الأحد، 15 يوليو 2018

تولستوي وصوفيا: بين الحقائق والأوهام


مقدمة

في الأيام الماضية أثير نقاش حول علاقة ليو تولستوي بزوجته صوفيا آندرييفنا... للمرة الألف بعد المليون يُثار نفس النقاش. زواجهما كان بلا شك معقداً ومن أشهر الزيجات التعيسة في تاريخ الأدباء والمفكرين. وبالرغم من أن هذا النقاش يُثار طوال الوقت لدرجة أنني أكاد أكتسب مناعة ضد الصرع الذي يصيبني به الموضوع بسبب خلط الناس بين الموضوعية وبين التحيز (لا توجد موضوعية في الاستناد إلى كلام صوفيا وحدها ونقد وشتم تولستوي دون الاطلاع على كل الوقائع! إنه ذلك الخطأ الشهير الذي يفترض بأن النقد يعني الذم وبأن الموضوعية تعني أن تشتم العظماء!)، بالرغم من ذلك فإنني هذه المرة أريد التعليق ببعض التفصيل على الأمر والرد على بعض ما قيل ويُقال عن الأمر. السبب الأول أنني دائماً أدافع عن تولستوي حين يقتضي الأمر الدفاع عنه، والسبب الثاني أن النقاش الذي أُثير في الأيام الماضية ارتبط أيضاً بالحديث عن ترجمة عربية لسيرة ذاتية كتبتها صوفيا سوف تُنشر عما قريب.

أريد أن أتوقف هنا لحظة، وأتساءل: هل من العدل أن تُنشر مذكرات صوفيا المليئة بعواطفها المتحيزة وكلامها الدفاعي ونقدها لزوجها دون أن تُنشر أيضاً مذكرات تولستوي التي تسجل معاناته؟ بل هل من الأولوية أن تتُرجم وتنشر المذكرات والمراسلات قبل أن تُترجم وتُنشر كتب سيرة جادة وموسعة عن تولستوي؟ ناهيك عن أن أعمال تولستوي الفكرية مازالت المكتبة العربية تفتقر لها. هنالك اختلالٌ حاد في أولويات دور النشر، ولا غرابة في ذلك، مذكرات تولستوي المتحفظة والمليئة بالتأملات والأفكار الأدبية والفلسفية والدينية لن تجذب القراء (والمُشترين!) بنفس الدرجة التي ستجذبهم بها مذكرات صوفيا التي (يا لهوي!) سوف تفضح هذا الرجل العظيم!

ولهذا قررتُ أن أحاول الكتابة عن الموضوع ببعض التفصيل، للرد على بعض الأخطاء والأوهام المتداولة وأيضاً لنشر نص أو بحث أو مقالة، بمراجع موثقة، تحاول عرض القصة كاملة، أو على الأقل تحاول بيان موقف تولستوي والدفاع عنه. العالم يُجن بسبب مقالة هنا أو فقرة في كتاب هناك، وينطلق البعض متحمسين لفضح تولستوي وكشف حقيقته الصادمة! فماذا سيحدث حين تُنشر مذكرات صوفيا؟! أظن أن كثيرين سيستمرون في فعل نفس الشيء: سيظنون أن الموضوعية والإنصاف تعني تصديق كل كلام صوفيا ووجهات نظرها وإدانة تولستوي وشتمه دون أن يتعبوا أنفسهم بالاطلاع على وجهة نظره. ولذلك، لعل هذا الكلام يُسقط الضوء على بعض التفاصيل التي يتجاهلها كثيرون.

ولأن الموضوع كبير وطويل ومعقد، ولأنني بصراحة أحب تولستوي جداً ومستعد لتأليف كتاب كامل عنه! وأيضاً لأن المراجع كثيرة وكبيرة ويمكن تحليلها بالتفصيل الممل (وهو ما لا يفعله جماعة: فضيحة تولستوي الصادمة!)، فإنني سأحاول الرد على بعض النقاط التي أُثيرت الأيام الماضية وبعض المراجع التي تم الاستناد إليها، وسأحاول قدر الإمكان توفير مراجع لما أقوله وذكر مصادر معلوماتي عن تولستوي – بعض المعلومات مشهورة ومنتشرة ولكن يكون هناك داعٍ لذكر مراجع لها، يعني لازم أحترم كسلي قليلاً!

وفي هذا السياق أود أن أذكر ملحوظتين: غالبية مراجعي (إن لم تكن كلها) باللغة الإنجليزية، والاقتباسات التي سترد في ما سأكتبه هي من ترجمتي الشخصية (حقوق النشر محفوظة!)، كما أنني سوف أستخدم أسلوب الإشارة للمراجع ضمن النص نفسه عوضاً عن إدراجها في الهوامش، وسوف أكتب الإشارة بصيغة مختصرة (عنوان مختصر، الصفحة)، فمثلاً كتاب Autobiography of Countess Tolstoy سأسميه اختصاراً "سيرة صوفيا"، فتكون الإشارة له (سيرة صوفيا، ص150)، وفي نهاية الكتابة سوف أضع قائمة بالمراجع وتفاصيلها.


الزوجة، الأم، الصديقة، الرفيقة... دائماً؟

صوفيا كانت امرأةً مدهشة. لقد كانت صديقة تولستوي المقربة، قارئته الأولى وناقدته الأولى، مساعدته في نسخ مسوداته وتنقحيها لتجهيزها للطبع (وهذه مهمة كبيرة على فكرة، تولستوي مشهور بأن خطه كان سيئاً جداً لدرجة أنه هو نفسه لا يستطيع قراءته أحياناً! ومشهور بأنه كان يدخل تعديلات ويكتب مراجعات على الهوامش وفي النص لدرجة أن المسودات تصبح في بعض الأحيان سوداء بالفعل من كثرة الكتابة عليها!)، الأم التي أنجبت وربت، سيدة المنزل التي اهتمت بكل شؤون البيت والأرض والأملاك بنشاط وقوة ودقة كبيرة لدرجة أنها كانت توصف بأنها "مهووسة بالنظام" وكانوا يقولون أنها لو تغيب يوماً أو يومين عن ياسنايا بوليانا فإن كل شيء ينهار! (راجع كتاب صديق العائلة سيرجيينكو، ص80). إن كل هذا الكلام لا خلاف عليه، ولا يمكن لأحد أن ينكره، وهو يساعدنا أيضاً على فهم مدى حب وعرفان تولستوي لزوجته صوفيا الذي عبر عنه في مراسلاته حتى أثناء صراعاتهما الشديدة في نهاية حياته.

طلاسم تولستوي! من المسودة التاسعة (نعم، التاسعة) لرواية الحرب والسلام

ولكن... هل بقت صوفيا دائماً الرفيقة والصديقة والمساندة؟

كثيرون يستشهدون بسيرة صوفيا هذه للدفاع عنها وعن مكانتها ولنفي وجود مشاكل بينها وبين زوجها، ومن أمثلة ذلك مثلاً مقالة منسوبة لماكسيم غوركي (وإن كنتُ أشك في صحة نسبتها له، وسأتطرق للموضوع لاحقاً)، التي تُشير لنفس هذه الأمور وتصف صوفيا بأنها الصديقة والرفيقة وتدافع عنها كثيراً ضد كلام من يدعون أن علاقتها بتولستوي كانت سيئة وأن تولستوي هرب منها.

 لم أجد مصدر هذه الصفحة للأسف

حسناً... لدي ثلاث ملحوظات على هذه المقالة.

1 – تولستوي وصوفيا تزوجا سنة 1862، تولستوي تُوفي سنة 1910، أي أن زواجهما دام 48 سنة. تمام؟ تمام. والآن نعود لتساؤل: هل بقيت صوفيا دائماً المساندة والرفيقة والصديقة؟ والإجابة: لا. دور صوفيا المقرب من تولستوي امتد على حوالي 20 سنة، أي في النصف الأول من زواجهما فقط؛ فبعد يقظة تولستوي الروحانية وتغير أفكاره عن الحياة بدأ تولستوي وصوفيا يبتعدان عن بعضهما البعض فكرياً وروحياً، فلم تعد صوفيا الصديقة المخلصة ورفيقة الدرب الطويل. يقول تولستوي في رسالة لصوفيا بتاريخ 8 يوليو 1897:

"منذ زمنٍ طويل والتناقض بين حياتي وبين معتقداتي يعذبني. أن أحملك على تغيير طريقة حياتك، وعاداتك، التي علمتها لك أنا نفسي، كان مستحيلاً، وأن أهجرك كان أيضاً مستحيلاً حتى الآن؛ فقد كنت أظن أنني سأحرم الأطفال، حين كانوا صغاراً، من التأثير، مهما كان قليلاً، الذي قد يكون لي عليهم، وأنني سوف أسبب لك الألم. ولكن الاستمرار في العيش كما كنت أفعل طيلة هذه الست عشرة سنة، تارةً أتصارع معك وأضايقك، وتارةً أرضخ لتلك المؤثرات والإغراءات التي كنتُ مُعتاداً عليها والتي كانت تحيط بي، قد صار أيضاً مستحيلاً بالنسبة لي الآن، ولقد حسمت رأيي الآن لفعل ما كنت أتمنى فعله لزمنٍ طويل، أن أرحل، أولاً لأن مع تقدمي في السنوات فإن هذه الحياة تصبح مرهقةً أكثر فأكثر بالنسبة لي وأتشوق أكثر وأكثر للعزلة، وثانياً لأن الأطفال الآن كبروا، تأثيري لم يعد ضرورياً وكلكم لديكم اهتمامات أكثر مرحاً، التي من شأنها أن تُقلل إحساسكم بغيابي." (رسائل تولستوي، م2، ص561)
تولستوي لم يُسلم الرسالة لصوفيا أثناء حياته، فقد أوصى أن تُعطى لصوفيا بعد وفاته ما لم تصدر عنه تعليمات أخرى، ابنهما إيليا يذكر أن تولستوي كتب على غلاف الرسالة تعليماته بخصوص تسليم الرسالة لصوفيا بعد وفاته (ذكريات إيليا، ص342)، وصوفيا ذكرت في سيرتها أنها استلمت الرسالة بعد وفاة تولستوي (سيرة صوفيا، ص76).

الكونت تولستوي، إيليا ليفوفيتش تولستوي، ابن تولستوي، أرجو حفظ ذلك وعدم خلط صورهم!

من المعلوم أن تولستوي لم يغادر بعد كتابته للرسالة؛ فهو غادر ياسنايا بوليانا سنة 1910، أي بعد 13 سنة من كتابة الرسالة. وبالعودة إلى موضوع دور صوفيا ومكانتها، فيمكننا أن ندرك بوضوح أن المشاكل "الروحانية" بين صوفيا وتولستوي بدأت على الأقل منذ سنة 1882 (1897-15=1882، حساب!)، وهو ما يؤكده كلام ابنهما إيليا في مذكراته حيث يذكر أن بين سنتي 1882 و1883 كانت الفترة التي بدأت شخصية تولستوي تتغير فيها، فكان قد بدأ يلتزم بالشعائر الدينية التي كان يهملها سابقاً، واهتم كثيراً بالدراسات الدينية والإنجيلية (ذكريات إيليا، ص258-259)، كما أن هذه الفترة هي الفترة التي نشر فيها تولستوي كتابه الشهير "اعترافي" الذي عبر عن معاناته الروحانية والفكرية وما نتج عنها من يقظة ومعتقدات جديدة.

فلا يمكننا أن نقول بأن صوفيا بقيت دائماً صديقته المخلصة ورفيقة دربه الوحيدة! فإذا كانت المشاكل بينهما قد بدأت منذ سنة 1882، فهذا يعني أن صوفيا كانت صديقة تولستوي ورفيقة دربه لمدة 20 سنة منذ زواجهما سنة 1862، ثم صارت عدوته لمدة 28 سنة منذ يقظته الروحانية سنة 1882 إلى رحيله ووفاته سنة 1910!

2- المقالة المنسوبة لغوركي تقول عن صوفيا بأنها "رأت بعمق وبشكل متميز عن أي إنسان آخر، وأحست، كم كان الكاتب متضايقاً، ومحبوس الأنفاس من العيش في جو الصدام المبتذل مع الناس الفارغين". لا أستطيع منع نفسي من التساؤل كيف كانت صوفيا ترى بعمق وتحس بضيق تولستوي وهي كانت تعيش في مشاكل وسوء تفاهم معه لمدة 28 سنة؟! إن صوفيا نفسها تعترف بأنها لم تتقبل تعاليم تولستوي بعد تغيره: "الاختلاف بين زوجي وبيني جاء، ليس لأني أنا ابتعدتُ عنه في قلبي. أنا وحياتي بقينا كما كنا سابقاً. هو الذي ابتعد، ليس في حياته اليومية، ولكن في كتاباته وفي تعاليمه حول الكيفية التي يجب أن يعيش وفقها الناس. لقد شعرتُ بأنني غير قادرة على اتباع تعاليمه." صوفيا تقول بعد هذا المقطع أن حياتها مع تولستوي استمرت بشكل جيد وبكل حب (سيرة صوفيا، ص63-65). ولكن الواقع يشهد بعكس ذلك! فتعاليم تولستوي التي تقر صوفيا بعدم قدرتها على تقبلها لم تكن مجرد كلام على ورق، بل كانت تعاليم تقتضي التطبيق والتنفيذ! ولكن قد يكون سبب هذا "التحفظ" في سيرة صوفيا هذه هو أنها كتبتها بعد وفاة تولستوي، وكانت مختصرة ومتحفظة جداً، على عكس مثلاً الأجزاء من مذكراتها (التي أستشهد بها هي الأخرى) التي كانت تكتب فيها بصراحة أكثر وعاطفية أكثر، فتتحدث عن برود العلاقة بينها وبين تولستوي، وتسخر بشكل عنيف من أفكاره ومعتقداته.

ولنسمع (أو بالأحرى نقرأ!) ما تقوله ابنتهما ألكسندرا (ربما أقرب أفراد عائلة تولستوي له في نهاية حياته)، حيث تحدثت عن موقف تولستوي من الحياة المادية وزهده فيها، في مقابلة معها في فيلم وثائقي عن تولستوي من سنة 1970 من الأرشيف الوطني الأمريكي، وقالت: "أمي كان لديها موقف مختلف. وهذا شيء كان يجعلهما يتشاجران كثيراً، والحياة في ياسنايا بوليانا أصبحت لا تطاق بالنسبة لأبي. كان يريد حياةً بسيطةً جداً مثل فلاح، كنتُ قد بدأتُ أفهم ذلك مبكراً جداً. وفهمت أن أمي لم يكن بمقدورها فعلاً أن تتبعه. كانت امرأةً جيدة، امرأةً نزيهةً جداً، مخلصةً جداً له، أحبت أطفالها، ولكنها كانت امرأة مثل كل النساء تريد شيئاً لأطفالها. لم تفهم تعاليم أبي، إنها فقط لم تستطع أن تتقبلها، وهذا كان السبب في، سأقول سوء التفاهم بين أهلي، ومع تقدمهما في السن، أبي تعمق أكثر وأكثر في أفكاره، في شوقه لتلك الحياة البسيطة التي لطالما أحبها، وهي لم تكن تستطيع تفهم ذلك." (مقابلة ألكسندرا)

وتولستوي أيضاً كان يدرك عدم قدرة صوفيا على تفهم معتقداته الجديدة، وقد عذرها في ذلك بشكل عجيب! فقال في الرسالة المذكورة سابقاً من سنة 1897:

"تركي لك لا يعني أنني غير راضٍ عليك. أعلم أنك لم تقدري، حرفياً لم تقدري، ولا تستطيعين، أن تري وتشعري مثلما أرى وأشعر، ولذلك لم تقدري ولم تستطيعي أن تغيري حياتك وتقدمي تضحيات في سبيل ما لا تؤمنين به. ولذلك أنا لا أُدينك، بل على العكس أتذكر، بمحبةٍ وعرفان، الخمس وثلاثين سنة الطويلة من حياتنا معاً، خاصةً النصف الأول منها، حين تحملتِ، بذلك الإيثار الأمومي الذي يميزك، وبكل إخلاص وصبر، ما كنتِ ترين أنه العبء الذي كُلفتِ به. لقد منحتني أنا والعالم كل ما كنتِ تستطيعين منحه. لقد منحتِ الكثير من الحب الأمومي والتضحيات الشخصية، ولا أستطيع إلا أن أُقدرك على ذلك. ولكن في المرحلة الأخيرة من حياتنا، خلال الخمس عشرة سنة الأخيرة، ابتعدنا عن بعضنا البعض. لا أظن أنني أنا المُلام على ذلك، لأنني أعلم أنني تغيرت، ليس لأجل نفسي أو لأجل آراء الناس الآخرين، ولكن لأنني لم يكن بمقدوري فعل شيء غير ذلك. كما لا أستطيع أن ألومك لأنك لم تتبعيني، ولكني أشكرك وأتذكر بحب ودائماً سأتذكر كل ما منحتِني إياه. وداعاً عزيزتي صونيا." (رسائل تولستوي، م2، ص561-562)
وكرر نفس لها نفس العذر بعد 13 سنة في رسالة كتبها لها بتاريخ 14 يوليو 1910 لمحاولة مناقشة مشاكلهم وحلها (من المحاولات الأخيرة قبل رحيله لحل مشاكلهم)، فبعد أن يقول لها: "لم أتوقف أبداً عن حبك ومازلتُ أحبك رغم الأسباب العديدة للبرود بيننا"، يذكر ليو عدة أسباب لهذا البرود ومن بينها:

"السبب الأساسي هو ذاك الجذري الذي لا تُلامين عليه أنتِ ولا أُلام عليه أنا، وهو بالتحديد فهمنا المتناقض تماماً لمعنى وغاية الحياة. كل شيء يتعلق بفهمنا للحياة متناقضٌ كلياً: أسلوب حياتنا، مشاعرنا تجاه الناس وتجاه معاشنا – أي الأملاك التي أراها خطيئة بينما ترينها ضرورةً حياتية. في حياتنا، ولكي لا أتركك، أذعنتُ لظروف حياتية كانت مؤلمةً بالنسبة لي، ولكنكِ اعتبرتِ ذلك تنازلاً مني وإقراراً بوجهة نظرك، فتعاظم سوء الفهم بيننا أكثر وأكثر." (رسائل تولستوي، م2، ص701)
فهل يمكن أن نقول بأن صوفيا كانت بالفعل تفهم تولستوي فهماً عميقاً وترى دواخله؟ إنه من الواضح تماماً أن صوفيا رفضت كلياً قبول مبادئ ومعتقدات تولستوي بعد يقظته الروحانية، ومن الواضح أن تولستوي هو الذي قدم تنازلات كبيرة رغم ما سببه له ذلك من معاناة داخلية شديدة، لقد بقي الرجل لمدة 13 سنة على الأقل يعيش في ظروف تعذبه لأنه لم يكن يريد أن يترك زوجته! ثم يتهمه البعض بأنه زوج سيئ وظالم! إن صوفيا هي التي تبدو لي ظالمة! خاصةً حين يدرك المرء أن النساء الأخريات في حياة تولستوي تقبلن تعاليمه وتفهمن مواقفه بشكل عجيب، وأقصد هنا بنات تولستوي: ماريا، وتاتيانا، وألكسندرا. لقد كانت بناته أقرب أفراد عائلته له، لدرجة أنه في كل وصاياه (لقد كتب أكثر من وصية على مدى السنين) كان دائماً يذكر بناته ضمن من يعهد إليهم بكتبه ومستنداته، فقد ذكر ماريا وتاتيانا في وصيته الأولى سنة 1895، وكان قد عهد بأعماله الفكرية والأدبية لصوفيا ولتشيركوف وماريا وتاتيانا واستبعد من ذلك أولاده الذكور الكبار (والأطفال الصغار بصفة عامة) وفسر لهم موقفه بالقول بأنهم ليست لديهم الدراية اللازمة والفهم الكافي بأعماله وكتاباته لكي يستطيعوا التعامل معها (سيرة صوفيا، ص149-150)، أما وصيته الأخيرة في سنة 1910 فقد عهد فيها بكتبه وأعماله إلى ابنته ألكسندرا وفي حالة وفاتها قبله عهد بها إلى ابنته تاتيانا (سيرة صوفيا، ص154). ومازال هذا اللغز يحيرني إلى اليوم: كيف أصبحت بنات تولستوي تابعات مخلصات لأفكاره ومبادئه، بينما رفضتهن صوفيا رفضاً قاطعاً؟! لعله تأثير الأب على البنات، ولعله أيضاً واقع أن البنات كبرن وتربين على أفكار تولستوي، بينما صوفيا كانت قد عاشت لفترة بأسلوب حياة معين ولم تستطع تغييره... لقد تذركتُ الآن أن حتى دور صوفيا الكبير في قراءة ونقد ونسخ أعمال تولستوي الأدبية في النصف الأول لزواجهما لم يمر علي ذكر لدور مشابه له في ما يتعلق بأعمال تولستوي الفكرية التي شبه تفرغ لها في النصف الثاني من زواجهما، وغالبية الإشارات التي مرت علي، من حيث النسخ والتحرير وما نحو ذلك في ما يخص الأعمال الفكرية، هي إشارات لبناته وأصدقائه وتلاميذه.

على كل حال لقد أطلت التعليق هنا! لا أستطيع المقاومة عند الحديث عن تولستوي! ننتقل إلى الملحوظة التالية.

3- بعد نهاية اقتباسات المقالة المنسوبة لغوركي، يذكر مؤلف النص أن "تولستوي لم يقطع علاقته مع زوجته وأطفاله بعد أن هجر ياسنايا بوليانا. بل قطع علاقته مع نمط حياة "السادة" الذي أثقل حياته منذ زمن طويل. وقطع علاقته مع الدائرة المعتادة، أولئك الذين سموا أنفسهم بكبرياء وفخر "أتباعه التولستيين"". هذا الكلام ليس منسوباً لغوركي، ولكن أريد التعليق عليه.

أولاً، الكلام يبدو وكأنه يشير إلى أن تولستوي عاش فترة طويلة بعد مغادرته لياسنايا بوليانا قطع فيها علاقاته مع السادة ومع أتباعه، قد لا يكون المؤلف يقصد ذلك لكن للتوضيح فقط نقول بأن تولستوي غادر في أواخر أكتوبر 1910 وتوفي بعد في أواخر نوفمبر 1910، شهر واحد فقط! ثانياً، تولستوي لم يقطع علاقته مع أطفاله، هذا صحيح، بل إن ألكسندرا انضمت له بعد بضعة أيام من رحيله وكان يراسل أولاده، ولكنه قطع علاقته قطعاً حاسماً بزوجته، وكان يمنع الجميع من أن يخبروها بمكانه، فقد طلب منها في رسالة وداعه لها بتاريخ 28 أكتوبر 1910 بأن لا تلحق به حتى إن عرفت مكانه، وأنها إذا أرادت أي شيء فعليها أن تخبر ابنتهما ألكسندرا فهي تعرف مكانه ولكن، كما يذكر تولستوي في رسالته، فقد جعل ابنته ألكسندرا تعده ألا تخبر أمها بمكانه! (رسائل تولستوي، م2، ص711). وبعد ذلك في رسالة لاحقة بتاريخ 30 أكتوبر (بعد أن بلغه أنها تريده أن يعود) أكد لها من جديد كلامه السابق: "لن أقول لك إلى أين أنا ذاهب لأنني أعتبر أن الانفصال ضروري بالنسبة لي ولك". (رسائل تولستوي، م2، ص714).  وفي رسالة إلى ابنه سيرجي وابنته تاتيانا بتاريخ 31 أكتوبر، وكانا قد راسلاه بعد أن أرسل لهما يوضح لهما موقفه وسبب رحيله وقد أظهرا تعاطفاً كبيراً معه، في رسالته لهما يقول: "أنا على عجلة من أمري ويجب أن أغادر  لكي لا تجدني ماما [يقصد صوفيا]، أنا أخشى أن تجدني. اللقاء بيننا الآن سيكون فظيعاً." (رسائل تولستوي، م2، ص714) – تولستوي كان يقصد أنه يجب أن يغادر منطقة شاموردينو حيث توقف قليلاً هناك للسلام على أخته الراهبة ماريا. فهل هذا كلام شخص لم يقطع علاقته مع زوجته؟! أما أتباعه التولستويين، فإذا لم نحسب ألكسندرا التي كانت من أبرز أتباع أبيها، فقد استمر تواصل تولستوي مع تلميذه المريب تشيرتكوف، الذي كان يُوصف بأنه تولستويي أكثر من تولستوي نفسه! لا أحب تشيرتكوف هذا، ويجدر بي أن أذكر أنه سبب رئيس في الكثير من المشاكل بين تولستوي وصوفيا؛ فقد كان بينه وبين صوفيا صراع شديد على قلب تولستوي وعلى حقوق أعماله الأدبية والفكرية، بالإضافة إلى صراعهما المرير حول مبادئ تولستوي، فصوفيا تفرض على تولستوي من ناحية أن لا يتخلى عن أملاكه وحقوق النشر وحياته المادية، وتشيرتكوف من الناحية الأخرى يعاتب تولستوي على عدم تخليه عن الحياة المادية وعدم التزامه بمعتقداته الدينية الزاهدة! أظن أن الكثير كان سيكون مختلفاً لو لم يدخل تشيرتكوف حياة آل تولستوي...

تولستوي وغوركي في ياسنايا بوليانا

على كل حال هذه ملحوظاتي على المقالة المنسوبة لغوركي وما يليها من تعليقات. وبسبب ما ورد فيها من كلام غير دقيق حول علاقة تولستوي وصوفيا أشعر بأن المقالة منسوبة خطأً لغوركي. غوركي (وهو ثاني كاتب روسي مفضل عندي بعد تولستوي!) كان يعرف تولستوي جيداً، وزاره كثيراً في إحدى الفترات، وكان يحبه حباً عميقاً ويكاد يُقدسه! وربما هذا من أسباب حبي لغوركي أيضاً! ويكفي لتأكيد ذلك الاطلاع على ذكرياته عن تولستوي ورسالته التي كتبها عنها بعد وفاته (ذكرياته عن تولستوي منشورة ضمن ترجمة عربية لبعض ذكريات غوركي عن الأدباء بعنوان "صور أدبية"). ولذلك أرى أنه من المستبعد أن يتحدث غوركي عن صوفيا حديثاً غير صحيح. وقد عُدت لذكريات غوركي عن تولستوي ولم أجد فيها إلا إشارة أو إشارتين لصوفيا ليست لهما أهمية كبيرة، الأولى عن أن تولستوي يكتم الكثير من الأمور حتى عن زوجته (ذكريات غوركي، ص30) والثانية أن تولستوي كان أحياناً يسأل أسئلة محرجة مثل "ما رأيك بزوجتي؟" (ذكريات غوركي، ص37). أما شذرات مذكراته فلم يكن فيها أي إشارة لصوفيا، لا يوجد فيها الكثير عن تولستوي أصلاً، أربع صفحات فقط (شذرات مذكرات غوركي، ص137-140) فهي بالفعل شذرات قصيرة جداً. وقد بحثت على غوغل عن المقالة المذكورة بالإنجليزية فلم أجد لها أثراً. لا أعلم، ولكني أشعر أنها منسوبة خطأً لغوركي، وأشعر أن غوركي الذي عرف تولستوي معرفةً عميقة لن يكتب مثل هذا الكلام. على كل حال، ننتقل للموضوع التالي.


خيانة تولستوي وأوهام أنيس منصور

من الأشياء العجيبة التي مرت علي في الأيام الماضية اتهام تولستوي بأنه خان زوجته صوفيا! نعم، لقد قرأت الكثير عن تاريخ تولستوي الماجن في شبابه، مغامراته الجنسية، وسكره، وقماره، وعنفه، وأشياء كثيرة تُثقل ضميره، وكل ذلك وفق كلام تولستوي نفسه في مذكراته ومراسلاته وباعترافه بأنه عاش مرحلة دنيئة جداً في شبابه. ولكن لم يمر علي في أي يوم من الأيام أي كلام عن خيانة تولستوي لزوجته! ولم يمر علي في أي من المصادر التي قرأتها واطلعت عليها. ولذلك تفاجأت بهذا الاتهام الغريب، والذي أورده أنيس منصور في كتابه "من أول نظرة".

 من كتاب من أول نظرة، ص377-378

بصراحة لا أعرف ماذا أقول عن كلام أنيس منصور. فلا مذكرات تولستوي ولا رسائله ولا سيرة صوفيا ولا مذكراتها المنشورة قديماً ولا مذكرات أولادهم وأقاربهم ومعارفهم ولا أي كتاب من كتب السيرة التي قرأتها عنهم فيها ذكر أن تولستوي كان "يخون زوجته مع كل فلاحة تقترب منه"! وقد قرأتُ الكثير من النقد الحاد لتولستوي وحتى النقد المتحامل عليه، ولكن لم أمر يوماً على هذا الادعاء العجيب! حتى عند من يشتمون تولستوي ويستغلون اعترافاته بماضية الماجن ضده! فمن أين جاء أنيس منصور بهذا الكلام؟! ناهيك عن أن كلام أنيس منصور مليء بالأخطاء!

تولستوي لم يخن زوجته مطلقاً، ولم يمر علي أي مرجع يذكر هذا الكلام!

تولستوي لم يوزع أرضه على الفلاحين ولم يترك صوفيا فقيرة. لقد كان يفكر في ذلك بالفعل وكان يتمنى التخلص من كل أملاكه المادية، لكن صوفيا جننته باعتراضاتها طبعاً! وفي النهاية قرر تولستوي أن يمنح كل أملاكه لصوفيا! صوفيا رفضت (ولا أعلم لماذا) ولكن تولستوي لم يقبل ذلك فمنحها وكالة التصرف في أملاكه وإدراتها، وبعد ذلك اتفقوا على تقسيم الأملاك بين صوفيا والأولاد (توزيع مبكر للميراث، وهو بلا شك رضوخ من تولستوي لمطالب صوفيا التي كانت تلح عليه دوماً بأنه يجب أن يترك شيئاً لأطفاله)، وبالفعل في سنة 1891 (19 سنة قبل وفاته) قام تولستوي بتوزيع كل أملاكه على أبنائه وبناته وعلى صوفيا (التي آلت إليها ملكية ياسنايا بوليانا، في البداية مناصفةً مع ابنهم إيفان، ثم كلها حين توفي إيفان وهو صغير)، الوحيدة التي لم تأخذ نصيبها من "الميراث" كانت ماريا، الابنة المفضلة لتولستوي والأقرب له فكراً وروحاً رفضت الأملاك المادية مثل أبيها، وقد توفيت قبله سنة 1906 وتعذب لفقدانها كثيراً. (راجع بخصوص الأملاك والتوكيل وتقسيم الميراث سيرة صوفيا، ص77-78، وأشير هنا لسيرة صوفيا بالتحديد لكي لا يقول أحد أن ابنة تولستوي تكذب أو أن هذا المؤرخ أو ذاك متحيز له!). 

تولستوي وابنته العزيزة ماريا، أشبه عائلته به روحاً وفكراً، أحببتُ وضع صورتها...

لم يمر علي أن صوفيا ذهبت إلى القيصر تشتكي من زوجها! ومما ستشتكي وقد نقل إليهم تولستوي كل أملاكه! لقد ذهبت صوفيا إلى القيصر بالفعل، ولكن لسبب مختلف تماماً، وسوف أذكره لاحقاً (تشويق!).

تولستوي استلهم بعض الأحداث والشخصيات في رواية "الحرب والسلام" من حياته وحياة صوفيا، والرواية بلا شك تحتوي على بعض مبادئه وأفكاره وفلسفاته التي كانت حينها في مرحلة التبلور، ولكن الحرب والسلام نُشرت بكاملها سنة 1869، في فترة طيبة وسعيدة من زواجهما أيام كانت صوفيا صديقة تولستوي ومساعدته الأدبية، قبل يقظة تولستوي الروحانية وقبل أن تبدأ كل المشاكل.

كلام أنيس منصور مليء بالأخطاء، وطريقة حديثه عن تولستوي سخيفة ومن الواضح أنها متحاملة عليه وتريد الظهور بمظهر الفضيحة الصادمة! فهو كله كلام لا وزن له، ولا يؤخذ منه شيء.

سوناتا كروتزر: ما المعنى؟ ومن المسؤول؟

سوناتا كروتزر يا سوناتا كروتزر! هذه الرواية يستشهد بها الناس كثيراً عند الحديث عن مشاكل تولستوي وصوفيا (بلا شك بسبب انجذابنا الغريزي للفضائح!). ولكن غالبية الكلام المنتشر حول الرواية كلام منقوص وسطحي، فما يحيط بهذه الرواية من ظروف شخصية وتفاصيل فكرية وفلسفية أكثر تعقيداً بكثير من أن نقول بأن تولستوي "نشر غسيل البيت على الملأ"! ولذلك سأحاول مناقشة الموضوع من عدة نواحٍ لكي نصل إلى تفسيرات أظن أنها الأرجح.

تولستوي بريشة صديقه الفنان إيليا ريبين سنة 1887، سنتين قبل نشر سوناتا كروتزر

أولاً، مشكلة العالم مع الكتاب

رواية سوناتا كروتزر تسببت في مشاكل كبيرة وتم حظرها في روسيا وخارجها بسبب كلام تولستوي عن الزواج في الرواية ونقده له، خاصةً أن هذا الكلام له منطلقات دينية واجتماعيىة فكأنه كان هجوماً على عدة محاور: محور الجنس والشهوات الجسدية، محور المجتمع وتقاليده التي تجعل العلاقة بين الرجل والمرأة مبنية على الجنس، ومحور الكنيسة التي تروج للمؤسسات الدينية مثل مؤسسة الزواج. تولستوي كان قد وصل إلى قناعة بأن تعاليم المسيح تُفضل العفة على الزواج، عدا عن إيمانه المطلق بأن الحياة الروحانية هي الحياة الحقيقية وأي شيء قد يُفسدها يعتبر شراً (بما في ذلك الشهوات الجنسية، ولو كانت في نطاق الزواج!)، وبناءً على ذلك خلص تولستوي إلى أن العفة أفضل من الزواج ويجب السعي لها. ولكن تولستوي، المفكر الكبير والفيلسوف، كان يعلم أن هنالك مشاكل عقلانية كبيرة في الحديث عن العفة والامتناع عن التزاوج والتناسل! ولذلك أوضح تولستوي بأن حديثه جاء من منطلق ديني يرى بأن العفة حالة مثالية لا يمكن تحقيقها في الحياة وإنما فقط السعي إليها، وأن الخيار الوحيد لمن لا يستطيع تحقيق العفة هو الدخول في رباط مقدس أبدي (كان أيضاً يؤمن بالموقف المسيحي الأرثودوكسي الذي يُحرم الطلاق: إذا تزوجت، فهذا ارتباط أبدي!)، وهذا الزواج، من وجهة نظر تولستوي، يجب فيه التخلص من الشهوة الجسدية وتجب إقامته على حب إنساني متبادل بين الزوجين. كما كان لتولستوي نقد شديد لفكرة "مؤسسة الزواج" التي تدعمها الكنيسة، حيث كان تولستوي خصماً لدوداً للكنيسة والمؤسسات الدينية التي كان يتهمها بتحريف الدين المسيحي (من المشهور أنه قد صدر قرار بحرمانه الكنسي من الكنيسة الروسية بسبب كتاباته النقدية الدينية، وهو قرار مازال قائماً إلى اليوم ورفضت الكنيسة الروسية أن تلغيه منذ بضعة سنوات بعد أن تقدم أحد أحفاد تولستوي إليها بطلب لإلغاء القرار!)، وكان ينتقد الكثير من "المظاهر" الدينية التي تروج لها الكنيسة بالمخالفة لما كان يرى أنه رسالة المسيح الحقيقية حول حب الله وخدمة الله. وقد ذكر تولستوي كل ذلك بصراحة شديدة وبمنهجية عقلانية ومنطقية وبإيمان روحاني عميق في تعقيب أضافه لرواية سوناتا كروتزر في طبعاتها اللاحقة بعد أن أثار الكتاب جدلاً واسعاً بسبب هذه الأفكار (تقاسيم سوناتا كروتزر، ص297-308 - هذا كتاب يجمع نصوص ودراسات ومراجع عن سوناتا كروتزر، سوف أعتمد عليه عوضاً عن أن أضطر لفتح عشرين كتاب وأذكر مرجع من كل واحد! كما أن بعض أفكار تولستوي حول هذا الموضوع نقلها ألكسندر سولوفييف في مقدمته الواردة في الأعمال الكاملة، م18، ص17-18). وطبعاً، كل هذا النقد للزواج والكنيسة والحديث عن الخيانة الزوجية والجنس جعل الكتاب هدفاً للرقابة التي حظرته بحجة الانحلال والانحراف وغير ذلك من تهم عبيطة.

تولستوي وصوفيا بريشة إيليا ريبين

ثانياً، مشكلة صوفيا مع أفكار الرواية

صوفيا كانت لديها مشاكل مع "أفكار" الرواية (كلمة أفكار مهمة هنا!)، المشكلة الأولى كانت مع موقف الزوجة، حيث أن صوفيا أثناء قراءتها ونسخها للمسودات الأولى من الرواية لاحظت أن موقف الزوجة غير واضح وقد يُفسر على أن الزوجة التي قتلها زوجها مذنبة فعلاً بالخيانة الزوجية! وقد ألحت على تولستوي أن يغير الأمر بحيث لا تبدو الزوجة وكأنها المذنبة، وبالفعل عدل تولستوي الرواية قليلاً (تقاسيم سوناتا كروتزر، صxv). وهذا يتوافق بصفة عامة مع مواقف تولستوي، حيث كان يؤكد دائماً أن المجتمع كثيراً ما يلوم المرأة على أخطاء الرجل وأن هذا غير صحيح، وأن الرجل مسؤول عن شهواته وعن أخطائه والمجتمع مسؤول عن إلصاق صورة جنسية بالمرأة وسجنها في هذا الدور (راجع كتاب سيرجيينكو، ص78-79). ومع ذلك لم تنتهِ هذه المشكلة فعلاً، وعادت لها صوفيا في ردودها التي سأذكرها بعد قليل. المشكلة الثانية كانت مع نظرة تولستوي للفن، وبدون تعمق طويل فإن تولستوي كان يكره الفن المهيج للعواطف (مثل موسيقا بيتهوفن)، بينما كانت صوفيا تعترض على ذلك. بالإضافة طبعاً إلى اختلافها مع كلام تولستوي عن الحب والجنس والزواج وما نحو ذلك، وهذا اختلاف آراء لا أراه مشكلة كبيرة، بل على العكس هو اختلاف طبيعي لأن آراء تولستوي كانت مثيرة للجدل بالفعل في هذه المواضيع.

واضح أنهما يفيضان فيضاً بمشاعر الحب والمودة والألفة...

ثالثاً، مشاكل صوفيا الشخصية مع الرواية

هذه المشكلة ربما هي الأكبر: تفسير الناس للرواية على أنها تعكس حياة تولستوي وصوفيا الشخصية. وهي التي تشير إليها صوفيا في مذكراتها حيث تقول:

"لا أعلم لماذا وكيف يربط الناس سوناتا كروتزر بحياتنا الزوجية، ومع ذلك فإنه واقع أن الجميع – بدايةً من القيصر ووصولاً إلى أخ ليوفا [اسم دلع ليف تولستوي] وصديقه المفضل دايكوف – قد شعروا بالأسى لي. ولكن ما فائدة الالتفات إلى الناس الآخرين؟ في قلبي أنا نفسي شعرت بأن هذه القصة موجهة ضدي، لقد جرحتني وسببت لي العار أمام أعين العالم كله، وقد دمرت أي بقايا للحب بيننا. وكل هذا بالرغم من واقع أنني لم أفعل أي شيء خاطئ طيلة حياتنا الزوجية، ولم ألقي أبداً أي نظرة تجاه أي رجل آخر! أما إذا ما كنت قادرة على أن أحب رجلاً فهذا موضوع مختلف، وموضوع يخصني أنا وحدي، ولا أحد سواي، وطالما بقيت دائماً نقية، فإن لا أحد في العالم لديه الحق في أن يتطرق لهذا الموضوع". (مذكرات صوفيا، ص18-19. مقدمة ألكسندر سولوفييف في الأعمال الكاملة تورد ترجمة ناقصة لهذا المقطع من مذكرات صوفيا، الأعمال الكاملة، م18، ص15-16).
صوفيا تلوم تولستوي على أفكار وآراء وكلام الناس الذين يحبون الفضائح والقيل والقال! فهل هذا منطقي؟! هل تولستوي هو من نشر هذه الشائعات بين الناس؟! كما تتهم تولستوي بأنها يهاجمها شخصياً بالرواية، بينما كان الرجل يعطيها المسودات لتنسخها واستمع لنقدها وأخذ برأيها وعدل الرواية! فأين كان هجومه عليها حينها؟ وأين كان جرحها وألمها في ذلك الوقت؟! لقد كان تولستوي مشغولاً بالحديث عن مبادئ العفة المثالية ومؤسسة الزواج والكنيسة والأخلاق في المجتمع والشهوات الجسدية، بينما كانت صوفيا مشغولة بما يقوله الناس عنها وعن حياتها الزوجية! الأمر الذي لم يهم تولستوي مطلقاً لدرجة أنه لم يعلق عليه حتى في مذكراته بينما علق أكثر من مرة على الجدال الذي أثارته الرواية والحظر والتعقيب الذي كتبه.

ومع ذلك، مع أنني لا أرى أن تولستوي مذنب هنا مطلقاً وأنه لم يكن مسؤولاً عن الشائعات التي جرحت صوفيا، مع ذلك أظن أن تولستوي كان بمقدوره على الأقل أن يكتب رسالةً ما أو شيئاً يوضح أن الرواية لا تمس زواجهما من قريب ولا من بعيد. ولكن... لدي فرضيتان ربما تفسران عدم كتابة تولستوي لتوضيح حول الجانب الشخصي في الرواية (تم تشغيل وضع المحقق كونان).

الفرضية الأولى أن تولستوي كاتب محترف يستلهم من حياته كثيراً ومن الحياة من حوله أيضاً: الحرب والسلام رواية تاريخية مبنية على وقائع حقيقية واستلهم فيها تاريخ عائلته وعائلة زوجته، آنا كارنينا أيضاً مبنية على قصة حقيقية وعلى شخصيات من حياته، موت إيفان إيليتش أيضاً من قصة واقعية عن خبر وفاة قاضٍ ومن تجارب تولستوي مع الكآبة، الحاج مراد رواية تاريخية أخرى، روايات القوزاقيون والشيطان والبعث فيها لمحات من حياته قديماً، والكثير من القصص القصيرة أيضاً استلهم أحداثها من حياته. ولكن هذا الإلهام لا يعني أن كل شيء كتبه تولستوي يعبر عن حياته الشخصية، وإنما فقط يمثل قاعدة يبني عليها تولستوي بقية العمل، فليس كل شيء يحدث حدث له فعلاً وليس كل رأي تعبر عنه شخصية من الشخصيات يمثل رأيه – لنا أن نتخيل لو اضطر تولستوي أن ينفي في كل مرة أن تفاصيل هذه الرواية أو تلك لا تتعلق بحياته! تخيلوا أن يجلس ويعلق على 1,200 صفحة من الحرب والسلام ليقول هذا حدث لي وهذا لم يحدث لي! أو أن يضطر تولستوي أن يجلس ويبدأ يراجع معنا آراء أكثر من 600 شخصية في الحرب والسلام ليقول لنا هذا يمثل رأيي وهذا لا يمثل رأيي! هذا عمل المؤرخين والدارسين وليس عمل المؤلف نفسه، ولذلك قد يكون تولستوي امتنع عن توضيح عدم ارتباط الرواية بحياته الشخصية، أو لم يهتم بذلك أصلاً، من مبدأ أن الكاتب ليس ملزماً بتمييز الخيال من الواقع في أعماله.

هذه فرضية... الفرضية الثانية قد تكون صادمة قليلاً للبعض... قد يكون تولستوي امتنع عن توضيح أن الرواية لا تمس حياته الشخصية لأن الرواية بالفعل تعكس "بعض" جوانب حياتهما الشخصية... صوفيا نفسها تتحدث في مذكراتها عن أن موضوع حبها لرجل آخر موضوع يخصها شخصياً ولا يخص غيرها! وهذا كلام مريب قليلاً. كما أن صوفيا بالفعل كانت ربطتها "صداقات" قوية قليلاً برجلين من معارف العائلة، أحدهما صديق لتولستوي ورد أن تولستوي كان يغار من صداقته مع صوفيا، والآخر عازف بيانو كان صديقاً للعائلة، سيرج تانييف، ويقولون أن صوفيا تعلقت به كثيراً لدرجة أن ذلك سبب إحراجاً لأولادهم وأغضب تولستوي كثيراً، مع ملاحظة أن الرجل نفسه يبدو أنه لم يكن يشارك صوفيا مشاعر المودة، ويقال أنه كان مثلي جنسياً (تقاسيم سوناتا كروتزر، صxvii-xviii، كما ورد الكلام بشكل غير دقيق حول ذلك في مقدمة ألكسندر سولوفييف المترجمة في الأعمال الكاملة، م18، ص18-19). هذا الكلام قد يبدو مجرد شائعات، مع ملاحظة عدم وجود أي شائعات مشابهة حول تولستوي، الأمر الذي يزيد من سخافة تهم أنيس منصور له بالخيانة! حتى شائعات غير موجودة! ولكن إن افترضنا أن تولستوي كان يكتب من تجربة شخصية متهماً صوفيا بإمكانية خيانته عاطفياً، فإن هذا يعني أن نفترض أن صوفيا أيضاً كتبت من تجربة شخصية... ماذا كتبت؟ سؤال ممتاز وإجابته في النقطة التالية!

رابعاً، ردود صوفيا على الرواية

صوفيا كتبت قصتين رداً على رواية سوناتا كروتزر! القصة الأولى بعنوان "من المخطئ؟" والثانية بعنوان "أغنية بلا كلمات". القصة الأولى كانت شبه رد مباشر على سوناتا كروتزر تروي القصة من وجهة نظر الزوجة وتوضح أن الزوج الذي قتلها بسبب الغيرة هو المذنب. القصة الثانية مثيرة للاهتمام أكثر... الزوج هو خليط من الإشارات الساخرة عن تولستوي: رجل يتفلسف ويتوهم أنه عميق ومفكر! مرتبط بالأرض ويعمل دائماً في الحديقة! وبعيد عن زوجته فكرياً وروحانياً. أما الزوجة، فهي تقع في حب عازف بيانو يسحرها بالموسيقى التي تعيد لها شغف الحياة (بلا شك في هذا تعليق على موقف تولستوي من بعض أنواع الموسيقى)، ولكن الزوجة في النهاية يصيبها اليأس من صديقهم عازف البيانو لأنه لا يشاركها مشاعرها وتصاب بالجنون. البعض يقولون أن القصة هي عن سيرج عازف البيانو صديق عائلة تولستوي وحب صوفيا له (تقاسيم سوناتا كروتزر، صxvii-xviii). فإذا افترضنا أن تولستوي كان يكتب عن زواجه مع صوفيا ويعبر عن مشاكلهما وشكه في خيانة صوفيا العاطفية له بحبها لرجل آخر، ألا يعني هذا أن نطبق نفس الأمر على صوفيا ونرى أن قصتيها اللتين تحب فيهما الزوجة رجلاً آخر هما أيضاً من وحي الواقع وأن صوفيا بالفعل أحبت رجلين آخرين؟

ولكن (مازالت أُشغل وضع المحقق كونان!)، سواءً أكانت صوفيا قد وقعت في حب عازف البيانو ذاك أو صديق تولستوي، وهو شيء طبيعي نظراً للبرود الذي غلب على علاقتها مع تولستوي، فإنني لا أظن أن امتناع تولستوي عن التعليق على رواية سوناتا كروتزر سببه أنها مبنية على تجربة شخصية. صداقة صوفيا الأولى كانت تسبق كتابة سوناتا كروتزر بسنوات فلا أظن أن تولستوي ظل متمسكاً بتلك القصة، كما أن الرجل كان مترجماً ومثقفاً ولاعب شطرنج وكان صديق تولستوي أساساً، وهذا يختلف كثيراً عن شخصية الزوج في رواية سوناتا كروتزر، ولا أظن أصلاً أن صداقته مع صوفيا استمرت لفترة طويلة. أما عازف البيانو فقد كانت صداقته للعائلة وارتباط صوفيا القوي به بعد كتابة ونشر الرواية بسنوات (ما بين 1895-1897، الرواية نُشرت لأول مرة سنة 1889). بالإضافة إلى ذلك، فإن صوفيا ذكرت أن مصدر إلهام تولستوي لكتابة الرواية كان قصةً رواها له أحد معارفهم عن شخص في قطار يروي قصة خيانة زوجته، وقد ذكرت ذلك ألسكندرا نقلاً عما كتبته أمها في مذكراتها في ديسمبر 1890 (تاريخ غير متوفر في النسخة التي بين يدي والتي تحتوي على مذكرات صوفيا من 1891 إلى 1897) (ذكريات ألكسندرا، ص 301، وقد ورد ذلك في مقدمة سولوفييف في الأعمال الكاملة، م18، ص13، وورد أيضاً في كتاب صفحات منسية، ص134)، وهذا يتوافق مع أسلوب تولستوي في استلهام أمور من الحياة يبني عليها (مثل روايتي آنا كارينيا وموت إيفان إيليتش). ولذلك، أظن أن تولستوي لم يكن يبني رواية سوناتا كروتزر على أي تجربة شخصية، بلا شك قد استلهم بعض المشاكل الزوجية وتعامل الزوجين مع بعضهما سواءً من حيث البرود أو من حيث المودة من واقع حياته الزوجية مع صوفيا وهو ما تشير له ابنتهما ألكسندرا (ذكريات ألكسندرا، ص301)، ولكن من حيث الخيانة الزوجية وغيرة الزوج القاتلة والأفكار "غير النقية" التي توردها الرواية فلا أظن أن تولستوي استلهم شيئاً من حياته مع ألكسندرا، ولذلك أظن أن امتناعه عن التعليق على هذا الجانب جاء من الكلام السابق عن أن الكاتب ليس ملزماً بهذه التوضيحات.

ولكن، تبقى ملاحظة واحدة أخيرة حول رواية سوناتا كروتزر، وبالتحديد حول مواقف صوفيا الغريبة منها والتي قد توضح أن المشكلة كانت نابعة من أفكارها هي وأن تولستوي ليس مسؤولاً...

خامساً، صوفيا وإنقاذ سوناتا كروتزر

"في نفس السنة 1891 حدث لي شيء مهم جداً. ذهبت إلى بطرسبرغ لأتقدم بطلب للسلطات لرفع الحظر عن المجلد الثالث عشر من أعمال ل. ن. تولستوي الكاملة، الذي يحتوي على سوناتا كروتزر. تقدمتُ بطلب إلى الإمبراطور ألكسندر الثالث. وقد استقبلني بكرم، وبعد أن غادرت من عنده، أمر برفع الحظر عن الكتاب الممنوع، مع أنه كان قد عبر عن رغبته في عدم بيع سوناتا كروتزر منفصلةً." (سيرة صوفيا، ص78).
نعم، صوفيا التي لعنت أم الساعة السودا التي كتب فيها تولستوي رواية سوناتا كروتزر، بذلت مجهودات جبارة، وتواصلت مع عدة معارف وكونتيسات وقريبات للقيصر، وتحصلت على موعد لزيارته، ثم ذهبت لزيارته، وجلست معه تناقشه حول رواية سوناتا كروتزر، وأوضحت له موقف تولستوي حول أن العبرة هي في "مثالية" العفة وليس في إدانة الزواج كلياً، وحصلت في النهاية على إذن القصير برفع الحظر عن المجلد الذي يحتوي سوناتا كروتزر مع منع نشرها منفصلة، حيث قال القيصر أن الرواية لن تُقرأ على نطاق واسع في هذه الحالة فلن يتمكن كثيرون من شراء المجموعة الكاملة. وقد أُحرجت صوفيا بعد ذلك حين نشر البعض الرواية منفصلة لوحدها – صوفيا تذكر أحداث الرحلة والمراسلات والاجتماع بالقيصر بشكل أكثر تفصيلاً في مذكراتها (مذكرات صوفيا، ص39-65! أكثر من 20 صفحة! لهذا اخترت ترجمة الفقرة القصيرة من سيرتها في الأعلى!).

فما هذا الموقف العجيب؟! التفسير بسيط، ومؤلم قليلاً...

"لقد ألقت القصة علي ظلالاً، وحتى الإمبراطور قال: "أنا أشعر بالأسى لزوجته المسكينة". العم كوستيا قال لي أنني في موسكو أصبحتُ ضحية، والجميع يشعرون بالأسى لي. لهذا السبب عزمتُ على أن أظهر لهم أنني لستُ ضحيةً مطلقاً، أردت الناس أن يتحدثوا عني، لقد كان الأمر غريزياً جداً. كنتُ واثقةً من نجاحي مع الإمبراطور: لم أفقد بعد قدرتي  على نيل إعجاب الناس، وقد أثرتُ إعجابه بلا شك بشخصيتي وبطريقة حديثي. ناهيك عن أنني كان يجب علي أن أمنح سوناتا كروتزر للجماهير، والآن الجميع يعرفون أنني أنا حصلت عليها من الإمبراطور. لو كانت القصة مكتوبة فعلاً عني أو عن حياتنا الزوجية فلم أكن سأطلب من القيصر أن يسمح بنشرها. الجميع الآن سينظرون إلي من هذه الزاوية." (مذكرات صوفيا، ص65).
لا خلاف حول قوة صوفيا وذكائها، إنها امرأة جبارة بلا شك! ولا خلاف أيضاً حول هدفها من هذه المغامرة التي نجحت بسببها في رفع الحظر عن الرواية: لقد ألمها كثيراً كلام الناس، وهي كانت تهتم دائماً بموقعها الاجتماعي (وكان من أسباب غضبها على تولستوي عدم اختلاطه بالمجتمع الراقي وعدم محاولته رفع مكانتهما بأي شكل). ومع ذلك، مع كل هذه القوة، لا يمكن للمرء إلا أن يشعر ببعض الشفقة تجاه صوفيا، لأن الألم الذي نتج عن رواية سوناتا كروتزر يبدو بوضوح أنها هي تسببت به لنفسها، وبسببها هي دخلت هذه الشائعات التاريخ وترسخت فيه...

صوفيا الجبارة...

خلاصة الكلام عن سوناتا كروتزر

البعض يستشهدون بما كتبته صوفيا عن الألم والجرح العميق الذي سببته لها الرواية، ويستدلون بذلك على أن تولستوي تسبب بالأذى لصوفيا. ولكن كما هو واضح مما سبق فإن هذه المعاناة ضخمتها صوفيا نفسها، وتولستوي لم يكن مسؤولاً عن "الجرح العميق" الذي تحدثت عنه صوفيا. بلا شك نستطيع تفهم موقفها، خاصةً ونحن من عالم الفضيحة فيه أو حتى الشائعة قد تؤدي للموت وليس فقط تشويه السمعة! وقد ذكرتُ أن تولستوي ربما كان يجدر به أن يوضح الأمر - قد يمكن الاستشهاد بما يذكره في رسائله من مدح لصوفيا وإخلاصها طيلة زواجهما، ويمكن أيضاً الاستشهاد بكلام صوفيا نفسها عن إخلاصهما لبعضهما، ولكن مع ذلك كان سيكون أفضل لو حسم تولستوي الأمر، لكن من الواضح أنه لا يهتم بهذه الأمور. على كل حال، ما أريد قوله هو أننا حتى وإن تفهمنا تماماً مشاعر صوفيا وألمها وخوفها فإن هذا لا يعني مطلقاً أن نستعمل الرواية ضد تولستوي، فالأثر الذي أحدثته الرواية في صوفيا لم يكن تولستوي مسؤولاً عنه، بل كانت صوفيا هي التي تزيد من عمق الجرح بكثرة انشغالها بكلام الناس.

وقد أشار البعض لكلام ورد في كتاب "صفحات منسية من حياة تولستوي" لمؤلفه ك. لومونوف، حيث يقول المؤلف بأن "كل ما حدث مع البطل الرئيسي لقصة "السوناتا" يوصل إلى نتيجة واحدة: إذا رغب الناس في حياة حكيمة شريفة، فعليهم أن يتخلوا عن الحب الجسدي. وأن يتركوا العائلة، ويقرروا عدم الزواج ويصبحوا زهاداً". (صفحات منسية، ص137). كما نرى فإن هذا تفسير خاطئ لو كان القصد منه استنتاج أفكار تولستوي؛ لأن تولستوي قال بأن العفة أفضل من الزواج ولكنها حالة مثالية تتحقق في الآخرة (أو "الأبدية" كما يصفها تولستوي) وفي الحياة الدنيا يمكننا فقط أن نسعى لها، وتولستوي قال أن مؤسسة الزواج ليست من تعاليم الدين المسيحي ولكنها أفضل خيار بعد العفة المستحيلة، وتولستوي أكد على ضرورة أن يجمع الزوجين حب إنساني أخوي عوضاً عن الحب الجسدي الشهواني، وتولستوي أفنى حياته يتحدث عن أن خدمة الله هي خدمة الآخرين وحب الله هو حب الآخرين وكان يحب عائلته ولم يتخلَ عنهم (باستثناء صوفيا!)، فالكلام الذي يستخلصه لومونوف من الرواية لا يعبر عن موقف تولستوي. الشيء الغريب هنا أن لومونوف يذكر الجدل الذي دار حول الرواية ويذكر أيضاً أن تولستوي كتب تعقيباً للرواية يوضح موقفه (وصفه لومونوف بأنه "خاتمة"، صفحات منسية، ص136)، ومع ذلك فإن لومونوف يتجاهل هذا التعقيب ويتجاهل تفسير تولستوي ويكتب ببساطة تفسيره الخاطئ لخلاصة الرواية! هذا خطأ من مؤلف الكتاب الذي تجاهل توضيحات تولستوي، وخطأ افتراض أن "البطل" أو "الشخصية" تمثل آراء الكاتب.

وللأسف فهنالك من ينجرون وراء تفسيرات خاطئة وسطحية لرواية سوناتا كروتزر ولمواقف تولستوي حول الجنس والزواج والعفة، فيصل بهم الأمر لاتهام تولستوي بأنه منافق وبأنه رغم كل كلامه عن مساندة الفقراء والفلاحين والمضطهدين فقد كان مجرد رجل "هارب" رحل وترك الجميع. ولكن يمكن القول بكل ثقة بأن أي شخص يقول هذا الكلام هو شخص جاهل بحياة تولستوي وأفكاره.

تولستوي قدم تنازلات لمدة 13 سنة وبقي مع زوجته التي لم تقدم أي تنازلات رغم كل عذاباته الداخلية. فهل هذا يعني أنه لا يحبها أو لا يحترم زواجه؟ وحين "هرب" لم يترك الجميع، فقد لحقت به ابنته ألكسندرا وتراسل مع أولاده وأصدقائه ولحق بهم بعضه، كان قد ترك زوجته فقط التي لم يعد يستطيع التعايش معها. وحتى حين رحل وترك صوفيا كان مازال يشفق عليها ويهتم بمشاعرها ولا يريد أن يؤذيها أكثر، حتى أنه اعتذر من ابنه سيرجي وابنته تاتيانا في رسالة لهما بعد رحيله بتاريخ 1 نوفمبر 1910 لأنه لم يخبرهما بمكانه ولم يطلب منهما أن يلحقا به حيث قال لهما: "أمل وأثق بأنكما لن تعاتباني لأنني لم أطلب منكما أن تأتيا. إذا طلبت ذلك منكما ولم أرسل في طلب ماما [يقصد صوفيا] فإن ذلك سوف يسبب لها ألماً كبيراً..." (رسائل تولستوي، م2، ص714) – بالطبع ألكسندرا، التي كانت معه حينها، كانت حالتها خاصة بصفتها أقرب عائلته له في ذلك الوقت. بل إنه "هرب" من أجل الناس وليس فقط من أجل نفسه، فسبب دعم تولستوي للفقراء والفلاحين والفئات المضطهدة في روسيا وخارجها كان إيمانه بأن حب الله وخدمة الله يعني حب الجميع وخدمة الجميع، وكانت العزلة التي يرغب فيها تولستوي عن أسلوب الحياة وظروف المعيشة اللاتي كانت تعذبه (وليس العزلة عن الناس) كانت تهدف إلى شفاء روحه والاهتمام بحياته الروحانية، وقد ذكرت ابنته ألكسندرا أنه كان يريد إنقاذ نفسه: "يجب أن أنقذ نفسي، أن أنقذ نفسي، ما بداخلي والذي قد يكون مازالت فيه فائدة للناس." (مقابلة ألكسندرا). لقد كان يريد تحرير روحه من الظروف المعذبة التي كان يعيش فيها لعله يستطيع أن يقدم المزيد للعالم. وقد يجدر بي أن أذكر، للتأكيد، أن تولستوي لم يتوقف عن العمل من أجل العالم حتى في آخر شهور حياته، ذكرتُ سابقاً أنه توفي في نوفمبر 1910، ومن آخر مراسلاته في تلك السنة كانت مراسلاته مع غاندي ودعمه لقضية الشعب الهندي في مواجهة الاستعمار البريطاني، وهي مراسلات مشهورة ولا تحتاج لمراجع، ولكن نذكر على سبيل التوثيق آخر رسائله لغاندي بتاريخ 7 سبيتمر 1910، أي بحوالي شهرين قبل وفاته (رسائل تولستوي، م2، ص706) – لقد عمل تولستوي من أجل العالم لآخر حياته. وبعد كل ذلك، يتجرأ بعض الأشخاص على قول كلام مثل أن تولستوي هرب وترك الجميع! فهل هرب تولستوي من الجميع أم فقط من صوفيا؟

رسائل تولستوي التي أوردتها في ما سبق تحدث فيها عن عدم قدرتهما على التعايش، وعلى ضرورة الانفصال، وبعد رحيله طلب منها أن لا تبحث عنه وأن لا تلحقه، وجعل ألكسندرا تعده بأن لا تخبر صوفيا عن مكانه، وأخبر سيرجي وتاتيانا أنه يخاف أن تجده صوفيا!

في رسالته لابنته ألكسندرا بتاريخ 28 أكتوبر 1910 حين رحل يقول تولستوي بكل وضوح: "أرغب في شيء واحد فقط، التحرر منها، من كل الخداع، والنفاق، والحقد الذي يبدو أن كيانها كله غارقٌ فيه." (رسائل تولستوي، م2، ص713).

تولستوي والابنة والصديقة ألكسندرا

بعد "هروب" تولستوي لحق به بعض أفراد عائلته ومعارفه، وحين أصابه مرض الموت ونقلوه إلى كوخ في محطة أستابوفو (حيث سيتوفاه الأجل في نوفمبر) انتشر خبر مرضه وعرف الجميع مكانه وكان أول من جاؤوا لزيارته ابنه سيرجي وابنته تاتيانا (وتولستوي "الهارب" الذي "ترك الجميع" فرح بمجيئهما كثيراً)، وقد قال ابنه سيرجي بعد أن زار والده ورأى حالته الصحية أنهم يجب أن لا يسمحوا لصوفيا بأن تدخل عليه (ذكريات ألكسندرا، ص521). وبالفعل، لم يسمح الطبيب وأولاد وبنات تولستوي لصوفيا بأن تدخل الكوخ الذي كان يرقد فيه تولستوي على فراش الموت!

صورة لصوفيا وهي تنظر من نافذة الكوخ الذي كان يرقد فيه تولستوي على فراش الموت بعد أن منعوها من الدخول،  (ذكريات ألكسندرا، ص180)

وغير ذلك الكثير الكثير الكثير... فهل كان تولستوي مجرد "هارب"؟ هل"ترك الجميع ورحل"؟ أم ربما الأرجح أن الكثير من الناس يتحدثون بجهل وبتحيز وبدون أدنى معرفة بتفاصيل حياة تولستوي؟

وأخيراً، فيما يخص سوناتا كروتزر وما ينتج عنها من آراء منقوصة وسطحية، يقول البعض بأن موقف تولستوي من الجنس بلا شك يضر بحياته مع صوفيا وعلاقته معها، وأن امتناع تولستوي عن ممارسة الجنس مع زوجته ينسف كل الحب والمشاعر بينهما. وبعد أن أتنهد تنهيدة عميقة، فأظن أن بعد كل الكلام الذي أوردته عن موقف تولستوي من الجنس ونظرته للزواج الذي يجمع بين زوجين بالحب الإنساني، ورسائله التي يؤكد فيها لصوفيا حبه له وعرفانه على كل ما قدمته، وواقع أنه بقي معها إلى نهاية عمره رغم كل عذاباته، وكل تنازلاته، وما نراه من الحب الذي جمع بين تولستوي وبين عائلته... بعد كل هذا أظن أنني لا أحتاج لأن أقول بأن من يتحدثون عن الجنس بالنسبة لتولستوي بهذا المنطق لا يعرفون أبجديات أفكار تولستوي حول الموضوع ولا يعرفون تفاصيل حياته، وكل ما يفعلونه هو إسقاط أفكارهم الشخصية عن الجنس على حياة تولستوي. وأظن أن مثل هذه "الإسقاطات" التي تأتي بدون معرفة حقيقية بكامل التفاصيل لا داعي حتى لانتقادها، فلا قيمة لها.


خاتمة
أشعر بأنني يجب أن أُعلق قليلاً على المصادر والمراجع والروايات الكثيرة المتضاربة. فمن نصدق مثلاً؟ هل نصدق تولستوي حين يقول أن صوفيا لا تفهم أفكاره أو فهمه للحياة وهذا سبب تباعدهما؟ أو نصدق صوفيا التي تقول أن تولستوي هو الذي ابتعد عنها وهي لم تفعل شيئاً؟ وهل نصدق ابنهما إيليا مثلاً الذي يدافع عن أمه كثيراً؟ أم نصدق ابنتهما ألكسندرا التي أيدت مواقف والدها؟ الأمر صعب، ولكن صعوبته لا تكمن في محاولة معرفة من الذي يقول الحقيقة، وإنما صعوبته تكمن في قراءة كل شيء، فحين نفعل ذلك سوف تظهر لنا الحقيقة.

هذا هو ما أحاول الالتزام به طوال الوقت في علاقتي بتولستوي، لقد قرأت عنه الكثير وجمعت كل ما أستطيع أن أجده من المصادر ومازلت مستمراً في جمع المزيد والمزيد، وكل ذلك لأنني أحب تولستوي حباً عظيماً يراه بعض الأصدقاء على أنه جنون! ولا ألومهم! ولكن الآن أستطيع أن أقول لهم: ها! شفتوا؟! كل هذا الهوس المجنون هو ما سمح لي بأن أعرف كل هذه التفاصيل وأعرف أين أجدها فوراً في حالة احتجت للكتابة عن تولستوي والدفاع عنه! ربما هذا لا ينفي تهمة الجنون عني، ولكنه على الأقل يوضح أن لهذا الهوس المجنون فائدة! على كل حال، حين نجمع أكبر قدر ممكن من المصادر نستطيع أن نضع كل تلك الآراء ووجهات النظر مع بعضها، نُركب قطع الأحجية وتظهر لنا الصورة، فنستطيع حينها أن نعرف متى تقول صوفيا في مذكراتها كلاماً لا يعبر عن الواقع، ونستطيع أن نعرف متى يجاملها تولستوي في رسائله، ونستطيع أن نعرف متى يحذف إيليا تفاصيل بطريقة دبلوماسية، ونستطيع أن نعرف متى تذكر ألكسندرا كل شيء بموضوعية... وحين تتعمق لهذه الدرجة في حياة الأشخاص وفي أفكارهم ومشاعرهم تصبح قادراً حتى على الإحساس بمشاعرهم عبر النصوص التي كتبوها، فتعرف متى كان تولستوي غاضباً، ومتى كانت ألكسندرا حزينة، ومتى كانت صوفيا حانقة على تولستوي، ومتى كان إيليا لا يبالي بهذا الموضوع أو ذاك.

حسناً، حسناً، أعلم أنني ربما أبالغ بالحديث عن الإحساس بمشاعر الناس وأبدو مجنوناً، ولكن هوسي بتولستوي جنونٌ مُرحَّبٌ به! وبعيداً عن الإحساس أو الاستنباط، فكما قلت حين نضع كل شيء أمامنا سوف تتركب الصورة الكاملة، وسأعطي مثالاً عملياً: حين تقرأ ما كتبه إيليا وألكسندرا عن حب أبيهما تولستوي لأطفاله وعنايته بهم وبتعليمهم، وحين تدرك مثلاً أن العبقري الموسوعي تولستوي علم بناته الكثير فكنَّ أقرب أهله إليه فكرياً، وحين تكون على دراية باهتمام تولستوي بالتعليم وافتتاحه مدارس للفلاحين وتأليفه لبحوث عن التعليم ولكتب تعليم للأطفال وعمله في مدراسه معلماً، حين تكون على دراية بكل ذلك فإنك سوف تعرف فوراً أن صوفيا لا تقول الحقيقة حين تقول بأن تولستوي لم يكن يهتم بأطفاله ولا يحبهم ولا يهتم بتعليمهم! وأن صوفيا، إن ملنا إلى حسن الظن ولم نتهمها بالكذب، كانت في الأغلب تتحدث بشكل عاطفي بسبب تعبها وعنايتها بالأطفال وتقوم بتضخيم انشغال تولستوي مثلاً بين الحين والآخر وتحاول أن تصوره على أنه أب مهمل وسيئ. فهل اتضح الآن ما أقصده؟ سأعطي مثالاً آخر، حين تقرأ السير الذاتية المختلفة، وذكريات أصدقاء ومعارف تولستوي والعائلة، وحين تقرأ مذكرات تولستوي ومراسلاته، سوف تدرك مثلاً أن ابنه إيليا في كتاب ذكرياته يحذف تفاصيل كثيرة وأنه يختار رسائل معينة فقط من رسائل تولستوي، وحين تقرأ كتاب ذكريات ألكسندرا فسوف تجد أنها تذكر تفاصيل كثيرة ودقيقة وأنها تعبر عن مواقف الجميع وتستشهد بمراسلات ومقاطع من مذكرات حين تعود للمذكرات والمراسلات تجد أنها كلها موجودة، ولذلك سوف تكون على دراية بأن كتاب ألكسندرا أكثر موضوعية وأكثر دقة وأكثر صراحة وأقرب للحقيقة من كتاب إيليا الذي كان يميل للدبلوماسية وللدفاع عن أمه. فهل اتضح الآن ما أقصده بين الحديث بمعرفة وبين اللغو بجهل؟ وسأعطي مثالاً أخيراً لأهميته، خاصةً بالنسبة للقارئ العربي.

الاطلاع على كل هذه المصادر والمراجع يسمح لك بأن تميز المعلومات الصائبة من المعلومات الخاطئة في كتب السيرة وغيرها من الكتابات عن تولستوي وحياته وأعماله. مثال ذلك ما سبق أن ناقشته حول المقالة المنسوبة لغوركي وحول كتاب "صفحات منسية من حياة تولستوي" لمؤلفه ك. لومونوف، والخلاصة التي استنتجها حول رواية سوناتا كروتزر والتي كانت خاطئة تماماً. وأيضاً هنالك المقدمة التي كتبها ألكسندر سولوفييف للأعمال الكاملة، والموجودة في مجلدات الأعمال الكاملة الصادرة عن وزارة الثقافة السورية بترجمة سامي الدروبي وصياح الجهيم، والتي تنشرها الآن تقريباً دار المدى، لكني لم أطلع على نسخ دار المدى ولا أعلم هل المقدمات موجودة فيها أم لا. مقدمة سولوفييف ربما أفضل المراجع العربية التي ناقشتها (أفضل من الكلام المتحامل والسخيف في كتاب أنيس منصور، وأفضل من الكلام غير الدقيق المنسوب لغوركي، وأفضل من الكلام الخاطئ للومونوف). مقدمة سولوفييف فيها معلومات أكثر عن سوناتا كروتزر والأحداث المحيطة بها، ولكن بعض هذه المعلومات معروضة بطريقة غير دقيقة وناقصة بينما بعضها الآخر سليم، ولذلك حرصت أثناء هذه النوبة من الجنون العاشق (لا أظن أنني أستطيع وصف هذه الكتابة بأنها بحث!) حرصت على الإشارة لمقدمة سولوفييف ومقارنتها بالمراجع الأخرى لتوضيح أن سولوفييف يذكر أحياناً معلومات سليمة وأحياناً يذكر معلومات ناقصة وغير دقيقة.

أرجو أن يكون قد اتضح الفرق بين اقتباس سطر أو سطرين من مرجع واحد وتجاهل عالم كامل من المصادر والمراجع وبين القراءة الدقيقة لأكبر قدر من المراجع والجمع بين الآراء المتوافقة وملء الفراغات وترجيح الآراء المتناقضة – الفرق بين أن تعرف ما تتحدث عنه وتستطيع تمييز الصحيح من الخطأ وبين أن تنسخ برعونة كلاماً من هذا الكتاب أو ذاك دون أن تعرف إذا كان صحيحاً أو خاطئاً. الفرق فرقٌ كبيرٌ جداً.

قد يقول البعض: حسناً، لقد فهمنا، أنت تحب تولستوي بجنون ومهووس به وتتمنى أن تتزوجه، فهمنا، ولكن هل تريد من الجميع أن يكونوا مثلك وأن يقرأوا مثلك كل شيء عن تولستوي ويحضروا شهادة دكتوراة في الموضوع؟! تساؤل منطقي، وسوف أرد عليه كالتالي: أولاً، للأسف لم أجد آلة سفر عبر الزمن أستطيع أن أعود بها إلى الماضي وأتزوج تولستوي، لكن مازال عندي أمل! ثانياً، قرأتُ كل ما أستطيع أن أجده عن تولستوي، ومازلت أبحث وأقرأ وأجمع مراجع ومصادر وكتب نادرة، وسوف أستمر إن شاء الله، ولكن السبب ليس أنني أريد تحضير شهادة دكتوراة عن تولستوي ولكن السبب ببساطة أنني أحب تولستوي. وثالثاً، وهذا الرد الأساسي: لا، لا يجب على أحد أن يفعل مثلي ويقرأ مثلي، حالتي حالة شاذة سببها العشق والهيام، ومن غير المعقول أن نتوقع أن كل الناس يجب عليهم أن يبذلوا نفس المجهود قبل أن يُسمح لهم بالحديث عن تولستوي مثلاً! أو أن نطالب الناس بأن لا يقرأوا مقدمة عن تولستوي إلا بعد إجراء بحث عميق لمدة 20 سنة! لقد تناقشت كثيراً مع أشخاص قرأوا مثلاً مقالة عن تولستوي وصوفيا، أو حتى أشخاص قرأوا مقدمات الأعمال الكاملة الصادرة عن وزارة الثقافة السورية، وهم وإن اختلفت معهم وجادلتهم، فأنا في النهاية أتفهم أن هذه هي المصادر المتاحة لهم (خاصةً إن كانوا لا يجيدون القراءة بغير العربية)، وأتفهم أيضاً أن غالبية الناس ليس لديهم اهتمام كبير يدفعهم نحو التأكد من صحة هذه المعلومة أو تلك، خاصةً إن وردت في مصدر من المفترض أنه موثوق، ولذلك مثل هؤلاء الأشخاص لا نستطيع أن نصفهم بالجهل أو التحيز أو غير ذلك من أمور، فمعرفتهم لأمور غير صائنة ناتجة عن عدم وجود اهتمام حقيقي بالموضوع وعن الثقة بمراجع غير دقيقة. ولكن، حين يقرر الشخص أنه يريد الحديث عن تولستوي رغبةً في نشر معلومات أو استكشاف حقيقة ما أو حتى من حيث الاهتمام بأفكاره وأعماله الأدبية ومحاولة تحليلها وتحليل مواقفه، ففي هذه الحالة هذا الشخص تقع على عاتقه مسؤولية كبيرة، وعليه أن يتريث في بحثه، وأن يتحقق من صحة ومصداقية مراجعه ومصادره، وأن يدرك بأن مرجعاً أو مرجعين لا يؤسسان لبحث جاد ولا يُوصلان إلى الحقيقة التي نبحث عنها جميعاً، وأن يلتزم الموضوعية في التحليل والنزاهة في النقل. أعلم أن هذا الكلام يبدو كسلسلة مملة من النصائح، ولكن حين يحاول أحدنا أن يتحدث بهذا الشكل حول موضوع ما فإنه لا يريد فعلاً أن "يناقش" أو يدخل في "حوار" عادي، بل يريد أن ينقل إلى الآخرين المعرفة والحقيقة، وهذه مسؤولية تفرض عليه التزامات معينة من حيث التأكد والتوثق والبحث والموضوعية والنزاهة، وإذا لم يلتزم بها فإنه يعرض نفسه للعتاب والنقد ويُفقد الآخرين ثقتهم به وينسف مصداقيته بنفسه.

بقي شيء أخير أريد أن أذكره، فهو شيء مهم جداً بالنسبة لي شخصياً.

تولستوي ليس مجرد أديب، ولو كان مجرد كاتب روايات وقصص فلا أظنني كنتُ سأحبه لهذه الدرجة! تولستوي باحث وموسوعي ومفكر وفيلسوف وعبقري وفقيه ومفسر وداعية ومرشد روحاني ومُصلح اجتماعي وناشط سياسي ومناضل حقوقي و... و... و... كل هذا يعني أن لتولستوي مبادئ وقيم وأفكار حاول الالتزام بها وحاول تنفيذها وتطبيقها. أنا شخصياً، بحكم اطلاعي على كتابات وحياة تولستوي، أعرف وأثق بأن هذه المبادئ والأفكار لها دورها في حياة تولستوي وأن لها دورها في نيته التي توجه تصرفاته. ولذلك مثلاً أثق بأن تولستوي لن يؤذي صوفيا، ليس فقط لأنه يحبها ويقدر عشرة العمر بينهما ولكن أيضاً لأن قناعاته تمنعه من أن يؤذي أي شخص وأن يحب الجميع ويساعد الجميع. أثق أيضاً بأن تولستوي صادق وصريح ومن أهم مبادئه وأولوياته في الحياة مبدأ الحقيقة (يحضرني الآن ما قاله نابوكوف في محاضراته عن الأدباء الروس، حيث قال بأن الكاتب والفنان وظيفته "الخيال" أو "السحر" ولكن تولستوي كانت وظيفته "الحقيقة"، لقد كان يسعى نحو الحقيقة حتى في أعماله الفنية الخيالية)، ولذلك أثق بأن أي شيء يكتبه تولستوي في مذكراته وفي رسائله سيمثل الحقيقة الصريحة (على الأقل من وجهة نظر تولستوي)، لذلك مثلاً أستطيع أن أقول بثقة بأن تولستوي كان يحب صوفيا، ولو كان حباً إنسانياً ومبنياً على حياتهما الطويلة معاً، فحتى وإن كان واضحاً أن تولستوي يجاملها في بعض رسائله لها ويراعي مشاعرها كثيراً وحتى لو اشتكى منها كثيراً في مذكراته ورسائله للمقربين من عائلته ومعارفه، فإنه حين يقول لها في رسالة أنه يحبها فإن هذه لا بد أن تكون الحقيقة، لأنني أثق ثقةً تامة في أن تولستوي لن يكذب.

ومع ذلك، مع كل ثقتي في تولستوي ومعرفتي بأفكاره ومبادئه وقيمه، مع ذلك حاولت أن لا أشير لهذه الثقة، وأن أعرض المراسلات والمذكرات والمراجع بأكبر موضوعية ممكنة، أن أعرض الأحداث والوقائع وأتركها هي تشهد بقيم ومبادئ تولستوي دون أن أتحدث عنها أنا بعشق وهيام قد يؤثر على موضوعية العرض... أظن أن هذا كان سيُسعد تولستوي، وأرجو أن أكون قد نجحت في ذلك.

وهذا كل ما هنالك... ما هذه الكتابة كلها إلا رسالة عشق أخرى أوجهها لتولستوي. ولعلي يجب أن أختمها كذلك...

تلميذك المخلص والمُحب لك دوماً،

إبراهيم الشريف.

12-14 يوليو 2018


قائمة المراجع:

فيما يلي قائمة المراجع، حيث سأذكر الاسم المختصر الذي استخدمته في النص (مثل سيرة صوفيا، أو ذكريات ألكسندرا) ثم أذكر التفاصيل الكاملة للمرجع.

·       المراجع العربية:
-       الأعمال الكاملة:
ليون تولستوي: الأعمال الأدبية الكاملة 18: سوناته لكروتزر. ترجمة صياح الجهيم. منشورات وزارة الثقافة، دمشق، بدون رقم طبعة، 1997.

-       صفحات مجهولة:
ك. لومونوف: صفحات مجهولة من حياة تولستوي. ترجمة ماجد علاء الدين، محمد بدرخان. نشر ماجد علاء الدين، مطابع الصباح، بدون رقم طبعة، بدون سنة.

-       من أول نظرة:
أنيس منصور: من أول نظرة: في الجنس والحب والزواج. دار الشروق، القاهرة، ط4، 2001.


·       المراجع الإنجليزية (كل ما أخذته منها هو ترجمتي الشخصية):
-       كتاب سيرجيينكو:
How Count L.N. Tolstoy Lives and Works. P. A. Sergyeenko. Translated from the Russian by Isabel F. Hapgood. Thomas Y. Crowell & Co. Publishers. New York. C1899.

-       ذكريات إيليا:
Reminiscences of Tolstoy by his son Count Ilya Tolstoy. Translated by George Calderon. The Century Co. New York. 1914.

-       سيرة صوفيا:
Autobiography of Countess Tolstoy (Sophie Andreevna Tolstoy). Translated by S.S. Koteliansky and Leonard Woolf. B.W. Huebsch. Inc. New York. 1922.

-       مذكرات صوفيا (الفترة ما بين 1891 و1897):
The Countess Tolstoy’s Later Diary 1891-1897. Authorised Translation from the Russian with an introduction by Alexander Werth. Payson and Clarke Ltd. New York. 1929.

-       ذكريات ألكسندرا:
Tolstoy: A Life of My Father. Alexandra Tolstoy. Translated from the Russian by Elizabeth Reynolds Hapgood. Harper & Brothers Publishers. New York. 1953.

-       رسائل تولستوي:
Tolstoy’s Letters. Volume II. 1880-1910. Selected, edited and translated by R. F. Christian. The Athlone Press. University of London. 1978.

-       شذرات مذكرات غوركي:
Fragments From My Diary. Maxim Gorky. Translated by Moura Budberg. Penguin Books. London. 1990.

-       ذكريات غوركي عن تولستوي (مجموعة في هذا الكتاب):
Gorky’s Tolstoy & Other Reminiscences. Key Writings by and about Maxim Gorky. Translated, edited and introduced by Donald Fanger. Yale University Press. New Haven & London. 2008.

-       تقاسيم سوناتا كروتزر:
The Kreutzer Sonata Variations. Translated and edited by Michael R. Katz. Yale University Press. New Haven & London. 2014


هناك 4 تعليقات:

  1. أحسنت أحسنت أيها التلميذ العاشق

    ردحذف
  2. قريبًا جدًا هتصدر يوميات ليف تولستوي بإذن الله.

    ردحذف
  3. https://www.albawaba.com/ar/%D8%A3%D8%AF%D8%A8-%D9%88%D8%AB%D9%82%D8%A7%D9%81%D8%A9/%D8%A5%D8%B5%D8%AF%D8%A7%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D8%B1%D8%AC%D9%85%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%B9%D8%B1%D8%A8%D9%8A%D8%A9%C2%A0%D9%84%D9%83%D8%AA%D8%A7%D8%A8-%D8%A7%D9%84%D9%8A%D9%88%D9%85%D9%8A%D8%A7%D8%AA-%D9%84%D8%AA%D9%88%D9%84%D8%B3%D8%AA%D9%88%D9%89-1307925

    ردحذف