ليس
لدي شيء أتحدث عنه، فقط الكثير من الغضب والكثير من الحقد والكثير من اليأس.
وأطنان من الملل (أنا الآن في العمل، شششش لا أريد أن يعرف أحد ماذا أفعل!). وفي
هذا السياق، فقد وجدتُ بضعة أغصان يابسة من القهر لأرميها على نار غضبي الملولة
وأقرر كتابة شيء ما.
الموضوع
ببساطة هو الكُتَّاب والشعراء والمبدأ. والمبدأ هنا هو الالتزام الحقيقي بكل
الهراء الذي يتظاهر الكُتاب بأنهم يعتنقونه: الإنسانية، الحقوق، الحرية، الأدب،
الفن، كل شيء آخر يقولون أن هذه الرواية أو تلك تعبير عن صراعه مع كذا في كذا
وانتصار الكذا على كذا. هذا تعريفي للمبدأ لغايات هذه الورقة البحثية التي أقدمها
إلى المؤتمر السنوي السابع والثلاثين حول الكلام الفراغ.
وبعد
تعريف المبدأ، ثاني أهم نقطة يجب أن أذكرها أن المبدأ مستحيلٌ في عالمنا الذي فيه
"يمتد عمر الشاعر الحر، إلى أقصاه: بين الرحم والقبر!". لا يمكن لأي
كاتب أو شاعر أن يلتزم بحديثه عن الحرية في دول يتصدق فيها الحكام بنسبة بسيطة من
الحرية بين الحين والآخر لتزكية استبدادهم ومباركة حكمهم. الموضوع مللنا من القراءة
عنه والحديث عنه: عالمنا سجنٌ كبيرٌ في أحسن الحالات، وفي أسوأها قبر. الكاتب
الملتزم بالمبدأ سيكتب على جدران السجن أكثر مما سيكتب في الجرائد والمواقع.
والكاتب الذي يعيش المبدأ عظم الله أجرنا فيه.
فما
المشكلة إذاً؟ المشكلة هي ببساطة أن يكذب الكاتب. أن تجد كاتباً (بدون ذكر أسماء)
يعيش مستفيداً من النظام، وينال المكافآت والمناصب والدعم، ويكتب مادحاً ملمعاً.
ثم! فجأةً! بعد سقوط النظام، يتضح أن هذا الكاتب كان يكرهه! كان يحتقره! كان وكان
وكان! بل كان على وشك الإطاحة بالنظام بنفسه لولا أن تدخلت الأقدار وانتفضت البلاد
ومات القذافي. ونعم، أنا أتحدث عن ليبيا طبعاً. كثيرون جداً هم هؤلاء الكتاب
عندنا. أشخاص "ناموا في الفراش مع القذافي" (لاستعارة التعبير
الإنجليزي) ثم بعد موته أعلنوا أنهم لم يكونوا معه في الفراش إلا ليحاولوا خنقه
بالوسادة وهو نائم! لا يا راجل؟! احلف؟!
وحسناً،
هذا شيء طبيعي. هذا الانقلاب ضروري. بعض الكتاب من هذا النوع كان موقفهم أكثر
اعتدالاً، لم ينكروا ماضيهم ولم يتناقضوا مع أنفسهم كلياً. بعضهم استغلوا جرائم
القذافي أثناء أحداث انتفاضة 2011 والحرب التي لحقتها، وجعلوا ذلك نقطة انفصالهم
عن القذافي (صح النوم!)، والتزموا الصمت حول صمتهم طيلة أربعة عقود تجاه بقية
جرائم القذافي. هؤلاء تأخروا كثيراً في محاولة الالتزام بالمبدأ. ولكن تبقى
فضيحتهم أهون بكثير من فضيحة من حاول تغيير تاريخه!
بعض
الكتاب نجدهم يقولون: كتاباتنا كانت ثورية! حقاً؟ ألهذا السبب كلما ظهر لكم كتاب
كانت البلاد تنتفض وتثور؟ آه، ربما لم يفهم أحد. حسناً، أكمل لو سمحت. نعم (سيقول
ذلك الكاتب)، كتاباتي كانت ثورية، تحرض على الثورة ضد الظلم، كتاباتي كانت تمثل
ضمير ليبيا وروحها. هل هذا صحيح؟ عماذا كنت تتحدث في كتاباتك؟ القمع؟ التعذيب؟
الدولة البوليسية؟ الجوع؟ لا، لا، لا (سيتابع ذلك الكاتب)، كنت أتحدث عن ثقافة
ليبية تعتبر أقلية وعن تاريخ قديم وأشياء هكذا ولكنها تعبر عن ليبيا كلها وعن
وضعها وواقعها وتاريخها وأحلامها وطموحاتها... يعني.. (يبدأ الكاتب يتعرق).. يعني
أنا حفظت التراث الليبي وهكذا، وكان لي أثر عظيم على.. يعني عالمياً يعتبرونني
كاتباً مشهوراً. ثم يستأذن الكاتب ويذهب للمشاركة في مؤتمر دولي عن الكتابة،
ويتحدث فيه بحرية بالغة عن الحرية نفسها وعن الإنسان وعن نضاله 40 سنة ومقاومته
برواياته التي لم يفهم أي مواطن أنها روايات تطالب بالثورة على الظلم. بصراحة، لا
توجد أيادٍ كافية في العالم لمنح مثل هذا الكاتب الكفوف التي يستحقها.
هنالك
كُتَّاب ليس لكتبهم أي أثر في الثقافة الليبية (وأعني هنا الثقافة بمعناها الواسع
جداً، من ثقافة المواطنين في الشارع إلى ثقافة المفكرين والأدباء). ولا نصف حبة
أثر ميكروسكوبية. ومع ذلك يدعون أنهم يمثلون ليبيا! يا أساتذتي الكرام، ألا تدركون
أن الناس لا يهتمون بنتاجكم الأدبي إلا لأنه لا يمثلهم من قريب ولا من بعيد؟ ألا
تفهمون ذلك؟ ألا تعلمون أنكم تنتجون أعمالاً قد تكون تحفاً فنية، وهي بالنسبة
لليبيين هكذا بالضبط: تحف فنية لا تقدم ولا تؤخر. ربما شيء جميل تستمتع به، ثم
تنساه، لأنه لا يعنيك. إنه شيء قد يعجب شخصاً أجنبياً، شخصاً يبحث عن واقع مختلف
عنه، فلا يختلف كتاب يروي (أو يزعم بأنه يروي) قصةً في ليبيا عن كتاب يروي قصةً في
المريخ فيها تنانين تسافر عبر الزمن بسبب لعنة سحرية، كله خيال علمي فانتازي
بالنسبة له.
ولكن
القارئ الليبي، الذي اشتاق لصوته لمدة 42 سنة (وعاد من جديد يشتاق لصوته، فلم ينتهِ
هذا الفراق بعد)، هذا القارئ يريد من يهمس بحقيقته، يريد أن يقرأ نفسه. إن قصةً
قصيرة عن صديقان قديمان يتلقيان في مقهى متسخ ويستذكران الماضي الذي لا يعود أقرب
بكثير إلى واقع القارئ الليبي من قصة سيريالية فلسفية عن رجل يعيش في الصحراء
ويعاني من أزمة هوية. أعلم أننا يمكننا أن نقرأ ما نشاء في الفن، ويمكننا القول
بأن هنالك رمزية للصحراء وأزمة الهوية وإلخ، ولكن حتى قصة المقهى واللقاء فيها
رمزية وتحتاج لتفسير، وتفسير قصة تعتمد على الرمزية لاختراق الخطوط الحمراء أكثر
وضوحاً وتواصلاً مع الواقع الليبي من تفسير رواية تبذل مجهوداً كبيراً في تفادي
الخطوط الحمراء. ثم يظهر هذا الكاتب ويقول أنا كاتب ثائر أُمثل المجتمع! ويُرسل له
الحاكم المستبد الظالم مرتباً شهرياً في محل إقامته خارج ليبيا يكفي 20 عائلة في
ليبيا؛ لأن الحاكم غاضبٌ عليه وعلى تمرده بالطبع!
وهنا
لا أستطيع منع نفسي من التفكير بأسى في الكُتاب الذين عبروا عن الواقع فعلاً،
الكُتاب الذين أُلقي بهم تباعاً في السجن.. ما هو إحساس أحد هؤلاء الكتاب وهو يقرأ
مقابلة في مجلة شهيرة مع ذلك الكاتب الذي يتحدث عن الحرية؟ ما هو إحساس الكاتب
الذي يكتب عن القهر فعلاً، يكتب عن الجوع الذي شعر به فعلاً، يكتب عن اليأس الذي
كان يقبض عليه وسط الشوارع التي تفيض بالبؤس والقمامة في هذه البلاد، وهو يقرأ أن
هذا الكاتب أم ذاك الذي يعيش في الخارج على حساب الحكومة كان يمثل الشعب برواياته التي
لا تتحدث عن الشعب بل عن "شريحة" من الشعب بعيداً عن بقية البلاد، أو
ذلك الكاتب الذي كان يكتب أفكار وتوجهات الحاكم الذي يقمع الشعب ثم يقول أنه يمثل
الشعب! ما هذا الهراء يا عالم؟! بماذا يشعر الكاتب الذي تبهدل في السجون وبماذا
يشعر الكاتب الذي يكتب من وسط الشعب وبماذا يشعر الشعب؟
لستُ
كاتباً، ولكنني من الشعب، ولذلك سأقول بأنني لا أشعر بشيء، لا أشعر بأن هذه
الأعمال تشدني، أو تمثلني، أو تقترب مني ولو قيد أنملة. أشعر فقط بالغضب من كل ذلك
الكذب والكذب والكذب، وأترك المائة كتاب التي ألفها الروائي الشهير العالمي الذي
ترجمت أعماله لألف لغة والذي يقول أنه يمثل ليبيا لدرجة أنه يكاد يكون هو من خلقها
كلها وهو لا يعتبرها وطنه أصلاً، وأخذ كتاباً صغيراً من قصص قصيرة لكاتب لم ينشر
سوى هذا الكتاب ويكاد الناس أن ينسوا أنه موجود؛ فهذا الكاتب كاتب ليبي حقيقي ويمثلني،
والآخرون فليذهبوا إلى الجحيم.. أعني جحيماً آخر غير ليبيا، فجحيم ليبيا لا
يمثلونه!
6 أبريل 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق