الجمعة، 14 أبريل 2017

أنا أهرب...


حسناً، لا أعلم من أين أبدأ وهذا ليس مهماً، ولم يكن مهماً على الإطلاق في أي يوم من الأيام. كل ما في الأمر أنني لاحظتُ شيئاً: يا إلهي كم أكتب كثيراً! أعني كميات كبيرة من الهراء! هذا الكتاب أكتب عنه 16 صفحة! ذلك الكتيب الصغير 11 صفحة! 7 صفحات! 6 صفحات! ما هذا؟! ألا أستطيع أن أكتب مثل أي إنسان طبيعي آخر صفحةً أو صفحتين؟ ألا أستطيع مثلاً أن ألتزم بعدد 750 كلمة، أو 1,200 كلمة؟ 

حسناً، هذه التدوينة ستكون فقط 1,200 كلمة. بالحرف! وباستثناء العنوان طبعاً. والتاريخ. فقط. استثناءان وحيدان. باقي النص سيكون 1,200 صفحة من الصراخ! بالطبع لا يمكن معرفة أنني أكتب بسرعة وكأنني أصرخ حالياً، ولكن هذا ما يحدث، لدرجة أن معدل تنفسي مرتفع! علامة تعجب أخرى لتوضيح الفكرة! علامة تعجب!

حسناً، أولاً، أعلم أن هذه ثالث فقرة أبدأها بكلمة "حسناً"، ثانياً، كلمة حسناً يبدو أنها تأتي مع كل نفس عميق أخذه محاولاً تهدئة نفسي. حسناً.. نفس عميق. استرخاء. اهدأ يا أنا. اهدأ.. فكر في شيء هادئ، شيء مُهدئ. ليس لدي شيء مُهدئ أفكر فيه، كل شيء سيثير حزني وحسب. ونعم، أنا مكتئبٌ جداً، ولعل هذا السبب الأول في كثرة قراءاتي وكثرة كتابتي مؤخراً.

أحاول الغرق..

ولا مشكلة في ذلك حقاً، الشخص الذي يحرق علبة سجائر من شدة القلق، والذي يسكب زجاجة خمرٍ كاملة في جوفه محاولاً إغراق واقعه بالنسيان، والشخص الذي يتشبث بالوسادة والفراش محاولاً تجاهل العالم الذي يقف عند رأسه بجوار السرير، لستُ مختلفاً عن كل هؤلاء في محاولات الهرب.. محاولات الغرق. وربما هذا سبب أنني أمتلك "نفساً طويلاً" في كتابة الكلام الفارغ الذي لا يأتي بجديد.

لا أقدم أفكاراً جديدة، لا أقدم معلومات حصرية، لا أكتب إبداعاً فنياً لا مثيل له، أو ربما له مثيل عظيم! لا أفعل أي شيء يُبرر أنني أجلس وأكتب على مدى 16 صفحة متواصلة عن رواية قرأتها وشعرتُ بأنها عادية! إن وجهات نظري التي أعبر عنها تجعل حجم هذا التعبير يبدو غريباً. كتاب أعجبني أكتب عنه 7 صفحات. كتاب أحسست أنه عادي وربما سيء أكتب عنه 16 صفحة. كيف يحدث ذلك؟ لا أعلم، إنه فقط يحدث.

وبصراحة لا توجد مشكلة حقيقية في ذلك، أنا لا أكتب لأحد، أكتب فقط لنفسي، لكي أتذكر، لكي أشعر بأنني فعلتُ شيئاً ما، لكي أخدع نفسي بإنجاز لا يعلم أحد بوجوده. أنا أمر بأزمة وجودية، وهذا شيء طبيعي مع الاكتئاب الذي أعاني منه. ولكن، إذا كان الأمر عادياً ولا مشكلة حقيقية فيه، فما المشكلة إذاً؟! المشكلة أن هنالك مشكلة وهمية في الموضوع: شعوري بأن هذا غير سليم.

من أين جاء هذا الشعور؟ ببساطة جاء من واقع أنك إذا أردت كتابة أشياء عادية (مثل المقالات والمراجعات والتدوينات)، وإذا أردت الكتابة بشكل محترف، فعليك أن تكتب ما بين 750 و1,200 كلمة. هذا إذا كنت تريد من الناس أن يقرأوا فعلاً! إما هذا أو أن تكتب بأسلوب يشد القارئ ولا يشعره بأنه يقرأ 25 صفحة من الهراء لدرجة أنه يصاب بجلطة في منتصف القراءة وتُضيف ضحية جديدة إلى مسيرتك بصفتك قاتلاً متسلسلاً يقتل ضحاياه بالملل والكلام الفارغ.

أنا الآن عند 475 كلمة. حسناً، يجب أن أركز. أن أختصر الكلام. أن أصل إلى الفكرة. أن أختار الأفكار المهمة فقط... على الأقل هذا ما يجب أن تفعله في حالة كنت تكتب لكي يقرأ الناس. ولكنني لا أريد ذلك، لا أريد موازنة كلماتي، لا أريد اختيار أفكار أقولها وأفكار أمحوها بألم، لا أريد أن أتوقف كل مرة أثناء كتابتي لكي أراجع ما كتبته، ولا أريد حتى أن أكتب مسودة ثم أراجعها. أحد الكتاب كانت لديه تعليقات لطيفة حول الكتابة. كان يقول بأنه يسمح لنفسه باستثناء واحد للاحتفاظ بفكرة أو جملة في المقالات التي يكتبها، يعني حين يراجع المقالات ويقوم بتحريرها. وكان يقول أيضاً بأن المراجعة/التحرير ليست فقط البحث عن أخطاء طباعية، ولكنه الهجوم على حشود الكلمات وتقطيعها إلى أن تُباد كل الكلمات الضعيفة ولا تنجو إلا الكلمات القوية! هذه مهنة الكاتب الحقيقي. الكاتب الذي يريد إيصال فكرة من الكتابة، ولا أعني هنا الكاتب الفنان، أي الأديب، ولكن الكاتب "غير الخيالي".

بصراحة اللغة العربية تحتاج لمواكبة التصنيفات الإنجليزية للأدب: fiction خيال، بمعنى أدب متخيل (قصص، روايات، مسرحيات، إلى آخره)، وnon-fiction ليس خيالاً، بمعنى أدب واقعي (مقالات، مذكرات، مراجعات، إلخ – ولا أعلم لماذا كتبت "إلى آخره" المرة السابقة! لقد زدتُ عدد الكلمات بلا فائدة! ومازلتُ أفعل ذلك! تباً!).

نعود إلى الموضوع في الفقرة ما قبل السابقة. الكاتب الذي يريد إيصال فكرة، عليه أن يعمل. ربما أتحدث من تجربة شخصية وربما أتحدث من تجربتي بصفتي قارئاً (لا أحد يعلم!)، ولكن الكاتب عليه أن يُنتج نصاً يوصل الفكرة، مهما كانت طريقة كتابة النص، قد يكتب مقالة قصصية، قد يكتب مقالة أكاديمية جداً، قد يتحدث عن موضوع مختلف تماماً ولكن فيه عبرة لن تضيع على القارئ. عليه أيضاً أن يختار كلماته بعناية. أن يختار الكلمة التي لا تكون صحيحة لغوياً وحسب، المعنى المعجمي لم يعد كل ما في الأمر، ولكن عليه أيضاً أن يختار كلمة لها معنى شعوري مناسب أيضاً، كلمة حين يقرأها القارئ سوف يتخيل شيئاً معيناً. حين تريد وصف شخص وظيفته الوقوف خارج مبنى مثلاً، فإن الأمر سيختلف تماماً، أعني الشعور الذي يراود القارئ، سيختلف تماماً ما بين كلمة "بواب" وكلمة "حارس".

الخلاصة، لأني الآن تجاوزت 800 كلمة، الخلاصة أن مثل هذه الكتابة الجادة، وأيضاً (مع الاعتذار على استخدام هذه الكلمة!) الهادفة، هي كتابة تحتاج للكثير من الانضباط والكثير من العمل. ولكن، لا يوجد أي انضباط عند الشخص الذي يدخن علبة سجائر كاملة، والشخص الذي يدلق زجاجة خمر كاملة، والشخص الذي ينام يوماً كاملاً، و.. و.. و... لا يوجد غرق منضبط. يوجد فقط استسلام كامل للأعماق.

وهذا ما أفعله. هذا ما أحاول الآن تبريره لنفسي، لكي أجعل المشكلة "الوهمية" تختفي من خاطري، وتبقى كتاباتي طويلة بلا أي مشكلة. أنا أهرب. ولا أهرب باتجاه أحد، لا أريد لأحد أن يفهم أو أن تصله فكرة، أو أي شيء. ربما أتمنى أن يقرأ بضعة أشخاص (يعدون على أصابع يد واحدة!)، ولكن هؤلاء ليسوا "ناساً"، هؤلاء لن يتفرجوا علي وأنا أهرب، هؤلاء يرونني أهرب، فيركضون معي، ونصل في نهاية الطريق إلى جدارٍ ما، وننهار على الأرض، ونبكي معاً.. ثم أراهم أنا يهربون، فأركض معهم، ونصل إلى جدارٍ آخر، أو حافة، أو نتوقف عن الركض ونمشي معاً... هنالك أشخاص يعتبرون استثناءً لكل شيء في الحياة.

967 كلمة.

قلتُ بأنني سألتزم في هذه التدوينة بعدد 1,200 كلمة. هل هنالك فكرة أريد إيصالها؟ من الأفضل لي أن أنتبه! أوه تكاد تنفد مني الكلمات! أوه علي مراجعة كلامي! أوه يجب أن أنضبط! أوه! أوه! فليذهب كل ذلك إلى الجحيم! أنا أهرب هنا، لا أريد الالتزام بكل تلك القواعد التي لها غاية نبيلة وتهدف إلى شيء مثالي يثير الغثيان.

أنا فقط أهرب. وسأهرب بعشرة صفحات، عشرين صفحة، أو مائة صفحة. هذا ليس مهماً. ولا داعي لأن أتساءل وأشكك في نفسي. حين يأتي وقتٌ أريد أن أكتب فيه مقالةً لتنشر في مجلة ثقافية معتمدة ضمن حدود 1,200 كلمة مع مراجعة مدقق لغوي ومحرر لهذا القسم من المجلة، حينها سوف أبذل مجهوداً في أداء "وظيفة". ولكن الآن.. وهنا.. الآن وهنا أنا أهرب. أركض، أو أمشي، أو أغرق، أو أتحدث بهدوء مع أحد الأشخاص المميزين مع كوب من القهوة.

الآن لا أحتاج للالتزام بأي شيء سوى الحرية... لا داعي حتى لقيد 1,200 كلمة.


1,120 كلمة.

5 أبريل 2017


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق