الأحد، 16 سبتمبر 2018

في ذكرى استشهاد عمر المختار الذي لم يستسلم


اليوم 16 سبتمبر، ذكرى استشهاد شيخ الشهداء أسد الصحراء الشيخ عمر المختار رحمه الله، أحد أبرز قادة الجهاد الليبي ضد الاحتلال الإيطالي، والذي أعدمه الاحتلال في مثل هذا التاريخ سنة 1931.

أريد في هذه التدوينة التحدث عنه قليلاً.



صورة يظهر فيها عمر المختار (أقصى اليسار) من بعض المفاوضات التي لم تنجح مع الإيطاليين (لرفض المجاهدين السلام مع الاحتلال).


قد يكون فيلم "أسد الصحراء" من إخراج الراحل مصطفى العقاد المرجع الوحيد (والأكثر شهرة!) لكثير من الناس. إنه بلا شك فيلم رائع بمعايير هولودية كبرى وفيه بعض أبرز نجوم هوليود في ذلك الوقت. ومع ذلك، في الفيلم أخطاء تاريخية كثيرة. لن أناقشها كلها، ولكن سأناقش ثلاثة منها.


قائد المقاومة الأوحد

أول تصوّرٌ خاطئ هو ظن البعض أن عمر المختار كان قائد المقاومة الليبية كلها. هذا بالطبع غير صحيح، عمر المختار رحمه الله كان من أبرز قادة الجهاد، وربما من آخر (إن لم يكن بالفعل آخر) من صمدوا في مواجهة الاحتلالولكنه لم يكن الوحيد.

كان عمر المختار في شرق ليبيا، وكان في جنوب وغرب ليبيا أيضاً مقاومة وقادة مثل الباروني والفكيني والسويحلي وسيف النصر وغيرهم. وحتى في الشرق لم يكن عمر المختار الوحيد، فكان يوجد غيره مثل يوسف بورحيل وعبدالحميد العبار.



فاصل: عبدالحميد العبار كان من أبرز قادة الجهاد المساندين لعمر المختار. بعد الاستقلال نقل الملك إدريس رفات عمر المختار إلى ضريح في بنغازي (أزاله القذافي لاحقاً! وقد أُعيد بناؤه في بنغازي سنة 2021) وقد كان العبار أحد من حملوا النعش.


صورة حمل النعش (هو الضخم بالعكاز على اليمين).


صورة لعبدالحميد العبار مع الملك إدريس السنوسي.


صورتان للضريح قبل وبعد أن أزاله القذافي

نعود لكلامنا.

كما قلتُ، لم يكن عمر المختار القائد الوحيد للمقاومة في ليبيا، ولكن ربّما اشتهر أكثر من غيره بوصفه كان أحد آخر من صمدوا فتركّزت أنظار العالم العربي والإسلامي عليه. ومع ذلك، فلا يجب أن يُفهم من هذا الكلام أن عمر المختار لم تكن له مكانة عالية، لم يكن الوحيد، لكن كانت له في شرق ليبيا مكانة قياديّة بارزة بحكم خبرته الطويلة في القيادة والجهاد.

وهنا قد تتساءل عزيزي القارئ: خبرة طويلة ومكانة عالية؟! ألم يكن مُدرس قرآن بسيط؟

هذا الشيء الثاني الشهير وغير الصحيح الذي ساهم الفيلم في ترويجه.

مُعلّم القرآن البسيط

لم يكن عمر المختار مجرّد شيخ بسيط يدرس الأطفال القرآن (أو "فقي" كما نقول في ليبيا!). لقد كان أحد أبرز قادة الحركة السنوسيّة، وهي حركة من أبرز الحركات الإسلاميّة الإصلاحيّة التي عملت على نشر الإسلام ومقاومة الاستعمار وساهمت في تطوير المجتمعات. صحيحٌ أن رئاسة الحركة السنوسية كانت وراثية، لكن المناصب القياديّة فيها كانت تعتمد على الكفاءة، فكان من الطبيعيّ فيها أن يرتقي أشخاص من خارج العائلة لمناصب أعلى من بعض السنوسيين، وعمر المختار مثال على ذلك. 

سأذكر بعض التفاصيل عن الحركة السنوسيّة، بالقدر الذي أحتاج للحديث عن وهم "معلّم القرآن البسيط"، ولمن أراد الاستزادة عن السنوسية يمكنه مراجعة كتاب مفتاح السيد الشريف "السنوسية" وكتاب علي الصلابي "الثمار الزكية للحركة السنوسية في ليبيا".



ثمّة تعامل سطحي مع تراث السنوسية، ينظر كثيرون للزوايا السنوسية بوصفها لا تعدو كونها مراكز تعليمية أو صوفية، ربما هذا بسبب مساعي السنوسية في نشر الإسلام وبناء المدارس وارتباطهم بالصوفيّة، وربّما نتج من ارتباط كلمة "زاوية" بالزوايا الصوفيّة (خاصّةً في ليبيا). النتيجة أن البعض عندما يسمعون أن عمر المختار كان يتولى رئاسة زاوية سنوسيّة قد يتوهمون أنه كان يُدرّس القرآن فيها.

الصحيح أن الحركة السنوسية، إلى جانب اهتمامها بالتعليم، كانت تهتم أيضًا بالسياسة والتجارة والزراعة والجهاد ضد الاحتلال في عدة أماكن، ليس فقط في ليبيا حيث كان للحركة نفوذٌ كبير. ولذلك "الزاوية" السنوسية كانت في المقام الأول "سفارة" ولها ملاحق أخرى. لذلك حين نقول إن عمر المختار تولى رئاسة زاوية فهذا يعني أن دوره كان قيادياً وليس تعليمياً.

إضافةً إلى ذلك، فقد تولى عمر المختار مناصب أكبر ضمن الحركة السنوسية، فعدا عن توليه رئاسة زاوية في إحدى المناطق، عُيّن بعد ذلك في منصب النائب المكلف بمنطقة الجبل الأخضر كلها (وهي منطقة كبيرة في شرق ليبيا)، ثم صار نائب وكيل الحركة السنوسية في ليبيا، أي كان الرجل رقم 2 للحركة في ليبيا، ولكنه فعليًّا كان رقم 1 بصراحة!

لذلك سنقرأ عن ترقي عمر المختار في سلسلة القيادة في الحركة السنوسية، ومشاركته في الجهاد في عدّة مناطق ضد الفرنسيين والإنجليز، ودبلوماسيته وتدخله لفض النزاعات القبليّة، وأنه مع بدايات الاحتلال الإيطالي كان أحد القادة الذين ينظمون قوات المجاهدين، وكان على تواصل مستمر مع قادة الحركة السنوسية (السيد أحمد الشريف السنوسي والأمير (حينها) إدريس السنوسي)، وأنه من ذهب للمفاوضات الرسمية مع الإيطاليين... فهل يوكل تنظيم الدفاعات لشيخ مسجد بسيط؟ هل تنطوي القبائل بتعصباتها تحت لواء رجل مجهول؟ صحيح أن بمقدور الكثير من الأبطال أن يثبتوا مكانتهم وينتزعوا احترام من حولهم، فلا يستبعد أن يتحوّل مُعلّم قرآن بسيط إلى قائد محنّك في الجهاد (وهذا يحدث كثيرًا حين يتقدّم الناس للدفاع عن حرياتهم)، لكن هذا لا يتّسق مع قصّة عمر المختار، فهو من اليوم الأوّل كان قائدًا بارزًا، وسيرته كلّها، من بدايات الجهاد ضدّ الاحتلال الإيطاليّ، سيرة قائد محنك.

هذه المكانة العالية، كما سبقت الإشارة، نبعت من ارتباط عمر المختار بالسنوسيّة وترقيّه في مناصبها. وهو ارتباطٌ لم ينقطع، على عكس ما صوره الفيلم الذي عرض علاقة عمر المختار بالسنوسيّة على أنها علاقة عدائيّة. وبعيدًا عن الفيلم وتصويره الخاطئ، راجت أيضًا بعض السرديات التي تقول إن عمر المختار بدأ مسيرته مع السنوسييّن لكنه انفصل عنهم لاحقًا، أو أنّ عمر المختار ساءت علاقته بالأمير إدريس وإن استمرت مع السيد أحمد الشريف، ولكن كلّ هذا غير صحيح.

في كتاب "الطريق إلى مكة" لمحمد أسد نقرأ عن استمرار علاقة عمر المختار بالسنوسيّة، وتنسيقه المستمر مع السيد أحمد الشريف السنوسيّ وإدريس السنوسي والتواصل معهما إلى آخر أيامه. كان السيد أحمد الشريف قد تنحّى عن قيادة الحركة السنوسيّة وتولى قيادتها الأمير إدريس. ولكن، ربّما لخبرة السيد أحمد الشريف العسكريّة التي تفوق خبرة الأمير إدريس، أو لأن الأمير إدريس - في منفاه في مصر - كانت تحرّكاته مقيّدة، كان للسيد أحمد الشريف دورٌ أبرز في التواصل مع عمر المختار وتنسيق العمليات معه، وانحصر دور الأمير إدريس في المساعي الدبلوماسيّة والمعونات السريّة للمجاهدين.



بناءً على كلّ ما سبق، لا بدّ أن يتّضح لنا أن عمر المختار لم يكن مجرّد رجل بسيط استجاب لنداء الكفاح والحرية، بل كان قائدًا بارزًا، على صلة بالتنظيم القيادي، السياسي، العسكريّ، والعالميّ الأبرز في ليبيا.

والسؤال إذن: لماذا لا نعرف ذلك؟ لماذا المشهور (حتى في ليبيا نفسها) قصص خاطئة عن كون عمر المختار مجرد شيخ بسيط؟ الإجابة قد تكون ببساطة: القذافي.

لقد انقلب القذافي على الملك إدريس السنوسي، وكان حتميًّا أن يسعى إلى تشويه تاريخه وشخصه وحكمه الذي انقلب عليه! فلن يفيده أن يُعرف أن عمر المختار جزء من الحركة السنوسية وأنه كان نائبًا لوكيل الأمير إدريس! ولأن عمر المختار أكبر بكثير من أن يستطيع القذافي طمسه كلياً، سعى لطمس أجزاء كبيرة من تاريخه (تاريخه مع السنوسيّة، وارتباطه بهم أثناء الجهاد، إلخ)، وقد ساهم الفيلم للأسف في الترويج لهذا التاريخ المنقوص.

وبالحديث عن خطايا الفيلم، نأتي للشيء الأخير، ولعله من أكثر ما يضايقني في الفيلم: مشهد استسلام عمر المختار. وأقول "استسلام" وليس "القبض على" لأنه في الفيلم استسلام!

استسلام عمر المختار

نرى في المشهد عمر المختار يسقط عن فرسه. ينهض، بندقيته في يده، يظهر له جندي إيطاليّ شاب، يرفع عمر المختار بندقيته، ينهار الجندي الإيطاليّ ويحاول الاستجداء، يتردّد عمر المختار في قتله، وثم يظهر جنود إيطاليّون كثر، يحيطون به... بصمتٍ تام، يُنزل عمر المختار بندقيته، ويستسلم...

أسد الصحراء يستسلم بوداعة قطة! لا حول ولا قوة إلا بالله! إهانة لا تعلوها إهانة!

الرجل الذي أدهش السنوسيين ببطولته وشجاعته حتى ارتقى سلم القيادة، الرجل الذي أتعب الإيطاليين بكل تفوقهم العسكري حتّى أتوا بسفاحهم الأشهر غرازياني ليحلّ مشكلته ويبيد السكان، الرجل الذي اشتهر كفاحه حتّى صار من أعظم أبطال المقاومة في التاريخ، هذه نهايته؟!

ينزل بندقيته؟!

تؤخذ منه كأنه طفل؟!

ينزلونه على ركبتيه بذل؟!






اتفوه على كل واحد مسؤول عن هذا المشهد!


نعود للموضوع.

هل استسلم عمر المختار؟ ربما الأجدر أن نسأل: هل من المعقول أن يستسلم عمر المختار؟! الإجابة بلا أي شك هي: لا، لم يستسلم.

ولكي نكون موضوعيين، ولكي لا يقال إن حبي لعمر المختار يؤثر علي، دعونا نعود لثلاثة مراجع مهمة ألفها معاصرون لعمر المختار.

أول مرجع هو كتاب "عمر المختار: الحلقة الأخيرة من الجهاد الوطني في ليبيا" للشيخ الطاهر الزاوي. صحة بعض معلومات هذا الكتاب أثارت جدلاً وأدت لقضايا وحتى لتعديله (وقد رد عليه الشيخ محمد الأخضر العيساوي في كتاب "رفع الستار"، وللأسف استغل القذافي كتاب الشيخ الزاوي لما فيه من نقد للسنوسيين وتغيير لبعض الحائق). ما يهمنا الآن من الكتاب هو ما ورد فيه عن حادثة القبض على عمر المختار.




لا يذكر الشيخ الزاوي تفاصيل كثيرة، يقول فقط: "وقتل حصان السيد عمر فوقع به على الأرض وجُرح هو. وبينما هو يحاول النهوض إذ رآه أحد الجنود فتقدم إليه وقبض عليه." (ص161). لا يورد معلومات كثيرة، ولكن قتل حصانه نقطة يتفق عليها الجميع، وأهم ما لدينا هنا هو قوله "يحاول النهوض"، وسنرى لماذا.

المرجع الثاني المهم جداً هو كتاب "برقة الهادئة" للجنرال الإيطالي رودولفو غرازياني، الذي اشتهر في مستعمرات إيطاليا الأفريقية (ليبيا، إيريتريا، أثيوبيا، الصومال) بلقب السفاح لدموتيه، والذي نجح في قمع المقاومة الليبية بهذه الدموية. 

يروي غرازياني تفاصيل أكثر عن اعتقال عمر المختار.




يذكر غرازياني تقرير القبض على عمر المختار، وأن الشيخ قد روى تفاصيل القبض عليه: "بعدما ضُرب جواده وسقط به على الأرض، جُرحت يده اليمنى ما سبب له بعض التشقق في عظام، ورغم هذا الألم حاول جر نفسه ليبتعد ويختفي في إحدى شجرات الغابة ولكن فرقة الفرسان حالت بينه وبين غرضه..." (275). في التقرير ذاته يُنقل عن عمر المختار قول لعلّه مهمٌّ لكلامي الآن: "لم أفكّر في يومٍ من الأيام أن أُسلّم نفسي لكم مهما كان الضغط شديدًا، ولكن مشيئة الله أرادت هذا فلا راد لقضاء الله." (ص276).

إضافةً إلى معلومة قتل حصان شيخ الشهداء وسقوطه، يسجّل غرازياني معلومات جديدة مهمّة، حيث يتضح لنا أن إصابة الشيخ (التي ذكرها الطاهر الزاوي أيضًا) كانت في يده. ثم نجد سردًا مختلفًا قليلًا لمشهد القبض عليه، حيث يُقال إن الشيخ "حاول جر نفسه ليبتعد"، وهو بلا شك تفصيل مختلفٌ عن "يحاول النهوض". 

ثمّة معلومات أخرى مهمّة يذكرها غرازياني في سياق سرده للحوار الشهير الذي دار بينه وبين شيخ الشهداء (وقد دار الحوار بحضور مترجم طبعًا، وليس مباشرةً بينهما كما عُرض في الفيلم). 

يصف غرازياني هيئة عمر المختار حين أُدخل عليه، ويُعلّق على هيبته "رغم الكسور والجروح التي أصيب بها أثناء المعركة" (ص279)، فإصابات الشيخ إذن كانت على قدرٍ كبير إلى حدّ أن أثرها عليه يُلاحظ. على مدى حوارهما، كان غرازياني يحاول إفحام عمر المختار بمنطقه الاستعماريّ: تؤدي بشعبك إلى التهلكة، ترفض الهدنة، تخدم السنوسيّة لا وطنك أو دينك، إلخ. ومن بين حماقات غرازياني التي تفوّه قوله لعمر المختار إنه ضيّع أي فرصة لنيل رحمة وعفو الحكومة الإيطاليّة الفاشيّة! فردّ عليه عمر المختار بأن ذلك "مكتوب!"، وأنه عندما وقع جواده وأُلقي القبض عليه كانت معه ست طلقات وكان في استطاعته أن يستمر في القتال فيقتل كلّ من يقترب منه أو يُقتل.* وحين سأله غراتزياني لماذا لم يفعل؟ ردّ شيخ الشهداء لأن هذا كان قضاء الله. وهنا يعلّق غراتزياني: "ولكن قد تحقّق فيما بعد إلقاء القبض عليه كانت بندقيته فوق ظهره، وبسقوطه على الأرض لم يستطع نزعها وبالتالي لم يتمكن من استعمالها بسرعة، وكذلك من أثر الجروح والكسر الذي بيده اليمنى..." (برقة الهادئة، ص281-282؛ وأيضًا الأشهب (مرجع سيأتي) ص151). 

يطرح تعليق غراتزياني بعض الأسئلة:

إذا كانت إصابة عمر المختار في يده لماذا لم يقف ويبتعد ويختبئ؟

هل الإصابة في اليد أو الذراع تمنعه من الوقوف؟!

لماذا يقول الشيخ الزاوي إنه كان يحاول النهوض وينقل غراتزياني أنه حاول جر نفسه؟

وذات السؤال يمس تناول بندقيته، هل إصابة في يد هذا المقاتل المغوار تمنعه من الوصول إليها؟!

الإجابة على كلّ هذه الأسئلة نجدها في المرجع الثالث المهم، كتاب "عمر المختار" للسيد محمد الطيب بن إدريس الأشهب، الذي يورد معلومة تملأ الفراغات: حصان عمر المختار حين قُتل وقع عليه!




يصف الأشهب كلّ تفاصيل خروج عمر المختار رفقة بعض المجهادين في جولة استطلاعيّة، ووشاية بعض الخونة بموقعهم للإيطالييّن، وحصار المجاهدين، واشتباكهم مع الإيطاليّين ومحاولة الانسحاب: "وتهيأ المجاهدون للخروج من المأزق لولا أن وقع الحادث المؤلم، حادث إصابة السيد عمر المختار بجراحٍ في يده، كما أُصيب في نفس الوقت فرسه بضربة قاتلة فوقع الفرس، ومن سوء الصدقة حصلت يده السليمة تحت الفرس فلم يتمكن من سحبها، ولم تسعفه يده الجريحة، وهكذا أصبح مقصوص الجناحين، يد مصابة وأخرى لا تستطيع الحراك لأن الفرس وقع عليها، وذلك بالإضافة إلى آثار الشيخوخة، والضعف الذي اعترى جسمه من تتابع المتاعب، عدا صدمة الوقوع فوق الأرض الحجريّة الصلبة مشتبكًا بجواده..." (ص145). وقد انتباه المجاهدون للشيخ العالق، فتركوا انسحابهم وعادوا ليحاولوا إنقاذه: "والتفت البطل بن قويرش فرأى الموقف المحزن وصاح في رفاقه الذين ابتدءوا يشقون الطريق للخروج قائلًا: "الحاجة اللي تنفع عقبت" (أي تخلّفت)، فعادوا يدافعون عن السيد عمر ولكن رصاص الأعداء حصد أغلبهم وكان ابن قويرش أوّل من صُرع وهو يحاول إنقاذ عمر المختار." (ص145).

وهكذا يتضح كل شيء: لماذا كان الشيخ يحاول النهوض، ويحاول أن يجر نفسه؟ لماذا لم يستطع الهرب؟ وإن لم يستطع الهروب لماذا لم يستطع حتّى تناول بندقيته ومتابعة القتال؟ لماذا لم يستخدم الطلقات الست المتبقيّة؟ لأن حصانه قُتل وسقط عليه، لأنه علق... عمر المختار لم يستسلم، ولكن قُبض عليه لأنه كان مصاباً وعالقًا... وكلّ ذلك مكتوب!

يا إلهي كم يضايقني هذا المشهد! الفيلم مشهور ورائع، يعني فعلاً جميل وفيه تمثيل ممتاز ويوضّح الكثير من فظاعات الاستعمار الإيطاليّ ودمويّته، لكن الأخطاء التاريخيّة تشوهه! وتنشر معلومات خاطئة عجيبة وترسّخها حتى تصبح حقيقة لا يعرف الناس غيرها، ويتوهمون أن عمر المختار استسلم بذلٍ وهوان!

ولكن عمر المختار لم يستسلم!

لقد بقي أسداً حتى وهو في الأغلال.


وأتى الأسير يجر ثقل حديده     أسدٌ يجرجر حيةً رقطاء


سبقت لي الكتابة عن هذا الموضوع في مقالة قديمة، ثم كتبت عنه في تويتر في ذكرى استشهاده منذ بضع سنين (كتابة ما زالت موجودة، وهي أساس هذه التدوينة فقد أفرغتها فيها منذ بضع سنين)، والآن، مع ذكرى استشهاده، رأيت العودة إلى هذه التدوينة ببعض التنقيح وبإضافة اقتباسات ومراجع واضحة، لعلي أصحح معلومة أو أنشر أخرى عن هذا الرجل العظيم.

ورحمة الله عليك يا سيدي عمر.



* ترجمة كلام عمر المختار عن أسره، في حواره مع غراتزياني، تبدو غير دقيقة في كتاب "برقة الهادئة" (الترجمة بصفة عامّة فيها مشاكل تحتاج دقيق، كما هو واضح من بعض الاقتباسات الواردة أعلاه)، وقد تكون عدم الدقة ناتجة من تسجيل غراتزياني للحوار. أبرز مشكلة في المقطع كما ورد في كتاب "برقة الهادئة" هو قول عمر المختار أنه كان باستطاعته أن يقتل من يقترب منه أو يقتل نفسه، وهو كلام من الواضح أنّه لا يتّسق أبدًا مع عقيدة الشيخ ومبادئه. في كتاب الأشهب يُنقل بعض مما دار في ذلك الحوار، وذلك المقطع من الكلام يورد بصيغة أكثر منطقية وهي "أن أقتل الجندي الذي أسرني أو أُقتل". ولذلك أثرتُ هنا خلط المصدرين ونقل الكلام بتصرّف دون اقتباس مباشر.

المراجع (حسب ترتيب ورودها في التدوينة):

- عمر المختار: الحلقة الأخيرة من الجهاد الوطني في ليبيا. الطاهر الزاوي. دار المدار الإسلامي. بيروت. ط2. 2004.

- برقة الهادئة. رودولفو غراسياني، ترجمة إبراهيم سالم بن عامر. دار مكتبة الأندلس. بنغازي. ط3. 1980.

- عمر المختار. محمد الطيب بن إدريس الأشهب. مطبعة محمد عاطف. القاهرة. دون رقم طبعة. دون سنة.


تعقيب على تدوينة عدم استسلام عمر المختار

 

عدتُ لهذه التدوينة التي نشرتها بتاريخ 16 سبتمبر 2018. عدّلتُ بعض ما التقطته من ركاكة وأخطاء لغوية (طالب مش نجيب، لكن يحاول!)، وضبطتُ صياغة بعض الجمل، وأضفتُ المراجع بالاقتباسات والصفحات، أحفظ المعلومات جيدًا ولكن لا ضرر من وضع المرجع لئلا أضطر دائمًا للبحث عن الكتب لأؤكّد كلامي!

أمضيتُ ساعات أُعدّل التدوينة، ويعلق الكمبيوتر، ثم يفسد عرض الكلام، ثم ينقفل متصفّح أحد الكتب، والمهم قصّة، لكنه عملٌ ممتع لقناعتي بأهميته وجدواه وصدقه وصحّته. ومع ذلك، وجدتُ نفسي أتساءل وأنا أُمضي ساعاتٍ أضبط مقالة أطول جزءٍ فيها يتعلّق بمشهدٍ عابرٍ في فيلم قديم، مشهد لا يهتم به أحد ولا يتحدّث عنه أحد. حتّى في ليبيا مثلًا، مع تداول قصص كثيرة عن عمر المختار، أشهر ما يُنقل عن لحظة القبض عليه الكلام عن خيانة الليبيين المتعاونين مع الإيطاليين (أو "الصواري"). ولكن لا أحد يناقش أو يتكلّم عن استسلامه من عدمه. لعلّ الأجدر كان أن أتعمّق أكثر في بيان دور قادة آخرين في مقاومة الاستعمار، فهذا تاريخٌ لا يخلو من إثارة جدل وعصبيات؛ لعلّ الأجدر كان أن أُفصّل أكثر في تاريخ السنوسيّة، فهذا تاريخٌ مكتوم يكاد يضيع. لا، لقد اخترتُ أن أبحث وأحلّل وأوثّق مشهدًا لا يتحدّث عنه أحد.

ربّما حين نتفرج على المشهد، لا يبدو الأمر سيئًا فعلًا. يتردد عمر المختار في قتل الجندي الشاب، لعلّ ذلك يدل على رحمته وتعاطفه (رغم أن بعض المصادر تشير إلى جلد الشيخ وحتّى قسوته في مقاتلة الطليان). ثم، حين يحوّط تمامًا بجنود الاحتلال، فالمشهد يائس تمامًا، كان سيُقتل فورًا إن رفع بندقيته (لا سيما أن الإيطاليين حين قبضوا عليه لم يدركوا أوّل الأمر أنهم قبضوا على عمر المختار). لعلّ الخيار كان دراميًّا بالدرجة الأولى، لنَقل شعورٍ بالأسى ربّما لم يكن ليُنقل بذات التأثير إن صوّر المشهد الشيخ عالقًا تحت حصانه، يتقدّم إليه جندي إيطالي ببطء ويقبض عليه.

فلماذا يضايقني المشهد كثيرًا إن كانت ثمّة تبريرات "دراميّة"؟

ربّما، من ناحية، لأن التبريرات الدراميّة غير مقنعة أصلًا، لأنها غير متّسقة مع شخصية عمر المختار. وربّما – كما هو واضحٌ من كلامي في الأعلى! – عشقي الكبير لهذا البطل العظيم يجعلني أكره هذا التغيير في حقيقة ما حدث وما يعنيه: صورة "البطل يستسلم مهزومًا" لها وقعٌ مختلفٌ تمامًا عن صورة "البطل يُقبض عليه مرغمًا".

لا أذكر متى استفزني المشهد بالضبط، أذكر أن ذلك حدث منذ سنوات، وأذكر حماستي وأنا أجمع المراجع وأجد لغزًا يقودني من مرجعٍ لآخر حتّى وجدتُ الإجابة. وربّما المفتاح هو في "الاستفزاز"، مظهر أنثوني كوين وهو يُنزل على ركبتيه أسيرًا منكسرًا تمامًا. كيف يتّسق هذا الانكسار مع ما سيقوله للإيطاليين لاحقًا؟ لم يفكّر يومًا في الاستسلام، تبقّت لديه ست رصاصات تحسّر على أنه لم يستطع استخدامها ومتابعة القتال. كيف ينكسر هذا الرجل؟

في كتاب "برقة الهادئة" بترجمة إبراهيم سالم بن عامر، يذكر المترجم موقفًا حدث في سجن بنغازي حين أُحضر إليه عمر المختار. يبدو أن الإيطاليين، من باب التحوطات الأمنيّة، قد غيّروا حرّاس السجن وموظفيه حين أحضروا إليه الشيخ (فقد كان بينهم ليبيون). وحين مرّ آمر السجن أمام زنزانة شيخ الشهداء، وجده قد جلس على الأرض مستندًا إلى الجدار ومادًا قدميه. يبدو أن مدير السجن لم يعجبه ذلك! وحين لم يستطع محادثة عمر المختار لأنه لا يعرف العربية، أحضروا مترجم الكتاب من زنزانة أخرى (فهو الآخر كان معتقلًا في ذات السجن)، وطلبوا منه أن يترجم سؤال المدير عن سبب جلوس عمر المختار في هذا الموضع، يقول المترجم: "فسألت الشهيد، فأجاب بصوتٍ هادرٍ كالأسد الهصور: قل له أنا أعرف أين أجلس، لا يحمل همًا فهذا ليس من شأنه. فترجمتُ الكلام فانصعق المدير واصفر وجهه وقال هيا ارجع إلى مكانك بلهجة الأمر، غير أن قلبي كاد يطير من جسدي فرحًا عندما سمعتُ هذه الإجابة القاطعة. رحم الله عمر المختار كم كان عظيمًا وهو قائد وأعظم وهو أسير." (حاشية "برقة الهادئة" ص274-275).

هذا الأسد يستسلم؟!

ومع ذلك، ما زلتُ لا أعلم لماذا انشغلتُ بهذا التفصيل في الفيلم أكثر من غيره. صوتٌ في رأسي يقول لي: لعلّك تدرك خطورة هذه التغييرات الطفيفة، هذه الأوهام التي تُمرّر دون أن ينتبه أحد. دور الشيخ القيادي نُوقش كثيرًا وسجّل كثيرون مجهودات الآخرين في المقاومة، تاريخ السنوسيّة له مسجّلون ومروّجون، لكن هذا المشهد ينسلُ عبر الشاشات دون مراجعة. أهذا السبب؟ مراجعة تاريخيّة؟ صوتٌ آخر يقول ربّما هو توجّسك من أي تغييرٍ في هذا الفيلم المرتبط كثيرًا بالقذافي وأجنداته في تغيير التاريخ. هل أراد القذافي تغيير صوت البطل المقاوم لآخر نفس، ولو تغييرًا طفيفًا؟

لا أعلم...

ولكن لعلّ الصوت الأخير ذاك فيه شيءٌ ما. لعلّ السبب هو ما يعنيه الاستسلام، ما فيه من انكسار، من يأس، من تشاؤم، ما يقوله مشهد الاستسلام عن العالم، عن الكفاح: سوف تُهزم، لا تقاوم، لا تقاتل، اقبل مصيرك. نعم، كل شيء مكتوب، نرضى بقضاء الله وقدره، ولكن نأخذ بالأسباب أيضًا! نعرف بالضبط كم بقيت لدينا رصاصة، ونتحسر لأننا لم نطلقها! نجلس حيث نشاء ونقول للجميع نعرف أين نجلس وهذا ليس شأنكم. لا استسلام في أسر عمر المختار، بل استمرارٌ في المقاومة لم ينقطع إلى آخر لحظةٍ ارتقت فيها روحه. وربّما هذا ما ضايقني كثيرًا، هذا التغيير الدرامي الذي يسلب منا حقيقة بطلٍ يجب أن نعدّه مثالًا يُحتذى.

ماذا نتعلّم من مشهدٍ يُنزل فيه بندقيته بعجز، يطأطئ رأسه منكسرًا، يُجرّده المستعمر الظالم من بندقيته ويُنزله على ركبتيه؟ العالم ظالم؟ الأبطال ينتصرون أحيانًا ولكن أغلبهم يُهزمون؟ نحن نعرف كل هذا!

ولكن، ماذا لو كان المشهد مختلفًا؟ ماذا لو اعتمد المشهد على ما ورد في المراجع والمصادر حقًّا؟

نرى المعركة. المجاهدون المحاصرون ينجحون في إحداث ثغرةٍ للانسحاب عبرها، يُسرعون، وابل نيران إيطاليّة يُصيب الشيخ ويقتل حصانه الذي يهوي به وعليه، نراه يصارع ليُخلّص نفسه من تحت حصانه، ينتبه رفاقه لتخلّفه، يصيح أحدهم "الحاج اللي تنفع عقبت!"، يهبّون نحوه ويسقطون بنيران الإيطاليين قبل أن يصلوا إليه، يرى اقتراب الإيطاليين منه فيحاول مد ذراعه المصابة لتناول بندقيته ويعجز، ذراعه الأخرى عالقة، يستمر في محاولات مد يده إلى بندقيته، يقع الجنود عليه، يجرّدونه من بندقيته، يرمقهم بنظراتٍ صارمة وهم يصوبون بنادقهم إليهم ويسحبونه من تحت حصانه، راضٍ بمصيره بحزم ولكن دون استسلام، يرفعه الجنود أسيرًا بين أيديهم، مصابًا ولكن غير منكسر، يأخذونه إلى تمركزهم مع بقيّة الأسرى، ربّما نرى بعض الأسى في عينيه وهو يمرّ على جثامين رفاقه الذين حاولوا إنقاذه، أحد الليبيين المتعاونين يقول إن هذا عمر المختار! لا يصدّقه الضابط الإيطالي، أيعقل أن يقع بين يديه قائد المقاومة الأبرز؟! مستحيل! فيقول لهم عمر المختار بنفسه، بحزم، بفخر، بتحدٍّ: أنا عمر المختار.  يقول لأسريه "لم أُفكّر يومًا في الاستسلام"، وكأنه يعلم أنهم سيحاولون قول ذلك، يعلم أنهم سيحاولون إقناعه بأن يدعو بقية المجاهدين للاستسلام. يقول لآمر السجن "أعرف أين أجلس، لا تحمل همًا فهذا ليس من شأنك". يقف أمام الجنرال السفاح بهيبةٍ تجعل الأخير يتعجّب من هذه الوقفة رغم كلّ الجراح والإصابات. يقول هو للجنرال "أريد الجلوس" متوجهًا نحو أحد الكراسي (عكس ما صوّره الفيلم أن غراتزياني عرض عليه الجلوس). يجادل الجنرالَ ويُصرّ على صحّة موقفه، على نُبل قضيته، أنه يجاهد من أجل دينه ووطنه. يحاول الجنرالُ إخافته: لقد فقدت كلّ فرصة في الرحمة أو العفو. فيقول له الشيخ بثبات: مكتوب! كانت عندي ست طلقات وكان بمقدوري أن أستمر في القتال أو أن أستشهد. فماذا ستفعلون بي أنتم غير ذلك؟ لن تفعلوا شيئًا لم يكتبه الله.

ماذا كنا سنتعلم من مثل هذه المشاهد؟ أن القضية العادلة لا تنكسر وإن هُزمت، لا تضيع وإن سُلب أبطالها. ربّما هذا سبب انزعاجي الأساسي من ذلك المشهد، أنه يمحو من شخصية شيخ الشهداء جانبًا نحتاجه جدًّا، بطولةً وصمودًا ويقينًا، صفات نحتاجها بشدّة في هذا العالم.

16 سبتمبر 2022


هناك تعليق واحد:

  1. ما شاء اللّه، جمع طيب لمعلومات أكرمتنا بها أكرمك اللّه وجزاك اللّه خيراً عن الشيخ البطل عمر المختار يرحمه اللّه ويغفر له ويتقبله في الشهداء ويلحقنا به في الفردوس الأعلى من الجنة برحمته وجميع موتى المسلمين.

    ردحذف