وضعتُ مُخططاً لهذا
اليوم. القليل من القراءة هنا وهناك، بعض الأعمال المنزلية، ربما بعض العمل، أشياء
متفرقة، محاولة لمنح يومي هيكلاً يمكنني الالتزام به والبقاء ضمن حدوده الآمنة لكي
لا أنزلق خارجه وأقع في أحراش الكآبة. خطيرةٌ هي براري
الكآبة يا ابني، ولا أعلم من أنت ولا لماذا قلتُ لك "يا ابني"، ربما
يجدر بي أن أقول لكِ "يا ابنتي"، ولكن هذه كلها حذلقة، وللمزيد من
الحذلقة سأقول ما كل ما يتمنى الفئران والرجال يدركونه، والمخطط السابق انهار
فوراً (تقريباً بعد نصف ساعة فقط!)، وها أنا ذا في براري الكآبة! أشرع في كتابة
قصة!
ولكنني لستُ كاتباً ولا
شيء من هذا القبيل، مجرد قارئ يتطفل بين الحين والآخر على عالم المترجمين (آسف يا سيداتي وسادتي الكرام!)، ومع ذلك أظن أنني أستطيع كتابة قصة بالقراءة والترجمة وحدهما...
كسل؟ ربما. سرقة أدبية؟ احتمالٌ كبير. زيرو إبداع؟ بلا شك. لماذا إذن؟ لأن الكآبة.
والآن يجب رمي كل الأسئلة في كومة وإشعال النار فيها لنجلس حولها ونتدفأ ونسمع،
حسناً أقصد نقرأ، لا لا، أقصد نسمع (خلاص، بدأنا بالخيال، نكمل بالخيال!)، لنسمع
في حلقتنا الدافئة هذه القصة.
تبدأ قصتنا في حدود
القرن السادس الميلادي...
1
هيونينغ
الشيخ هيونينغ هو الأب
السادس (أو: البطريرك السادس)، أو ربما الإمام السادس لمذهب التشين في فرقة
الماهايانا في الديانة البوذية. كلامٌ مُعقَّد. نبدأ من جديد: هيونينغ هو أحد أبرز
رموز الديانة البوذية، يُوصف بأنه "الأب السادس"، وكانت له مساهمة كبيرة
في فلسفات التأمل والوصول للاستنارة البوذية، ولد ومات ما بين سنتي 638-713م. وفي
أحد الأيام (بلا شك بين سنتي ولادته ووفاته، منطق يعني) ألقى درساً من دروسه
العميقة.
الريح
كانت ترفرف عَلَم المعبد فبدأ راهبان مجادلة. يقول الأول العَلَم يتحرك، ويقول الثاني إن الريح تتحرك. تجادلا جيئةً وذهاباً ولكن لم يتوصلا إلى نتيجة. صادف أن
الأب السادس كان يمر بجوارهما، فقال لهما: "ليست الريح ولا العلم، العقل هو الذي يتحرك".
فهل حققتم الاستنارة؟
همممم... أظن أنكم تظنون أنكم حققتم الاستنارة، فدعونا نسمع باقي القصة...
2
مومون
بعد حوالي 500 سنة كان
البحث عن الاستنارة مستمراً، وقد جلس أستاذ الزِن مومون (1183 – 1260م) ليؤلف
كتاباً عن تمارين الاستنارة البوذية (مثل قصة الريح والعلم). أظن أن
"ألغاز" وصفٌ أفضل، فهذه الكوان كما تُسمى هي قصص أو تساؤلات لا
إجابة لها، ولا يجب أن تكون لها إجابة، أعني، حتى عنوان كتاب مومون لغزٌ في حد
ذاته: البوابة التي لا باب لها! خف علينا يا رجل! ولكن، نعود للقصة. هل حقق
مومون الاستنارة؟ هل درس تعاليم الأب السادس؟ إن مومون يُسجل كوان الريح والعلم
كما هي، ثم ينطلق في رحلته بتعليقٍ وقصيدة.
الأب
السادس قال: "الريح لا تتحرك، العلم لا يتحرك. العقل يتحرك". ما الذي
يقصده؟ إذا فهمتم ذلك جيداً، فسترون أن الراهبين كانا يحاولان شراء الحديد
ولكنهما كسبا الذهب. الأب السادس لم يحتمل أن يرى هذين الرأسين البليدين، ولذلك
عقد تلك الصفقة.
الريح،
العلم، العقل يتحركون
نفس
الفهم.
حين
يُفتح الفم
الجميع
مخطئون.
هل حقق مومون
الاستنارة؟ أم زاد الطين بلة وحسب؟ هل أكسبنا الذهب أم ضربنا على رؤوسنا بالحديد؟!
ما معنى تلك القصيدة؟! صدق أمبان طالب الزِن الذي علق على كتابه قائلاً إنه يعطيك
الكوان ثم ينتقدها حتى صار مثل خباز يمسك الناس ويحاول أن يحشر الخبز الساخن في حلوقهم،
فلا يستطيع المرء ابتلاع الخبز ولا بصقه!
ولكن، القصة لا تنتهي
هنا ونحن نحاول أن نبلع أو نبصق تلك الكوان الساخنة، فضيحة إن انتهت بعد فصلين!
القصة تستمر، وبعد حوالي 600 سنة أخرى سيحاول شخصٌ آخر تحقيق الاستنارة...
3
جبران خليل
جبران
أظن أننا جميعاً حول
حلقتنا الدافئة هذه نعرف من هو جبران خليل جبران... لو سمحت، نعم أنت، ليتك تدفع الشخص
الذي يجلس إلى جوارك دفعة بسيطة ليستيقظ، يبدو أن الدفء قد نومه! أهلاً، صح
النوم! هل تعرف من هو جبران خليل جبران؟ حسناً، جيد. نشر جبران خليل جبران في سنة
1920 كتابه "السابق"، نشره باللغة الإنجليزية. ويمكنني، دون أي
تردد، أن أقول إن جبران بلا شك عبر بوابة مومون التي بلا بوابة! أعني قرأ كتابه
"البوابة التي لا باب لها"، آسف على الحذلقة. لماذا أقول ذلك؟ حسناً،
لأنه من الواضح أن جبران "اقتبس" عدة قصص (أو ألغاز
أو كوان) من الكتاب. قصص تسافر عبر اللغات الصينية ثم اليابانية ثم الإنجليزية وتصل
إلينا من جديد عبر العربية بعد أن يسافر جبران اللبناني إلى أمريكا ويقرأ ثم يكتب
بالإنجليزية ثم يترجم وتُترجم أعماله إلى العربية. ولكي لا نُصاب بالدوار أكثر، سأعود لقصتنا
وسأترك جبران يتكلم.
المعرفة
ونصف المعرفة
جلس
أربع ضفادع على قرمة حطب عائمة على حافة نهر كبير. فجاءت موجة هوجاء واختطفت
القرمة إلى وسط النهر، فحملتها المياه وسارت بها ببطءٍ مع مجرى النهر. فرقص
الضفادع فرحاً بهذه السياحة اللطيفة فوق المياه، لأنه لم يسبق لهن أن أبحرن من ذي
قبل.
وبعد
هنيهة صرخت الضفدعة الأولى قائلةً: "يا لها من قرمة عجيبة غريبة! تأملن أيتها
الرفيقات كيف تسير مثل سائر الأحياء. والله إنني لم أسمع قط بمثلها!".
فأجابتنا
الضفدعة الثانية وقالت: "إن هذه القرمة لا تمشي ولا تتحرك أيتها الصديقة، وهي
ليست عجيبة غريبةً كما توهمتِ. ولكن مياه النهر المنحدرة بطبيعتها إلى البحر تحمل
هذه القرمة معها، وتحملنا نحن أيضاً بانحدارها".
فقالت
الضفدعة الثالثة: "لا لعمري فقد أخطأتما أيتها الرفيقتان في خيالكما الغريب،
فإن القرمة لا تتحرك والنهر أيضاً لا يتحرك مثلها، وإنما الحقيقة أن فكرنا هو
المتحرك فينا وهو الذي يقودنا إلى الاعتقاد بحركة الأجسام الجامدة".
فتناظر
الضفادع الثلاث في ما هو المتحرك بالحقيقة. وحمي وطيس الجدال وعلا الصراخ بينهن
ولم يقررن على رأيٍّ واحد.
ثم
التفتن إلى الضفدعة الرابعة، التي كانت إلى تلك الساعة هادئةً صامتةً تصغي إليهن
بانتباهٍ شديد، وسألنها رأيها في الموضوع.
فقالت
لهن: "كلكن مُحقَّاتٌ أيتها الرفيقات، ولا واحدة منكن على ضلال! فإن الحركة
كائنة في القرمة وفي النهر وفي فكرنا في وقتٍ واحد".
فلم
يرق لهن ذلك الكلام، لأن كل واحدة منهن كانت تعتقد أنها وحدها المصيبة وأن
رفيقاتها لفي ضلال مبين.
وما
أغرب ما حدث بعد ذلك: فإن الضفادع الثلاث تسالمن بعد العداء، وتجمعن فرمينَ
بالضفدعة الرابعة من على القرمة إلى النهر.
يبدو لي يا رفاق حلقتنا
الدافئة أن جبران قد خبز نوعاً جديداً من الخبز! ربما ليس خبزاً بالتحديد ولكن
ربما كعك حلو من نوعٍ ما... ولكن، هل تحققت الاستنارة؟ أم غرقت مع الضفدعة
الرابعة؟! هل تغرق الضفادع؟ لا أظن ذلك... برمئيات... حسناً، الاستنارة ربما لم
تغرق، ولكن أخذت لها غطسة مُنعشة، وفي الحقيقة يمكننا أن نتأكد تماماً أنها لم
تغرق، فسوف تظهر للسطح بعد حوالي 90 سنة...
4
كو أون
بعد 90 سنة من جبران،
و750 من مومون، و1,290 من هيونينغ، في سنة 2011 بالتحديد صدر ديوان "أين
اختفت تخومي؟" لأشهر شعراء كوريا المعاصرين كو أون (مواليد 1933).
أعلم أن بعض المصابين بالنعاس في حلقتنا قد يرغبون في تعريفٍ بكو أون، ولكن أظن
أنه يكفي أن نقول إنه أشهر شعراء كوريا المعاصرين، وربما يمكن أن نضيف أنه كان
راهباً في بداية حياته، وقد تجدر الإشارة أيضاً أنه ترك الرهبنة وتزوج وصار ناشطاً
سياسياً مدافعاً عن الحقوق والحريات وسُجن وعُذب كثيراً، وأنه اليوم أشهر شعراء
كوريا المعاصرين، وقد تجدر أيضاً إضافة أنه يخوض قضايا تحرّش تنتقص قليلًا من مواقفه الأخلاقيّة. أظن أن هذا تعريفٌ كافٍ وافٍ يذكر للرجل ما له وما عليه، إلا إن كان أحدكم يرغب في أن أقول
"أشهر شعراء كوريا المعاصرين" مرةً أخرى. لا؟ لا داعي؟ حسناً. نعود
لقصتنا.
في ديوانه المذكور
سابقاً، وجد كو أون نفسه على نفس الطريق التي عبر منها هيونينغ ومومون وجبران...
بعد
سنوات
رجلان، لم يستسلما لأيام.
الريح هي التي تتحرك؛
بل العلم
يتحرك.
كلاهما،
كلاهما لم يستسلما.
وبعد
بضعة أيام ظهر رجل آخر،
وبضربة
واحدة هزم الرجلين.
القلب هو الذي يتحرك.
بعد
ألفٍ وخمسمائة سنةٍ لاحقةٍ ظهر رجلٌ يشعر بالضجر ولم يستسلم.
الريح،
العلم،
والقلب
كلهم يتحركون.
اللعنة
على ذلك، يا أصحاب الجماجم الحمقاء، هراءٌ محض! دعونا نسكر.
فهل تحققت الاستنارة
أخيراً؟ هل كانت الاستنارة موجودةً في قاع زجاجة خمر؟ هل كان الدواء في داء السُكر
بعيداً عن اللوم والإغراء؟ أم هل فعل كو أون مثلما فعل مومون وتركنا معلقين؟ أم هل
كان كو أون أحد الضفادع الثلاث يحرس البوابة التي بلا باب من أي ضفدعة تريد
الحديث؟ أم لعله كان الضفدعة الرابعة نفسها ولكن هذه المرة هي التي تختار القفز
إلى قاع زجاجة نبيذ أو ويسكي أو خمر كوري؟
أسئلة كثيرة، ولذلك
دعونا الآن نُطفئ النار التي أشعلناها بالأسئلة في بداية هذه القصة...
نعم، والآن وقد انطفأت
النار وخيم الظلام دعوني أقول لكم: هذه ليست قصةً عن الاستنارة.
* * * * *
ملاحظات:
-
قصة
كوان هينينغ وتعليق وقصيدة مومون ترجمتي العربية نقلاً عن الترجمة الإنجليزية:
The
Gateless Gate. Mumon. Translated by Nyogen Senzaki and Paul Reps.
-
قصة
"المعرفة ونصف المعرفة" لجبران خليل جبران منقولة من الترجمة العربية:
السابق.
جبران خليل جبران. ترجمة أنطونيوس بشير.
-
قصيدة
"بعد سنوات" لكو أون ترجمتي العربية نقلاً عن الترجمة الإنجليزية:
Where
Has My Frontier Gone? Ko Un. Translated by Brother Anthony of Taize and Lee
Sang-Wha.
-
اللوحة
هي رسمة "بوابة توري في الشتاء" للفنان الياباني إيتو نيسابورو (1910 –
1980).
11 نوفمبر 2018
إبراهيم الشريف.
(مع تعديلات وتصحيحات بتاريخ 11 نوفمبر 2022)
لا احب ان اتدخل في سير ابداع ما لكي لا افسده ولكنني معجب جدا باسلوبك ولكن لا تفرح كثيرا فانني معجب ايضا بالكثير من الحمقى والمجانين
ردحذف