية، والقارئ الليبي سيعرف كل شيء. والتجربة الشخصية لكل قارئ مختلف أيضاً ستحكم الأمر، ردة فعلي المرتبطة بالرواية كثيراً على المستوى العاطفي ستبقى أبعد بكثير من ردة فعل أحد أقربائي أو أصدقائي أو جيران طفولتي الذين اعُتقل أهاليهم مثلاً والذين سيكونون أقرب للرواية. ردة فعلي على الجزء الأخير من الرواية وأنا مغترب سيختلف بلا شك عن ردة فعل شخص لا يزال في ليبيا، وسيختلف عن ردة فعل شخص لم يضطر يوماً للتفكير في مغادرة بلاده.

وبالحديث عن التجارب الشخصية في القراءة، فقد كنتُ أشعر بنوع من الصدمة وأنا أقرأ الكتاب. صدمة أن يكون هشام مطر كاتباً بارعاً لهذه الدرجة. كيف تأخرتُ في قراءة الكتاب لهذه الدرجة؟ كيف يمكن أن يكون هنالك كاتب ليبي بهذا المستوى؟ لا توجد أية أخطاء في الكتاب!

هشام مطر كاتبٌ حقيقي، شاعرٌ حقيقي. إنه يُجيد الوصف، والتقاط التفاصيل العابرة، يجيد وصف  مشاعر الناس وتحليلها، ويُجيد استخدام التشبيهات التي تجعل القارئ يفهم تماماً ما يقصد (براعته في التشبيه براعة شاعر!)، كما يجيد السرد والتشويق. إن خلاصة ذلك أن الرواية تكون عملاً أدبياً فنياً متقناً، وليس مجرد رواية مشوقة أو سيرة ذاتية أو كتابة رجل يُحدث العالم عن مكان غريب اسمه ليبيا (أو الجماهيرية!).

أظن أنني وصلتُ إلى نهاية حديثي.. لا شيء جديد حقاً في هذه "المراجعة"، إن جاز لي وصفها  بذلك. هي فقط تجربتي الشخصية في قراءة هذا الكتاب. لم أندم إطلاقاً على قراءة الكتاب، بل ندمت على تغافلي عن هذا الكاتب طيلة هذه الفترة. أشعر بأن زمن هذا الكتاب قد ولى، خاصةً بعد سقوط القذافي وسقوط ليبيا نفسها في جحيم مختلف كلياً الآن، وإن كان الكتاب يبقى (مثل الكثير من الأعمال الكلاسيكية في الأدب العالمي التي استحق هشام مطر مكانه بجدارة بينها) يبقى شاهداً على عصره. شاهداً يقول الحقيقة، وهذا شيءٌ نادرٌ جداً في عالم الأدب الخيالي...

هشام مطر كاتب حقيقي. وكتاب "في بلاد الرجال" عمل فني حقيقي، حقيقي واقعياً وحقيقي فنياً...

ولقد كان كتاباً مرهقاً...

5 أبريل 2017.


الخميس، 13 أبريل 2017

مازلنا هناك...

الكاتب عبدالله القويري على اليمين، والكاتب يوسف الدلنسي على اليسار، رحمة الله عليهما.

بعض القُراء على "الصوشيال ميديا" قاموا مؤخراً بشن حملة صليبية، أقصد، آسف، كلمة حملة مرتبطة بالصليبية. بعض القُراء قاموا ببذل مساعٍ (هذه مرتبطة بمعنى إيجابي، صح؟) لإعادة تعريف القراء الليبيين على كُتاب ليبيين نساهم الليبيون. هذه الحملة تمحورت حول اسمين: يوسف القويري (أطال الله في عمره) وعبدالله القويري (رحمه الله).

بالنسبة لي كان ذلك دافعاً للانطلاق في مشروع شخصي لاستكشاف المفكرين والكتاب والشعراء الليبيين بصفة عامة (لله دري)، ولكنني مثل غيري قررت البدء بأبناء العم القويريين. حركة تنوير كانت قد استجابت لهذا الحراك الثقافي وقامت برفع بعض كتب الرجلين إلكترونياً. والحراك تمدد أكثر من ذلك على كل حال، فقد بدأ القُراء في ليبيا بالبحث في مكتباتهم، وبدأ البعض في زيارة المكتبات والبحث عن كتب القويريين، وبدأت تنتشر صور كتبهما، ووضعت مؤلفاتهما على موقع goodreads.

من بين الكتب التي قامت حركة تنوير برفعها، أشعر بأنني يجب أن أضيف كلمة "مشكورة" مثلما يُقال عند إلقاء كلمات وبيانات وعندما يتحدث أحد الضيوف في مناسبة تقوم بتنظيمها جهة ما مشكورة! على كل حال، من بين الكتب التي رفعتها حركة تنوير كتاب "معنى الكيان" لعبدالله القويري.



المستشرقون الأشرار

الجزء الأول من الكتاب، وهو في الحقيقة كتيب (حوالي 50 صفحة)، وكان من المفترض أن يكون جزءاً من سلسلة كتب صغيرة لكن للأسف الأستاذ عبدالله القويري لم تتوفر له فرصة إكمالها بعد إصدار كتابين، "معنى الكيان" و"كلمات إلى وطني". وبالعودة إلى موضوع هذا العنوان الفرعي الساخر (أنا فقط في مزاج سيء، لكن لا أسخر من الكتاب)، فإن الجزء الأول من الكتاب يُسخره عبدالله القويري لمناقشة بعض الكتابات الاستشراقية عن ليبيا.

الأستاذ عبدالله يذكر كتباً مثل "السنوسية في برقة"، "طرابلس تحت حكم القرامنلي"، "بنغازي: قصة مدينة"، "ليبيا دولة من الواحات"، "شمال أفريقيا.. المغرب"... وهي كلها كتب مؤلفة بوجهة نظر استشراقية محضة، تدرس ليبيا والليبيين مثلما كان داروين يدرس الحشرات على جزر غالاباغوس!

من الواضح أن هدف الأستاذ القويري في الرد على بعض ما جاء في هذه الكتب لم يكن تعصباً وطنياً أو رفضاً لمؤلفات أنتجتها عقليات استشراقية-استعمارية (ليس كل الاستشراق سيئاً)، ولكن هدفه كان دعم قضايا ذلك الزمان، وبالتحديد قضية الوحدة. فكما نعلم جميعاً (لا أعلم من "نحن" الذين أصفنا بكلمة "جميعاً"، لكن ربما علينا تأسيس جمعية أو نادي لنعلم أشياءً معاً!) فكما نعلم حين نالت ليبيا استقلالها كانت قضية الوحدة من القضايا الحساسة في هذه الأرض التي كثيراً ما عانت من الانقسام. الكثير من التنازلات حدثت في تلك الفترة، وكثيرون ضحوا لكي تظهر تحت الشمس المملكة الليبية المتحدة (في إشارة واضحة لهشاشة الوضع!) قبل أن تُزال كلمة "متحدة" من الدستور بعد حوالي عشر سنوات من تاريخ الاستقلال.

الأستاذ عبدالله كان مشغولاً بهذه القضية كما يبدو. وكان يريد الرد على ما جاء في الكتابات الاستشراقية وما كان (ومازال) الناس يتحدثون عنه. لعل أبرز مثال للمجادلات التي خاض فيها الأستاذ عبدالله هي مجادلة العداء بين المدينة والضواحي، أو بين الحضر والبادية (الحضور والبوادي).