القارئ
العربي في الأغلب يعرف عباس محمود العقاد، ويعرف طه حسين، ويعرف جبران خليل
جبران، وعلى الأرجح يعرف أيضًا مي زيادة. وإن سألته عن كتب العقاد؟ فربما يقول لك
أشهر ما كتب العبقريات. طه حسين؟ سيرته الشهيرة الأيام. جبران؟ النبي. ومي زيادة؟
آه.. كانت رائدة وما إلى ذلك، وكان يحبها العقاد وجبران والرافعي وكل من كان يقرأ
ويكتب من معاصريها! ألا تعرف شيئًا عن أعمالها؟ كانت.. أديبة مميزة، ومن الرائدات.
قرأتَ لها يومًا؟ قرأتُ مقالات عن صالونها الأدبي وحب كل أولئك العباقرة العظماء
لها. وهي؟ أين مي زيادة؟ يا عمي قلنا لك رائدة وأديبة! خلاص!
هذه
في الأغلب كانت سوف تكون ردة فعلي أنا نفسي منذ فترة. كلنا نعرف أن مي زيادة
رائدة، كلنا نعرف أن كثيرين من معاصريها ذابوا فيها عشقًا. كلنا نعرف أنها رائدة.
رائدة. رائدة. فهل نعرفها هي؟ كلا. وهنالك مجال كبير للحديث عن الهيمنة الذكورية
التاريخية وعن اقتران ذكر هذه المرأة بعلاقاتها مع الرجال! سيرتها تكاد
تُختزل في أن رجالًا أحبوها، على الأقل في الذاكرة الجمعية لقُراء العربية ذوي
الثقافة المتواضعة (مثل حالاتي).
وفي
مقابل هذه الذكورية المقيتة (أحلى تحية للنسوية) فإننا نجد أن لمي زيادة
من يدركون قيمتها ويدرسون أعمالها ويهتمون بنتاجها فعلًا، وليس فقط برسائل حب
جبران لها، وبعلاقتها بالعقاد.
على
كل حال، كنتُ أرغب في القراءة لها منذ زمن بعيد، وازدادت هذه الرغبة مؤخرًا (ربما
بسبب الصديقة المهووسة بها، أو ربما هي فقط تلك الرحلة التائهة بين الكتب والبحث
عن الكتاب التالي). وعلى كل حال وجدتني أقرأ كتابها سوانح فتاة – وهو متوفر
مجاناً على موقع مؤسسة هنداوي
(بصيغ pdf
وepub
وkindle)،
بالإضافة إلى عدد من مؤلفاتها
ومقالاتها.
موقع مؤسسة هنداوي رائع على فكرة فيه كمية كبيرة من الكتب الرائعة.
لقد
كانت تجربةً رائعة.. وقبل أن أتحدث عن الكتاب سوف أقول إنني أُوصي بقراءته لكلّ من
لا يعرف أو تعرف مي زيادة أو لم تتعرّف أو يتعرّف على أعمالها بعد.
حسناً،
ما هو سوانح فتاة؟ هو مجموعة نصوص كتبتها مي، خواطر، مقالات،
تأملات، وربما حتى قصص (أو مقالة/خاطرة قصصية)، ومسرحية. ويبدو من التواريخ التي
تحملها بعض النصوص أن مي كتبتها ما بين 1913 و1916، أي ما بين
26 و30 من عمرها تقريبًا (هذه ملاحظة مهمة جدًّا، فلنتذكرها جيدًا). حسنًا. هذا وصف
عاديٌّ جدًّا للكتاب. أعني، ماذا أقول أيضًا؟ في الأغلب طُبع الكتاب على ورق، أنا
قرأته إلكترونيًّا (الرابط موجود في الأعلى، لا تدعوا الفرصة تفوتكم!). آه، نعم،
الموضوعات. كلا هذا ليس مهمًّا. سأتحدث عن الدهشة!
أول
شيء، لغة مي، تبدو غريبةً قليلًا، ولا أعني غريبةً على قارئ في سنة 2017،
ولكن أعني بالنسبة لتلك الفترة. إن جازت لي مقارنة لغة مي بمعاصريها، فأظن
أنها كانت تجمع ما بين أسلوب أدباء نهضة مصر الجزل الرصين والكلاسيكي جدًّا، وما بين
أسلوب مدرسة المهجر الشاعري الحداثي. فهي لم تكن سهلةً مثل لغة أدباء المهجر
(أمثال جبران مثلًا)، ولكنها في نفس الوقت لم تدفعني للبحث عن قاموس لمعرفة معنى
هذه الكلمة أو تلك (مثلما يفعل بي العقاد وطه حسين أحيانًا!).
وأظن
أن هذا يمتد أيضًا إلى بعض كتاباتها التأملية، فهي تكتب بلغة شاعرية جدًّا، أحيانًا تبالغ في ذلك قليلًا، ولكن هذا يجعلني أشعر أن هذه الكتابات التأملية (مثل
التأملات الواردة في نصوص ذكرى قلعة بعلبك، وموعظة شهر الورود، وأجوبة
الفتيات، وغيرهن) كانت من حلقات
التطور في الأدب العربي، أو ربما إرهاصات الانتقال إلى كتابات أكثر روحانية وأكثر
عاطفية. وربما هذا تحليل غبي مني وأنا لم أقرأ إلا لثلاثة أو أربعة كُتاب من تلك
الفترة وأتخيل أنني أستطيع تحليل أدب الفترة كله! كل ما في الأمر أنني أشعر أن
أسلوبها كانت فيه لمسات التقدم نحو أدب جديد. ولكن، أتعلمون ماذا؟ هذا ليس مهمًّا،
فلو كانت تكتب بأسلوب الجاحظ فستبقى مُجددة عظيمة جدًّا.
مُجددة؟
كيف؟ من دواعي سروري أن أشرح لكم (من أنتم؟).
هل
تريد أن أشرح لك شيئًا حديثًا جدًّا في أسلوبها الأدبي؟ حسنًا، إنه شيء جميل، ورائع
أيضًا، ولم أكن أتصور أنني سأجده في كتاباتها. سخرية مي عظيمة. نعم، سخرية،
ونعم، عظيمة جدًّا! فهي مثلًا تَظهر باحتراف في مقالة الحركة بركة
التي أظن أنها نموذجٌ رائعٌ جدًّا على أدب النقد الاجتماعي الساخر. ولكن حدود سخريتها
ليست فقط في التهكم كما في مقالة الحركة بركة التي كانت تسخر (أو بالأحرى
تشتكي) من عدم أداء الشرطة لواجباتهم وكثرة السرقة كما يبدو.
أتوقف
هنا لحظة سريعة لأقول إن مقالات مي ونصوصها لها أهمية تاريخية جميلة في
تعريف القارئ بمشاكل وهموم عصر مي (وبالتحديد القاهرة في ذلك
الزمن).كانت مي متابعة دقيقة للشأن العام والسياسي والاجتماعي وكل شيء،
ولذلك مقالاتها لها قيمتها التاريخية، إضافة إلى قيمتها الأدبية والفكرية
طبعًا.
نعود
إلى السخرية. مقالتها الثانية ضمن أدب النقد الساخر هي بين الأدب والصحافة.
فلنقرأ الفقرتين التاليتين:
أصبح
الصحافيون زمرةً قويةً تخشاها الأرض ومن عليها، فهم ينتقدون القوانين، ويحاجون
الحكومات، ويسنون أوامرهم للبشر، ويبسطون آراءهم لأولي الحل والعقد حتى إذا شعروا
بأن الفكرة التي يبدونها بعيدة عن ذهن القارئ عمدوا إلى أسماء التحبب فدعوه تارة
"القارئ اللبيب" وطوراً "القارئ الكريم" وحينًا "القارئ
العزيز" إلى غير ذلك من النعوت الطيبة التي ترضي الجميع، فيقتنع القارئ بأنه
لبيب وكريم وعزيز، فعلى كل لبيب كريم عزيز أن يفكر أن ما جاء في المقال هو الحقيقة
بعينها.
أكتب
هذا وأنا أعض على سبابتي ضاحكة. لا تغضبوا يا سادتي الصحافيون. كلنا معترف بالخير
المتدفق من أقلامكم على من يقرأ ومن لا يقرأ جميعًا، وأشهد باحترام أن وجودكم
بيننا عنوان ارتقائنا، أليس كذلك؟ غير أني أريد أن أنصفكم فأقول: لئن كان كل منكم
القدرة المجسمة، فإن هناك شخصًا أقدر منكم لو اتحدتم جميعًا. لا تظنون أن الله هو
من أعني، بل هو بطل قلم الرقابة... هو الرقيب. (ص36-37)
تفضح مي الصحافيين، وتفضح ممارسة كتابة القارئ الكريم العزيز اللبيب (وهو شيء
أفعله كثيرًا، ولكن ليس لكي أستعطف القارئ، فقط من باب الأدب!)، وفي النهاية تقوم
بإسقاط الصحافيين من عرشهم بذكر الوحش المرعب: الرقيب!
وقبل
أن نكمل مع مقالة بين الأدب والصحافة أريد العودة بسرعة إلى مقالة الحركة
بركة، فهي يبدو أنها مكتوبة بعد مقالة بين الأدب والصحافة، وفيها تقول مي:
"أيها القارئ، لا بد أن أسميك اليوم لبيبًا، إذ لدي من الأقوال ما أود أن
تقبله بلا اعتراض، وأن تضحك له لا منه، لهذا لا بد أن تكون لبيبًا." (ص 43)
أعترف أنني ضحكت كثيرًا على مي وهي تكسر قاعدتها وتعترف بذلك لأنها تريد
من القارئ أن يقبل كلامها بلا اعتراض! يعني، ما هذا يا مي! من أين جاءت هذه
العبقرية وأين كانت مختبئة!
والأمر
لا يتوقف عند هذا الحد على فكرة. سخرية وتهكم احترافي، وسخرية عابرة
للمقالات تسترجع بعضها، وفوق هذه وتلك سخرية أبعد من ذلك. فلنقرأ التالي، أول فقرات بين
الأدب والصحافة:
تساءل
مستر يرسي هوايت في إحدى محاضراته الأخيرة بالجامعة المصرية: هل الأدب والصحافة
واحد؟ وما لبث أن أجاب نفسه قائلًا: كلا ليسا واحدًا. قد تلامس الصحافة الراقية،
في بعض موضوعاتها، المعاني الأدبية العالية فتوسم بوسمها وتؤثر تأثيرها، لكن
الصحافة، بوجه الإجمال، تختلف عن الأدب من حيث الغرض والمرمى والتأثير".
بينما
كان الأستاذ يبسط رأيه كنت أضاحك نفسي قائلةً: قد يكون هذا رأيكم أيها الغربيون،
لكن الأمر عندنا على غير ما تذكرون. عندنا إذا كتب المرء مقالات قليلة في الزراعة
مثلاً، حاز دفعةً واحدة جميع الألقاب الكتابية المدونة في القاموس فأصبح: كاتبًا مجيدًا، أديبًا أريبًا، مفكرًا مبتكرًا، شاعرًا فذًّا، خطيبًا مفوهًا، سياسيًّا محنكًا،
عالمًا علامة وبحرًا فهّامة. وإذا أردت معرفة ألقابه الأخرى فعليك "بنجعة
الرائد" لليازجي صفحة 2 الباب السادس من الجزء الثاني. (ص 35).
شخصياً،
قرأت الفقرة، ضحكت، أعجبني اختيار مثال "مقالات قليلة في الزراعة"، وبلا
شك وافقت تمامًا على ما ذكرته من حصول الكاتب على جميع الألقاب الكتابية بمجرد كتابته أي شيء. ثم تساءلت عن كتاب "نجعة الرائد" الذي تُحيل إليه. تركتُ سوانح
فتاة جانبًا، وذهبت إلى غوغل، وجدتُ كتاب اليازجي (الذي اتضح أنه كتاب للمترادفات!)،
بحثت عن الجزء الذي تُشير إليه مي. وانفجرتُ ضاحكًا من جديد! هل تعلم ماذا
يوجد فيه؟ يوجد فيه أكثر من خمسين صفحة من مرادفات وصف العالم والأديب والمؤلف
والبليغ والفصيح والشاعر و... و... و... 50 صفحة! معقول هذه السخرية يا مي؟
معقول هذه السخرية الحداثية؟! ونعم! حداثية جدًّا، فكرة أن تترك نكتة غامضة للقارئ،
أن تُحيله إلى مزحة، إلى فخ، إلى خدعة تزيد من سخريتك وتهكمك على أولئك الكتاب
المزيفين.
وكل
هذا كوم، والمثال القادم كوم!
في مقالة رسائلنا
اليوم وبالأمس وبعد جملة قد تكون خطيرة قليلًا في انتقاد المسؤولين، تكتب مي
الفقرة التالية:
أسمعك
مزمجرًا يا سيدي الرقيب، وقد اقترب قلمك من جملتي هذه يقصد الفتك بها، فأصغ إلي
غير مأمور، لا أنت جندي ألماني ولا أنا جندي فرنسوي ولا هذه الصفحة كنيسة ريمس؛
فكن حليمًا ولا تحذف منها شيئًا. ثم أرجو أن تذكر أني بدأت تلك الجملة بكلمة
"لو"، وهل أنت من يخفى عليه قول الفرنسويس بإمكان وضع باريس في زجاجة
إذا ما استعملت كلمة "لو"؟ ولا أظنك محتجًّا على وضع باريس في زجاجة، على
شريطة أن تكون الزجاجة غير ألمانية تُملأ بالغازات السامة. وإني لموافقة على ذلك.
وكل هذا الكلام أقوله لأنسيك شطب تلك الجملة الأثيمة، أنساكها الله! (ص 19)
لا أعرف كيف أُعلق على هذه الفقرة. أعني... ما هذا؟! هذا يكاد يكون أسلوبًا ميتا-أدبي، أسلوب حداثي بامتياز! معقول؟! معقول هذه الحداثة وخفة الدم؟! ولا أحد
يحدثنا عن ذلك! كل ما يتحدثون عنه: كان يحبها العقاد وجبران والرافعي ومليون رجل
آخر، كانت رائدة، هذه صورتها المشهورة، ماتت وحيدة في مصح. يا ناس حرام عليكم أين
كل هذا الإبداع؟! الأدب الساخر ليس أدبًا سهلًا، وكسر حدود زمنها وتجاوزه بمثل هذا
الإبداع ليس شيئًا هينًا يمكننا تجاهله! هذا الأسلوب كتبت به في سنة 1915، ألف
وتسعمية وخمسطاش!
وهل
تعلم أيها القارئ (بلا عزيزي ولا حبيبي)، هل تعلم أن هذا ليس كل ما تجاوزته مي
بحداثتها وبسبقها لزمانها؟
اقرأ
مثلًا مقالة في محكمة الجنايات لترى كيف تنقلب مقالة عادية تصف فيها دخولها
إلى المحكمة ومشاعرها وما تراه إلى مقالة هلوسية تترأى لها فيها المحاكم والقضاة
والمتهمين على مدى الزمان والمكان. حين قرأتُ هذه المقالة قلتُ يا إلهي إنها تحتاج
لأن تكون فيلمًا قصيرًا، أو حلقةً في مسلسلٍ عجائبي. شيء ما يبدأ بهدوء شديد، يصف
أزياء الحراس وأزياء القضاة ونافذة في المحكمة وسقفها وهيئة المتهمين في قفص
الاتهام ثم فجأة تنهار جدران المحكمة وتبدأ الرؤى في التتابع وكأنّ مي غادرت
في رحلة كونية عابرة للزمان والمكان.
أو
اقرأ عائدة تتذكر لترى تحليلًا نفسيًّا عجيبًا في السرد سابقًا لزمانه في
الأدب العربي، أو اقرأ "سعادة" ملك اليونان أو زواج الملوك
لترى مي تتسلسل خلف مسرح الأحداث العالمية وتلتقط تفاصيل صغيرة: هل فكرنا
في أن "سعادة" ملك اليونان بعودته لبلاده وعرشه تعني ضمنيًّا أنه سعيد بموت ابنه الذي
كان قد تولى الحكم؟ إن موت ابنه هو ما سمح له بالعودة! هل فكرنا في خطيبة ذلك
الأمير الذي ملأ الأخبار بسعادته بالعودة إلى بلاده وتحمل واجباته الملكية وزواجه
من أميرة أخرى، ونسى العالم أنه كان قد خطب امرأةً من "العوام" يريد
زواجها، فهل يتذكر أحد تلك الخطيبة المكلومة؟ أو اقرأ حكاية السيدة التي لها
حكاية لكي ترى كيف تكتب مي المقالة-القصة ببراعة، بتشويق، برسالة
اجتماعية حقيقية. أو اقرأ ساعة مع عيلة غريبة لترى كيف أتقنت مي
تمامًا كتابة هذه المسرحية، بكل عناصرها: الحوارات غير المملة، الشخصيات الواضحة
(التي قد تكون نمطية قليلًا)، اللهجة العامية بين الحين والآخر، والعبرة. أي شخص
لطالما انعزل في غرفته ولجأ إلى الكتب، أي شخص عاتبه أهله على عزلته هذه ودفنه
لحياته بين الورق وعاتبوه ليخرج وينطلق ويعيش وحتي يصيع! أي شخص مر بهذه التجربة
سوف تعجبه المسرحية. تبدع مي بأساليب أدبية متعددة وتكاد تسبق زمنها
بعقود!
نعم،
هذه ليست مجرد سوانح فتاة، ليست مجرد خواطر لفتاة صغيرة رقيقة لطيفة لا
تفهم شيئًا، كلا، إنها كنوز أدبية واجتماعية وفكرية لامرأة عظيمة.
ونعم،
فكرية أيضًا. إن كانت عبقرية مي لم تتضح مما سبق وذكرته باندهاش عن
أسلوبها الأدبي، وسخريتها الحداثية، ومواكبتها للأحداث، فإن لـمي أيضًا ذهنًا متوقدًا.
في مقالة إلى حضرة ب.ر. (المؤرخة 1915) ترد على شيطنة "ب. ر." للعلم، حيث
اعتبره نقيضًا للدين ومصدرًا للكثير من الوحشية والهمجية كما يحدث في الحرب
العالمية الأولى. ترد مي فتقول: "فإن استعمل الألمان وسواهم العلم
وبذلوا كل ما لديهم من معرفة وحيلة في سبيل قهر أعدائهم، فهل هذا يعيب العلم؟ الطب
عائد بالخير على الإنسانية، فهل إذا دس طبيب لعليله السم لغرض من الأغراض فسدت
منفعة الطب ووجب علينا أن نحسبه من حيث طبيعته شرًّا؟ هذا العلم الذي هو آلة شر
وفناء في يد ألمانيا وغيرها الآن كان وما زال آلة خير وحياة في يد ألوف من الأفراد
وعشرات من الشعوب. لذلك لا يتحتم أن يكون المؤمن جاهلًا، فالدين شيء والعلم شيء
آخر. الدين مهذب شخصيتنا المعنوية والعلم ضرورة من ضروريات حياتنا. هذا للزمان
وذاك للأبدية، وليس لأحدهما أن يلاشي الآخر." (ص30). إنها وجهة نظر عقلانية
حديثة، ومن المؤسف أننا مازلنا نخوض نفس المعارك الفكرية التافهة حول صراع الدين
والعلم إلى يومنا هذا، ومن المؤسف أن مي وكثيرين غيرها قد أعطونا الإجابة
منذ سنة 1915 وحتى قبلها، ولكننا ما زلنا نحمل السؤال على ظهورنا ونضرب بعضنا
بعلامات الاستفهام المسننة!
لا تتوقف مي عند ما سبق، فهي تقول أيضًا في ذات المقالة كلامًا رائعًا عن الدين:
أعتقد
أن الدين علاقة سرية بين الخالق والمخلوق، أعتقد أن كل امرئ يلاقي نتيجة أفعاله
ولا يتحملها عنه أحد، أعتقد أن الله منح البشر حريتهم – اسمح لي أن أذكر الحرية
بلهجة غير لاهوتية – فعلى كلٍّ أن يرى وجهة الخير أمامه، ويعبد ربه ويخدمه كيفما
شاء؛ ما دام الله سامحاً بذلك، لماذا لا يسمح به الناس؟ (ص30-31).
هل
تظن أن هذا الكلام سابق لعصره نسبيًّا؟ حسنًا، دعني أعطيك المزيد والمزيد، ولنقرأ
ما يلي حول التربية من مقالة قتل النفوس (1913):
إنما
التربية ترمي إلى غاية واحدة هي توسيع دائرة الحياة وتأهيل الفرد للسير بحذق
والتصرف باعتدال بين تشعب الشئون مستخرجاً وسائل السعادة والفائدة مما يحيط به،
فإن لم تكن هذه الغاية نصب عيون الوالدين ولم تثقف الناشئة على مبادئ التهذيب
القويم فقدت آمالنا بالمستقبل القريب. وأول قواعد التهذيب معرفة الواجب، وشرط
معرفة الواجب الشعور بالحرية. (ص17)
التربية
ليس هدفها القمع والضغط على الأبناء والبنات وسجنهم في أسلوب حياة معين، ولكن
هدفها التأهيل لمواجهة الحياة. والجملة الأخيرة: "شرط معرفة الواجب الشعور
بالحرية" هي جملة عظيمة جدًّا جدًّا، جملة نحتاجها ليس فقط في التربية، ولكن في
الدين، وفي المجتمع، وفي كل شيء. تتحدث مي أكثر عن الحرية، عن حرية
المرأة، حرية الأم، وتقول كلامًا في سنة 1913 مازلنا نحتاج لسماعه
في سنة 2017!
كل
امرئ يحيا حياته وعليه أن يجد طريقه بين متشعب المسالك، وهو مسئول عن كل عملٍ
يأتيه ويتحمل نتائجه؛ إن فائدة وإن أذى، فالفتاة التي اعتادت الانقياد لآراء
والديها وعجزت عن إتيان عملٍ فرديٍّ تدفعها إليه إرادتها بالاشتراك مع ضميرها، ما
هي إلا عبدة قد تصير في المستقبل "والدة" ولكنها لا تصير
"أُمًّا" وإن دعاها أبناؤها بهذا الاسم، لأن في "الأمومة"
معنىً رفيعًا يسمو بالمرأة إلى الإشراف على النفوس والأفكار، والعبدة لا تربي إلا
عبيدًا. (ص17)
يا
إلهي يا لها من فقرة رائعة! "العبدة لا تربي إلا عبيدًا"! ومن جديد، نفس
رد الفعل الذي تكرر معي كثيرًا أثناء قراءة الكتاب: معقول يا مي؟! أين كان
كل هذا مخفيًا؟! لماذا لا نقرأ هذا الكلام ونحفظه؟! لماذا لا يتحدث أحد عن هذه
العبقرية الفكرية؟! هذه العقليات المتقدمة كانت نادرة بين رجال ذلك العصر وهم
يحترفون الكتابة والفكر ناهيك عن نساء ذلك العصر المُبعدات عن هذه المجالات! تحلل الأمر نفسيًّا، تذكر ضرره الاجتماعي، تتحدث عن المستقبل، تقدم حلًا حقيقيًّا، تطالبنا
بالتخلي عن سوء الظن الذي يسبق كل أحكامنا وتصرفاتنا:
تربيتنا
الناقصة جعلتنا نسيء الظن في كل شخصٍ وفي كل أمرٍ. ريح سموم تهبُّ على المجتمع
فتصبع الجو وما يحويه بلونٍ قاتمٍ خبيث. ولو أنصف الناس لحكموا على بعضهم بعدلٍ
وصدق فأراحوا واستراحوا. الخير أصلٌ في الحياة وليس الشرُّ شرًّا إلا لأننا أشرار،
ولا ظلام حولنا إلا الظلام المنبثق من شكوكنا وأحزاننا ومطامعنا.
احتياجنا
شديد إلى مثل هذه الكلمة "ثقوا بالإنسان!" (ص18)
ثقوا
بالإنسان. ثقوا بإنسانية أبنائكم وبناتكم. ولا تنسى أيها القارئ الإنسان أن
الإنسان يبدأ في التكون بين يدي الأم، الأم التي لو كانت عبدة فلن تربي إلا
عبيدًا، ولذلك تقول مي بصوتٍ عالٍ في ختام هذه المقالة الرائعة:
ثقوا
بجوهر المرأة، ثقوا بابنة اليوم تجدوا أبناء الغد أهلًا للثقة. (ص18).
ثقوا
بجوهر المرأة. ثقوا بجوهر المرأة لتدعموها في تكوين نفسها فتدعمون بذلك تكوين الأجيال
القادمة.
بصراحة
أظن أنني استنفدت دهشتي وتعجبي من عبقرية هذه المرأة. من الأشياء المثيرة
للسخرية المريرة أن أول نص في الكتاب، السانحة الأولى، يكاد يكون إعلانًا من مي أنها ليست مجرد فتاة ضعيفة لطيفة. تقول إن المرأة قد تنقصها
الخبرة في مجال الكتابة (الوسط الثقافي والفكري الغالب حينذاك)، لأسباب تاريخية من بينها
مثلًا عدم اقتحام المرأة لهذا المجال مبكرًا (وأضيف لذلك إقصائها عن المجال وعرقلة وصولها إليه)، وتشكر الرجال الذين يهتمون بنتاج
المرأة بل وتشكر النقاد الذين يبينون الأخطاء لها، ولكنها تؤكد أنه: "لا يجوز
في شرع العدل والحقيقة أن تُرمى جميع أعمالنا [أي النساء] بالضعف النسائي وأن يطلق
عليها الحكم بلا بحثٍ ومقارنة." ثم تقول مي في هذه السانحة الأولى
شيئًا كان أول صدمة لي عند قراءة هذا الكتاب.
في
نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين. في الزمن الذي كان فيه أكبر
الفلاسفة وأكبر المفكرين يقولون إن المرأة عاطفية، المرأة مجرد طفلة، المرأة همها
الوحيد الزينة والمجوهرات وتوافه الأمور، المرأة عقلها ليس مثل عقل الرجل، المرأة
لا تستطيع التفكير وليس لديها سلاح سوى جمالها، المرأة ليست كائنًا متكاملًا مستقلًّا وإنما هي كائن ناقص وتابع. في ذلك الوقت، تأتي امرأة وتتحدى كل
ذلك بالحقيقة:
لقد
غالى بعض المفكرين، لا سيما بعض الذين أقنعوا نفوسهم بأنهم مفكرون، لقد غالى هؤلاء
في فصل المرأة عن النوع الإنساني الذي كادوا يحصرونه في الرجل. والواقع أن كل حمية
تهزُّ المرأة إنما تنطلق من النفس الإنسانية الشاملة، وكل نقص يشوبها إنما يرجع
إلى العجز البشري الشائع، وكل أثرٍ من آثار ذكائها إنما هو وجهٌ من وجوه الفكر
الإنساني العام. (ص8).
تحاول مي، في سنة 1913 تقريبًا، منذ أكثر من 100 سنة، تحاول إعادة
المرأة للنوع الإنساني، تحاول تأكيد أن المرأة إنسان، أن المرأة نصف
العالم، فقط، نصفه، وليس "نصفه الألطف" أو "نصفه الناقص" أو
"نصفه الأضعف"، المرأة نصف العالم، ونقطة على السطر.
ولكننا
اليوم ما زلنا لا نعرف ذلك. وما زالت المرأة تحارِب لإثبات إنسانيتها الكاملة،
ومازالت اتهامات النقص والضعف والعاطفية والدونية تلتصق بالمرأة بشكل عادي جدًّا،
تصبح هذه الاتهامات بدهيات، تصبح هذه الكذبة: الحقيقة!
وبعد
الكثير من التنهيدات. أقول إنني لا أريد الحديث عن المرأة هنا، أريد الحديث عن مي. وإن كان هذا بشكلٍ أو بآخر حديثًا عن المرأة...
لقد
أدهشني كتاب سوانح فتاة. لا أعلم إن كان ذلك واضحًا من كل ما كتبته في
الأعلى! هل كان واضحًا؟ كم مرة كتبت "معقول؟!" أو "ما هذا؟!".
لقد أدهشني جدًّا، ويجب أن أُوضِّح شيئًا: لقد قرأتُ هذا الكتاب بإدراك كامل لواقع
أنه كُتب ما بين 1913-1916. هذه نقطة مهمة. أفكار مي في الكتاب قد لا تكون
جديدة، وإن كان وضعنا مأساويًّا حدّ أنها تبقى مواكبة لنا! لغتها قد تبدو قديمة
قليلًا، أساليبها الأدبية أيضًا ليست جديدة بمعايير العصر (وإن كنت أظن أنها سابقة لعصرها في
الأدب العربي، وهي على كل حال ما زالت حاضرة اليوم). ولكن، يا رجل! أو يا امرأة! هل
تتخيلون أن كل هذا كتبته مي ما بين سنتي 1913 و1916؟! هذا ما لا يمكن
تصديقه! في زمن كان يتناقل فيه كبار الكُتاب الرجال كلام شوبنهاور عن دونية المرأة
باعتباره قمة الفلسفة المنطقية والتحليل النفسي، تأتي امرأة وتقول وسطهم: هذا ليس
صحيحًا. في زمن كانت المرأة فيه تعامل معاملة سجينة وعبدة (وإن كان البعض يُدلّل هذه السجينة!)، تأتي امرأة وتقول
"العبدة لا تربي إلا عبيدًا". في زمن كل أسماء الأدب البارزة كانت أسماء
رجال، تأتي امرأة وتكتب مثلهم وربما حتى أفضل منهم وتسبقهم بمراحل.
هذا كتابٌ، مهما تبقى أفكاره وأساليبه مواكبة لزماننا الراهن، فهو كتابٌ يجب أن
نقرأه ونحن نعلم أنه كُتب ما بين 1913-1916، منذ 100 سنة. وهو دليل على
عظمة مي زيادة، على أن عبقريتها يمكنها أن تدهشنا بعد 100.
أريد
أن أقول إن هذا يعني أن مي ما زالت حيةً، تستطيع تحدي أفكارنا، منحنا
أفكارًا جديدة، إضحاكنا، وإدهاشنا. ولكن الواقع يقول إننا نقتل مي
وندفنها بتجاهلنا لها وحصر تاريخها في علاقتها بالرجال من حولها.
رائدة
نسائية. معاصرة لعمالقة مصر ولمبدعي المهجر. هل تعلم أن العقاد والرافعي وجبران
وغيرهم كانت قد شغفتهم عشقاً؟ ماذا؟ أسلوب أدبي؟ لا أعرف شيئاً عن كتاباتها. قضايا
اجتماعية وفكرية؟ مش مهم بصراحة، المهم كانت رائدة وجبران كتب لها رسائل. ماذا؟
نسوية؟ حقوق المرأة؟ يا رجل نعم، نعرف أنها كانت رائدة. لكن هل تعرف أن هنالك قصة
تقول أن أميرًا حاول خطفها في يومٍ من الأيام؟
ما
هذا؟ ما الذي نفعله بعظيمة مثل مي؟ هل هذا هو كل ما تعنيه لنا المرأة؟ هل
مازالت فكرة الجارية الشاعرة التي يمتلكها الخليفة هي الصورة الوحيدة لدينا للمرأة
المثقفة؟ ولذلك نقول مي كان لها صالون أدبي مشهور، لها مراسلات حب ورسائل وقصائد
من العقاد والرافعي وجبران، حاول أحد الأمراء يومًا خطفها. جارية في القرن
العشرين! أهذا كل ما نستطيعه؟!
إنني
أفقد أعصابي، وهو شيء طبيعي بل حتمي. بلا شك لدي نقص في الإطلاع، وأعلم أن لـمي
معجبون ومعجبات كثر (في الأغلب معجبات، تحية أخرى للنسوية). وربما أكون مبالغًا في
كلامي هذا واستنكاري، ولكنني أحكم بالاستناد إلى ما أراه حولي، أو بالأحرى إلى ما لا
أراه حولي: لا أرى تكريمً واحترامًا لـمي يليق بها وبمكانتها. أرى العقاد
وطه حسين والرافعي وجبران وغيرهم في كل مكان طوال الوقت. ولكن لا أرى مي،
وهي لا تقل عنهم في أي شيء.
نفس
عميق...
لعل حنقي هذا سببه شعوري بالذنب والندم. قد ندمت على تجاهلي لـمي
كل هذه الفترة، واعتباري لها رائدةً لا أعرف عنها شيئًا إلا أنها شغفت قلوب الأدباء المعاصرين لها! كان يجب أن أدرك مبكرًا أنها عظيمة مثلهم تمامًا، بل وتفوق بعضهم. كتاب سوانح فتاة كتاب رائع للتعرف على مي، عدا عن كونه في حد ذاته كنوز
امرأة عظيمة تستحق القراءة.
لا
أستطيع منع نفسي من التفكير في معاناة مي. في واقع أن جزءًا كبيرًا من إبداعها
بلا شك نتج من وحدتها الروحية والفكرية. لقد سبقت زمانها حدّ أن ذلك كاد يسجنها
في زنزانة من العظمة. لا أعلم. الكتابة المقترنة بالألم دائمًا تحمل حزنًا عميقًا خفيًّا، نشعر به حتى مع اندهاشنا وفرحتنا وضحكنا. ولكن، كما هو حال الكثير
من العظماء، فحتى جراحهم أشياء تستحق الحفظ وتستحق أن نحرص عليها. رحمة الله
عليك يا مي، رحمة الله على قلبك، رحمة الله على جرح قلبك.
أي
شمسٍ تغيبُ فيكِ، أيتها الفتاة، ولماذا يشجيك المساء
لتغشى
عينيك هذه الكآبة الربداء؟
ألا
احرصي على قلبكِ أيتها الفتاة
***
جاء
المساء مرةً أخرى، جاء المساء وتبعه الليل
وعيناك
قرب السراج جامدتان جمود من يتأمل جثة
فأشعر
بأن شيئًا فيكِ أمسى جثة
لقد
استسلمت لجمال المساء فطعنك المساءُ بسكينٍ منه سريٍّ يقطرُ دمًا وظلامًا
أخضعتِ
نفسك لسحرٍ الغروب ولم تحرصي على قلبك
أما
الآن وقد فرطتِ به فاحرصي على الجرح المنفتح فيه
احرصي
على جرح قلبك أيتها الفتاة
مي زيادة
من نص احرصي على
قلبك.
28 أبريل 2017
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق