الأحد، 11 نوفمبر 2018

قصة قصيرة عن شيء ما...



وضعتُ مُخططاً لهذا اليوم. القليل من القراءة هنا وهناك، بعض الأعمال المنزلية، ربما بعض العمل، أشياء متفرقة، محاولة لمنح يومي هيكلاً يمكنني الالتزام به والبقاء ضمن حدوده الآمنة لكي لا أنزلق خارجه وأقع في أحراش الكآبة. خطيرةٌ هي براري الكآبة يا ابني، ولا أعلم من أنت ولا لماذا قلتُ لك "يا ابني"، ربما يجدر بي أن أقول لكِ "يا ابنتي"، ولكن هذه كلها حذلقة، وللمزيد من الحذلقة سأقول ما كل ما يتمنى الفئران والرجال يدركونه، والمخطط السابق انهار فوراً (تقريباً بعد نصف ساعة فقط!)، وها أنا ذا في براري الكآبة! أشرع في كتابة قصة!

ولكنني لستُ كاتباً ولا شيء من هذا القبيل، مجرد قارئ يتطفل بين الحين والآخر على عالم المترجمين (آسف يا سيداتي وسادتي الكرام!)، ومع ذلك أظن أنني أستطيع كتابة قصة بالقراءة والترجمة وحدهما... كسل؟ ربما. سرقة أدبية؟ احتمالٌ كبير. زيرو إبداع؟ بلا شك. لماذا إذن؟ لأن الكآبة. والآن يجب رمي كل الأسئلة في كومة وإشعال النار فيها لنجلس حولها ونتدفأ ونسمع، حسناً أقصد نقرأ، لا لا، أقصد نسمع (خلاص، بدأنا بالخيال، نكمل بالخيال!)، لنسمع في حلقتنا الدافئة هذه القصة.

تبدأ قصتنا في حدود القرن السادس الميلادي...


1
هيونينغ

الشيخ هيونينغ هو الأب السادس (أو: البطريرك السادس)، أو ربما الإمام السادس لمذهب التشين في فرقة الماهايانا في الديانة البوذية. كلامٌ مُعقَّد. نبدأ من جديد: هيونينغ هو أحد أبرز رموز الديانة البوذية، يُوصف بأنه "الأب السادس"، وكانت له مساهمة كبيرة في فلسفات التأمل والوصول للاستنارة البوذية، ولد ومات ما بين سنتي 638-713م. وفي أحد الأيام (بلا شك بين سنتي ولادته ووفاته، منطق يعني) ألقى درساً من دروسه العميقة.

الريح كانت ترفرف عَلَم المعبد فبدأ راهبان مجادلة. يقول الأول العَلَم يتحرك، ويقول الثاني إن الريح تتحرك. تجادلا جيئةً وذهاباً ولكن لم يتوصلا إلى نتيجة. صادف أن الأب السادس كان يمر بجوارهما، فقال لهما: "ليست الريح ولا العلم، العقل هو الذي يتحرك".

فهل حققتم الاستنارة؟ همممم... أظن أنكم تظنون أنكم حققتم الاستنارة، فدعونا نسمع باقي القصة...

الثلاثاء، 25 سبتمبر 2018

لماذا يجب أن نقرأ لإدوارد سعيد؟


اليوم، 25 سبتمبر، ذكرى وفاة إدوارد سعيد، الذي غادر عالمنا سنة 2003. إدوارد سعيد مُفكرٌ مدهش، مثقفٌ مُلتزم، رجلٌ شجاع، مُحللٌ بارع، باحثٌ دقيق، ويمكنني أن أتظاهر بأنني اليازجي وأكتب فصلاً كاملاً من أوصاف المدح والتقدير تحت عنوان "مترادفات إدوارد سعيد"! ولكنني أرغب في أن تكون هذه كتابة قصيرة (أمر شبه مستحيل معي! ولكني سأحاول)، مجرد محاولة للتشجيع على قراءة إدوارد سعيد.

لماذا يجب أن نقرأ لإدوارد سعيد؟

إذا كنا من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا (وهو ما سأشير له بأنه "الشرق" من باب الاختصار لا الإقرار)، فإن إدوارد سعيد سوف يساعدنا على إزالة الصور الوهمية التي رسمها لنا الغرب (مصطلح آخر للاختصار) والتي – للأسف – يساهم بعض أهل الشرق في إعادة رسمها والحفاظ عليها. سوف يكشف لنا إدوارد سعيد وجود مؤسسة الاستشراق، وسوف يوضح لنا منهجية نقدية بحثية دقيقة لدراسة علاقات الهيمنة والخضوع والصراعات الثقافية المتخيلة، وسوف يفعل ذلك بشجاعة مدهشة والتزام صامد بمواقفه.

ولكن، ما هي مؤسسة الاستشراق؟
حين نقرأ لإدوارد سعيد سنُدرك وجود مؤسسة الاستشراق، التي لا يُقصد بها مؤسسة حقيقية، مبنى وشركة ومدير عام وموظفين! ولكن هذا وصف مجازي يُشير إلى ظاهرة موجودة ومستمرة، بالتحديد في تعامل الغرب مع الشرق من الناحية المدنية (الأكاديمية، الثقافية، الفنية، إلخ) ومن الناحية السياسية (السياسات الحكومية، الدبلوماسية، العلاقات الدولية، إلخ) (باستعارة مفاهيم غرامشي التي يستخدمها إدوارد سعيد كثيراً). ولكي نعطي مثالاً يُقرب الفكرة، يمكننا مقارنة مؤسسة الاستشراق بمؤسسة البطريركية (الأبوية)، أي ظاهرة الهيمنة الذكورية في العالم: لا يوجد شخص واحد أو جهة واحدة وراءها، ولكنها ظاهرة منتشرة وأفكارها النمطية التعميمية متغلغلة في كل جوانب الحياة؛ المرأة ضعيفة، المرأة ليست ذكية، المرأة لا تستطيع فعل هذا أو ذاك، المرأة تسيطر عليها عواطفها، إلخ إلخ إلخ، والنتيجة العملية أن المرأة بالرغم من كونها تمثل نصف المجتمع إلا أنها لا تؤدي دوراً في المجتمع يتوافق مع ذلك، فهي مثلاً لا تتولى نصف المناصب السياسية أو الإدارية في المجتمعات (في العالم كله، وليس في الشرق فقط، مع استثناءات هنا وهناك). هذا تأثير مؤسسة البطريركية التي رسخت مكانة الرجل العليا ورسخت صورة وهمية للمرأة تضعها في مستوى أدنى. نفس الشيء تفعله مؤسسة الاستشراق فيما يخص الشرق، من حيث نشر صور نمطية تعميمية وهمية عن الشرق، تؤدي إلى نتائج عملية في التعامل المدني والسياسي مع الشرق؛ فنرى صور الشرقيين في الأفلام والمسلسلات مثلاً دونية ونمطية وعبيطة، ونرى سياسات الدول الغربية تجاه الشرق (وبالأخص الشرق المسلم) عدوانية ودفاعية وتجريمية.

الأحد، 16 سبتمبر 2018

في ذكرى استشهاد عمر المختار الذي لم يستسلم


اليوم 16 سبتمبر، ذكرى استشهاد شيخ الشهداء أسد الصحراء الشيخ عمر المختار رحمه الله، أحد أبرز قادة الجهاد الليبي ضد الاحتلال الإيطالي، والذي أعدمه الاحتلال في مثل هذا التاريخ سنة 1931.

أريد في هذه التدوينة التحدث عنه قليلاً.



صورة يظهر فيها عمر المختار (أقصى اليسار) من بعض المفاوضات التي لم تنجح مع الإيطاليين (لرفض المجاهدين السلام مع الاحتلال).


قد يكون فيلم "أسد الصحراء" من إخراج الراحل مصطفى العقاد المرجع الوحيد (والأكثر شهرة!) لكثير من الناس. إنه بلا شك فيلم رائع بمعايير هولودية كبرى وفيه بعض أبرز نجوم هوليود في ذلك الوقت. ومع ذلك، في الفيلم أخطاء تاريخية كثيرة. لن أناقشها كلها، ولكن سأناقش ثلاثة منها.


قائد المقاومة الأوحد

أول تصوّرٌ خاطئ هو ظن البعض أن عمر المختار كان قائد المقاومة الليبية كلها. هذا بالطبع غير صحيح، عمر المختار رحمه الله كان من أبرز قادة الجهاد، وربما من آخر (إن لم يكن بالفعل آخر) من صمدوا في مواجهة الاحتلالولكنه لم يكن الوحيد.

كان عمر المختار في شرق ليبيا، وكان في جنوب وغرب ليبيا أيضاً مقاومة وقادة مثل الباروني والفكيني والسويحلي وسيف النصر وغيرهم. وحتى في الشرق لم يكن عمر المختار الوحيد، فكان يوجد غيره مثل يوسف بورحيل وعبدالحميد العبار.

الأحد، 15 يوليو 2018

تولستوي وصوفيا: بين الحقائق والأوهام


مقدمة

في الأيام الماضية أثير نقاش حول علاقة ليو تولستوي بزوجته صوفيا آندرييفنا... للمرة الألف بعد المليون يُثار نفس النقاش. زواجهما كان بلا شك معقداً ومن أشهر الزيجات التعيسة في تاريخ الأدباء والمفكرين. وبالرغم من أن هذا النقاش يُثار طوال الوقت لدرجة أنني أكاد أكتسب مناعة ضد الصرع الذي يصيبني به الموضوع بسبب خلط الناس بين الموضوعية وبين التحيز (لا توجد موضوعية في الاستناد إلى كلام صوفيا وحدها ونقد وشتم تولستوي دون الاطلاع على كل الوقائع! إنه ذلك الخطأ الشهير الذي يفترض بأن النقد يعني الذم وبأن الموضوعية تعني أن تشتم العظماء!)، بالرغم من ذلك فإنني هذه المرة أريد التعليق ببعض التفصيل على الأمر والرد على بعض ما قيل ويُقال عن الأمر. السبب الأول أنني دائماً أدافع عن تولستوي حين يقتضي الأمر الدفاع عنه، والسبب الثاني أن النقاش الذي أُثير في الأيام الماضية ارتبط أيضاً بالحديث عن ترجمة عربية لسيرة ذاتية كتبتها صوفيا سوف تُنشر عما قريب.

أريد أن أتوقف هنا لحظة، وأتساءل: هل من العدل أن تُنشر مذكرات صوفيا المليئة بعواطفها المتحيزة وكلامها الدفاعي ونقدها لزوجها دون أن تُنشر أيضاً مذكرات تولستوي التي تسجل معاناته؟ بل هل من الأولوية أن تتُرجم وتنشر المذكرات والمراسلات قبل أن تُترجم وتُنشر كتب سيرة جادة وموسعة عن تولستوي؟ ناهيك عن أن أعمال تولستوي الفكرية مازالت المكتبة العربية تفتقر لها. هنالك اختلالٌ حاد في أولويات دور النشر، ولا غرابة في ذلك، مذكرات تولستوي المتحفظة والمليئة بالتأملات والأفكار الأدبية والفلسفية والدينية لن تجذب القراء (والمُشترين!) بنفس الدرجة التي ستجذبهم بها مذكرات صوفيا التي (يا لهوي!) سوف تفضح هذا الرجل العظيم!

ولهذا قررتُ أن أحاول الكتابة عن الموضوع ببعض التفصيل، للرد على بعض الأخطاء والأوهام المتداولة وأيضاً لنشر نص أو بحث أو مقالة، بمراجع موثقة، تحاول عرض القصة كاملة، أو على الأقل تحاول بيان موقف تولستوي والدفاع عنه. العالم يُجن بسبب مقالة هنا أو فقرة في كتاب هناك، وينطلق البعض متحمسين لفضح تولستوي وكشف حقيقته الصادمة! فماذا سيحدث حين تُنشر مذكرات صوفيا؟! أظن أن كثيرين سيستمرون في فعل نفس الشيء: سيظنون أن الموضوعية والإنصاف تعني تصديق كل كلام صوفيا ووجهات نظرها وإدانة تولستوي وشتمه دون أن يتعبوا أنفسهم بالاطلاع على وجهة نظره. ولذلك، لعل هذا الكلام يُسقط الضوء على بعض التفاصيل التي يتجاهلها كثيرون.

ولأن الموضوع كبير وطويل ومعقد، ولأنني بصراحة أحب تولستوي جداً ومستعد لتأليف كتاب كامل عنه! وأيضاً لأن المراجع كثيرة وكبيرة ويمكن تحليلها بالتفصيل الممل (وهو ما لا يفعله جماعة: فضيحة تولستوي الصادمة!)، فإنني سأحاول الرد على بعض النقاط التي أُثيرت الأيام الماضية وبعض المراجع التي تم الاستناد إليها، وسأحاول قدر الإمكان توفير مراجع لما أقوله وذكر مصادر معلوماتي عن تولستوي – بعض المعلومات مشهورة ومنتشرة ولكن يكون هناك داعٍ لذكر مراجع لها، يعني لازم أحترم كسلي قليلاً!

وفي هذا السياق أود أن أذكر ملحوظتين: غالبية مراجعي (إن لم تكن كلها) باللغة الإنجليزية، والاقتباسات التي سترد في ما سأكتبه هي من ترجمتي الشخصية (حقوق النشر محفوظة!)، كما أنني سوف أستخدم أسلوب الإشارة للمراجع ضمن النص نفسه عوضاً عن إدراجها في الهوامش، وسوف أكتب الإشارة بصيغة مختصرة (عنوان مختصر، الصفحة)، فمثلاً كتاب Autobiography of Countess Tolstoy سأسميه اختصاراً "سيرة صوفيا"، فتكون الإشارة له (سيرة صوفيا، ص150)، وفي نهاية الكتابة سوف أضع قائمة بالمراجع وتفاصيلها.