في سنة 2010 (تقريباً) تعرفتُ على حسين. كنت أُقيم
في شقة والدي في تلك الفترة، وحين كنتُ أنتهي من العمل حوالي التاسعة أو العاشرة
ليلاً، كنت لا أعود للشقة مباشرةً ولكن أمر على منزل جدي وأمضي بعض الوقت هناك، أو
أبقى هناك قليلاً ثم أذهب للقاء أحد الأصدقاء، الأمر يعتمد دائماً على موعد مغادرة
العمل، وعدد المشاغل في بيت جدي، وفوضى الحياة بصفة عامة. في الأغلب كنتُ أعود
للشقة متأخراً، وأعود متأخراً جداً في نهاية الأسبوع.
في طريقي إلى الشقة كنت أحياناً أتوقف عند محل صغير
أشعر تجاهه بالعرفان، فبعدما تنام بنغازي كلها وتمتلئ شوارعها بالظلام والهدوء كان
هذا المحل الصغير يبقى مفتوحاً – قنديلاً دافئاً في طريقي إلى الشقة. كنت أدخل،
أُلقي السلام، أخذ بعض الحاجيات للعشاء، أطلب علبة سجائر، أدفع، أُخرج بعد إلقاء
التحية وصاحب المحل يودعني مع عبارة "يا راجل يا طيب".
الكثير من الليالي كانت تمر هكذا.
أركن سيارتي أمام المحل. أدخل مُلقياً التحية، أجمع
حاجياتي، ربما أسأل عن نوع السجائر المفضل عندي ويأتيني الرد باعتذار تليه
"يا راجل يا طيب". أغادر المحل إلى الشارع الهادئ، وأعود إلى الشقة في
أعلى طابق لعمارتنا القديمة – وهو الطابق السابع وحسب، ليست ناطحة سحاب!
المحل كان محلاً تقليدياً جداً، كل تفاصيله هي
تفاصيل محل الشارع الصغير، بدايةً من وجوده في زاوية الشارع، وجلوس صاحب المحل في
الشارع على كرسيه، ذلك الكرسي الخشبي الذي يرفضون أن يتركوه يموت فكله مليء
بالأخشاب المختلفة والمسامير والإصلاحات المتتالية، وصولاً إلى توافد شباب الشارع
المستمر لطلب قداحة أو لأخذ الكرسي الفارغ من داخل المحل ليجلسوا أمامه. حين تدخل
تجد أمامك الرفوف الموجودة وسط المحل، تقابلها من الجهتين رفوف ترتفع إلى السقف
على جداري المحل، وفي نهاية المحل تمتد الثلاجة على الجدار الخلفي. على يسارك في
الأعلى التلفاز الصغير القديم (كل تفاصيل المحلات الصغيرة!)، وعلى يمينك المنصة
(الكاصة) التي يجلس وراءها صاحب المحل. المنصة خشبية، وسطحها عبارة عن صندوق
مستطيل زجاجي، ترى أسفل الزجاج أنواع السجائر والحلوى ويد صاحب المحل حين تمتد
أسفل الزجاج لتُحضر لك ما طلبته.
أسفل هذا الزجاج كنتُ أرى أيضاً كتباً...
لقد شدت الكتب انتباهي لأنها كانت كُتب الصادق
النيهوم. أحد الكتاب الذي يعجبونني، وأحد أبرز الكتاب والمفكرين الليبيين. لقد
جذبني ذلك فوراً لصاحب المحل. كثيرون جداً يتحدثون عن النيهوم، ولكن قليلون من
يقرأون له (وهذا حال كل الكتب والكتاب بصراحة). كنتُ دائماً أرغب في أن أتحدث مع
صاحب المحل، لكن خجلي كان يغلبني كل مرة كما يبدو.
في النهاية تمكنتُ من الحديث معه.
كان الكتاب الموجود تحت الزجاج هو رواية "من
مكة إلى هنا" للصادق النيهوم (يبدو أن صاحب المحل كان يشق طريقه عبر كتب
النيهوم). سألته وأنا أدفع له مقابل ما اشتريته السؤال العبيط لشخص يحاول أن يبدأ
حواراً بالاستفسار عن شيء بديهي جداً: "هل هذا كتابك؟" أنا نفسي لن أنكر
أنني في تلك اللحظة كنتُ أستحق سخريةً من نوع "كلا، هذا كتاب صاحب المغسلة
المجاورة"، ولكنه فقط أجاب بنعم، أضفت بسرعة بأنني قرأته وبأنه دوخني! وبنوع
من الارتباك قلت له، متظاهراً بأنني "فاهم" وما إلى ذلك، حين تكلمه أخبرني
ما رأيك فيه. تحية الوداع، وغادرت بحاجياتي وبعبارة "يا راجل يا طيب".
شيئاً فشيئاً بدأنا نتحدث. كنت أقف عند المنصة، كيس
حاجياتي في يدي، ونتحدث عن الصادق النيهوم. يدخل زبون، نصمت قليلاً إلى أن يكمل
شراء ما يريد شراءه، ويعود الحوار من جديد عن النيهوم، عن أفكاره، أسلوب كتابته،
كتبه التي كانت ممنوعة من النشر في ليبيا، وتلك التي كانت حينها مازالت ممنوعةً من
النشر (أظن في تلك الفترة كانت روايتا الحيوانات والقرود ممنوعتان من النشر، حتى
أنني حين أخبرني صاحب مكتبة في بنغازي بأنهم سوف يحضرونهن عما قريب، صُدمت! وهو
تفهم تماماً صدمتي). شيئاً فشيئاً تحول الأمر من مروري على المحل في الليل لشراء
بضعة حاجيات، إلى أن أعود للعمارة، أركن السيارة أسفلها، وأتمشى للمحل لأدخل وأخذ
مكاني على الكرسي بجوار حسين، صاحب المحل.
حسين كان رجلاً مثقفاً بشكل جميل. كانت ثقافته تنبع
من شهية واسعة للمعرفة. يراودني الآن وصف جون ستاينبك لصديقه (بطل رواية Cannery
Road) بأن "عقله لا أُفق يحده". حسين
أيضاً كان عقله منطلقاً في رحلة لا يحدها شيء، سوى الظروف! كل تفاصيله، أحاديثه،
قصصه، كلها أمور تليق بقصة أو رواية عن شخص مُثقف في عالمٍ سيء.
صاحب المحل الذي يجلس في هذا المحل القديم في زاوية
الشارع ويقرأ كتب الصادق النيهوم.
الرجل الذي سافر للأردن ليجري فحوصات طبية على صداع
أرهقه، وقبل الفحص يُمضي ساعتين يتأمل منحوتةً في الشارع محاولاً فهمها، ليصل إلى
الفحص، ويكون تشخيص الدكتور "أنت تفكر كثيراً".
الرجل الذي يجلس خلف منصة المحل، يشاهد برنامجاً
حوارياً فكرياً/سياسياً، فيدخل أحد شباب المنطقة، يتوكأ على المنصة، يراقب التلفاز
بصمت لبرهة، ثم يسأل حسين بكل جدية: "هذا أستوديو تعليق على أي مباراة؟"
كم أضحكتني هذه القصة الأخيرة!
خلف المنصة، في الزاوية في الأعلى يوجد عداد
الكهرباء. في أحد الأيام لاحظت أن هنالك ورقة نقدية مُلصقة على الصندوق. دولار!
سألت حسين عن هذا الدولار ما قصته؟ نظر إليه قليلاً، ثم قال لي: "هذا يا سيدي
هو الحلم!" أظن أنه بعد ذلك روى لي القصة، شخصٌ ما أعطاه الدولار، وما إلى
ذلك. بعد فترة لاحظت أن هنالك ورقة جديدة أُلصقت فوق عداد الكهرباء، سألته
متفاجئاً أين الدولار؟! ما هذه الورقة؟ نظر إلى الورقة قليلاً (كعادته، يفكر
قليلاً قبل أن يتحدث)، ثم قال لي: "آه، هذه فاتورة الكهرباء.. كما ترى، لقد
انتصر الواقع على الحلم!".
هذا حسين.. وربما كان حسن؟ الشيء الذي أعرفه على
وجه الدقة هو أنه "حسونة"، كما كان يناديه شباب الشارع الذين يدخلون
لأخذ قداحة أو كرسي أو شيء بالدين. هكذا تعرفت عليه. وهكذا استمرت صداقتنا تلك
السنة ولم أعرف يوماً اسم عائلته ولا أي شيء آخر عن حياته (وهو شيء غريب نسبياً في
"قرية" بنغازي التي يكون أول سؤال فيها يلي السلام هو عن أصلك وفصلك
وعائلتك وقبيلتك وفصيلتك من الثديات!). كل ما كنا نعرفه عن بعضنا هو أننا نعيش في
هذه المنطقة، أننا نتأخر في الليل، وأننا نتحدث عن الكثير الكثير من الكتب
والمعلومات والفنون والموسيقى والكثير من الأشياء الجميلة الأخرى...
كان الصادق النيهوم أحد النقاط المحورية في
صداقتنا. البداية كانت به، تلك الكتب التي كنتُ أراها تحت الزجاج. والتي كان يراها
كثيرون غيري طبعاً، وقد روى لي حسين أن الكثير من الزبائن أحياناً يتظاهرون بأنهم
يعرفون كتاب النيهوم "الإسلام في الأسر"، كانوا يرون الكتاب، يقولون له:
"أها، النيهوم، ها؟ الإسلام في الأُسر...". كان هذا مُضحكاً، الأُسر؟
ربما، بشكلٍ ما كان النيهوم مصلحاً تربوياً!
الصادق النيهوم يقود لأحاديث كثيرة، وليس فقط طرائف
الزبائن الذين يقرأون اسم أحد كتبه المثيرة للجدل على أنه كتاب مُرشد عائلي! خليفة
الفاخري مثلاً (الكاتب الليبي البنغازينو الآخر) هو من بين المواضيع التي يدفعني
ذكر الصادق النيهوم للحديث عنها. كثيرون يعرفون الصادق النيهوم، ولكنني أتفاجأ
أحياناً بأنهم لا يعرفون خليفة الفاخري! خاصةً حين يكون هذا الشخص ليبي من بنغازي،
فصداقة خليفة والصادق هي جزء لا يتجزأ من أسطورة الصادق النيهوم في بنغازي. حسين
كان أحد هؤلاء، تركيزه كان على كتابات النيهوم الفكرية (الدينية، الاجتماعية،
السياسية، إلخ)، وليس على حياته أو مثلاً مراسلاته.
ولذلك أخبرته (مصدوماً!) عن الرائع خليفة الفاخري،
وأحضرتُ له نسخةً من قصته "النوارس". أظن، وبدون مبالغة، أنني وزعت
عشرات النسخ من هذه القصة، وفي بنغازي أي كومة أوراق عندي لابد أن تجد في وسطها
نسخة من قصة النوارس - وهذا رابط توجد فيه القصة.
قرأها حسين بتفكيره العميق الذي يُسبب له الصداع.
- هل قرأت قصة النوارس؟
- هممم.. نعم. (دائماً يفكر قليلاً!)
- وما رأيك بها؟ عظيمة أليس كذلك؟
- هممم.. نعم، كثيفة. لقد غرقتُ فيها.
- قبل أن نتحدث عن أي شيء: واك واك واك!
- أي والله! مش بس واك...
- عبرة القصة أظن أنها واضحة.
-
...
العبرة واضحة، نعم، لكنني فكرتُ فيها وفي تفاصيلها كثيراً.
- أخبرني.
-
...
نعم. ماذا يقصد بالعيادة مثلاً؟ ولماذا اختار تلك التخصصات بالتحديد: فصيلة الدم
والأمراض النفسية والعصبية؟ أظن أن اختيار فصيلة الدم إشارة للقبلية.
- أوه، سامحني جداً.
-
..
لماذا؟
- نسيت أن خليفة يستخدم الرموز كثيراً!
وأنت تفكر كثيراً! والنتيجة قد تكون جلطة، بعيد السو عليك!
-
...
نعم! لقد لاحظت ذلك.
- لا أعلم بخصوص قصة تحاليل الدم
والقبلية، ربما الدم هنا ليس له مفهوم اجتماعي يعني قبلي بقدر ما له مفهوم انتماء
وطني.
-
...
نعم، الدم هو الدم، الأمراض العصبية والنفسية تجري في دمك بسبب ولادتك وسط هذه
القبيلة التي اسمها الوطن!
- ربما.. أظن أن هذا صحيح، أعني لماذا
سيربط الدم بالأمراض العصبية والنفسية؟ إنه بلا شك يُشير إلى أن الأمراض النفسية
التي نعاني منها تكاد تكون نتيجة مباشرة لولادتنا في هذه البلاد، لأننا نحمل هذا
الدم.
-
...
نعم، دمنا الليبي!
- أي دم وليس فقط الليبي، ألم تلاحظ أن
القصة يمكن أن تنطبق على أي مكان؟
-
...
نعم، لا يذكر أي تفاصيل دقيقة، ولكنها قصة بنغازية ليبية، كلمة واك تُقيدها.
- صحيح. هو كانت لديه أفكار عن أن
الانتماء الحقيقي ليس للمكان ولكنه للإنسان، اللغة رابطة مهمة في هذا الانتماء.
-
...
ربما حتى وإن هرب من الانتماء للمكان يبقى الانتماء للإنسان الذي تشاركه لغته أقوى
من أن يتحرر منه؟
- لا داعي لأن يتحرر منه هنا، كلمة واك
هي نصف القصة. خليفة مُبدع لدرجة أنها لا تبدو عنده كمجرد نكتة رخيصة.
-
...
نعم، صدقت، كثيرون يحاولون كتابة هذه
النكت، لكنهم يظهرون متصنعين وبالفعل تظهر محاولاتهم كنكتة لغوية رخيصة. يضايقونني
أحياناً.
- بالضبط. لكن أخبرني، ماذا وجدت أيضاً
في القصة؟ (كنتُ متحمساً لمعرفة ما التقطه عقله)
-
...
نعم، الرجل ذو الشعر الأبيض، الجيل الذي كبر قبل أوانه، أحد أوضح الرموز في القصة،
ظروفك وتجاربك تسلب منك حياتك.
- كلما قرأتُ هذه القصة شعرتُ أنه خليفة
نفسه، شعره شاب مبكراً كما تعلم. في الحقيقة، التقارب مع خليفة أكثر من مجرد الشعر
الأبيض.
-
... ماذا تقصد؟
- أقصد الرجل ذو الشعر الأبيض من الواضح
أنه كانت لديه تجارب، أنه سافر، أنه يبقى حيث هو لسبب سيعرفه الطفل الصغير حين
يكبر. خليفة أيضاً سافر كثيراً، وعمل في الخارج كثيراً. لقد رأى العالم، لكنه عاد،
مثل نوارسه.
يدخل زبون بكيس من الخبز، يرفعه ويقول لحسين
"عشر فردات" مُضيفاً طلباً لقطعتي حلوى أشار لهما بإصبعه فوق الزجاج. فك
حسين ذراعيه المعقودتين على الدوام حين يجلس، ووقف بهدوء. ناول الزبون قطعتي
الحلوى. تبادلا المال والباقي (أُبرمت الصفقة بنجاح). تمنى له الزبون ليلةً سعيدة،
وحسين كعادته رد عليه التحية مع "يا راجل يا طيب". عاد للجلوس بهدوء،
عقد ذراعيه، وبقي صامتاً لبرهة. كنت أعلم أنه يفكر، لذا لم أرد مقاطعة الصمت الذي
لم يطل على أي حال، فقد أعادنا للحوار بسؤال.
-
...
قلت لي سابقاً أن خليفة عمل في سفارة، أي سفارة؟
- بصراحة لا أذكر، أنا أعلم أنه عاش في
بريطانيا لفترة، هو درس هناك، ولا أعلم هل عمل فيها أيضاً أم لا. أما عمله في
السفارة فكان في إحدى الدول الاسكندنافية.
-
...
نعم، دول البرد. تبدو تجربة متناقضة مع صورة النوارس والشواطئ الذهبية. هي صورة
صيفية أو ربيعية. صورة تلك الدول الشمالية الباردة تشتاق لها. نعم، لكن ربما
الفكرة هي في هجرة الطيور إلى الشمال، وعودتها البائسة إلى الجنوب.
- أظن أنه يكفينا ربط شعر خليفة الأبيض
وتجاربه المفقودة في هجرته الشمالية بالرجل ذو الشعر الأبيض، التناقض بين دول
الثلج تلك والشواطئ الذهبية ليس مهماً، فالعامل المشترك هو التجربة المفقودة.
-
...
نعم، هل تعلم، شدت انتباهي كلمة "الذهبية"، لقد استخدمها لوصف السواحل
التي تركتها النوارس. أظن أن لها وزنها الاقتصادي.
- ربما. الكلمة تُعطيك إحساساً بالوهج
الأصفر للشواطئ اللامعة تحت الشمس، لكن ربما أنت محق. كلمة "ذهبية" لا
تصف فقط لوناً، لكنها تبعث شعوراً بالقيمة. في بداية القصة لم يصف الشاطئ الذي تقع
عنده العيادة بأي وصف. فقط شاطئ. لكن الشواطئ التي هجرتها النوارس هي شواطئ
"ذهبية"، وأسماكها "فضية"، هنالك قيمة كبيرة تخلت عنها
النوارس في مقابل قمامة.
-
...
نعم، ربما هذا رمز للاختلاف بين المكانين: مكان ذهبي تأكل فيه النوارس أسماك فضية،
ومكان بدون أوصاف تأكل فيه النوارس النفايات. النوارس في حد ذاتها لغز كبير.
- هل تقصد لماذا تركت الشواطئ الذهبية؟
-
...
نعم، هذا لغز، لماذا تركت السفر أو الطيران في تلك الشواطئ الذهبية والأسماك
الفضية وبقيت عند الميناء لتلتقط القشور وأحشاء الأسماك التي يرميها بائعو السمك؟
هل اختارت سهولة العيش في القاع على مجازفة المغامرة؟ نعم، هي ستضمن دائماً أن تجد
زعانف وأحشاء السمك التي يرميها منظفو الأسماك، ولكن ما الذي يضمن لها أنها ستجد
أسماكاً فضية في الشواطئ الذهبية؟ ومن هم الصيادون ومنظفو الأسماك؟
- سياق كلامك واضح ومن الممكن أن يودينا
في داهية! ولكن لا أعلم، لا أظن أن الصيادين هم أشخاص في منصب قوة، ولكنهم بلا شك
يقيدون النوارس بالذل. خليفة استخدم عبارة "تهبط من عليائها" لكي تلتقط
نفايات الصيادين، هذه العبارة نستخدمها للحديث عن المذلة أيضاً وهي تعطي هنا
المعنى المزدوج لهبوط النوارس المُحلِّقة ولإذلالها بذلك. يبدو لي أن هذه القصة
عالمية، أو على أقل تقدير إقليمية. إنها ظروف أي إنسان لا يستطيع مغادرة القاع
الذي يعيش فيه لدرجة أنه يعتمد على نفايات من يسيطرون على هذا القاع...
-
...
نعم، ربما هذا صحيح. عالمية القصة. كلامك عن الذل جعلني أفكر في موضوع الأقلام
المأجورة، ربما الفكرة هي الكاتب الذي يترك حرية الإبداع والتجربة ويبقى يعيش على
نفايات الصيادين أو أي شخص له سلطة عليه. الصادق النيهوم كانت له صدامات كثيرة من
أشخاص ربما لم يكونوا "مأجورين" أو "مستفيدين"، ولكنهم بقوا
عند الميناء، ميناء السلطة، ميناء الفقيه، ميناء المجتمع.
- هو نفس الشيء، كاتب، مفكر، شاعر،
محامي، مهندس، طبيب، فقيه، أي شيء.. إنسان لا يستطيع تغيير ظروفه. حتى من يستسلم
لهذه الظروف ويسمن نفسه بالزعانف وأحشاء الأسماك، يبقى في قصته شيء من الإكراه على
ذلك، على البقاء "هنا".
-
...
لماذا؟ لماذا البقاء هنا؟
- سوف نعرف ذلك حين نكبر!
-
...
إيه، مازلنا ح نكبروا؟ على سيرة الكبر، الرمز الآخر الواضح هو الرجل وحديثه مع
الطفل، الجيل القديم يُحذِّر الجيل الجديد، أو يُعلمه. الطفل عمره سبع سنوات،
يُذكرني ذلك بحديث علموهم الصلاة في السابعة، وكأنها إشارة لفكرة الرجل الذي يُعلم
الطفل.
- نعم، لقد ذكرتني بشيء، هو سأل الطفل عن
المدرسة، ولاحقاً قال له تذكر صوت النوارس فربما سألوك عنه في المدرسة. مع فكرة سن
التعليم، هذا يبدو لي وكأن خليفة يسخر من طرق التربية ومؤسسة التعليم. الدروس
الحقيقية ليست في المدارس.
-
...
نعم، الدروس الحقيقية في غرف انتظار المرضى في العيادات! أظن أن هنالك رمزية في
ازدحام الغرفة والكرسي الشاغر بجوار الرجل الأبيض الشعر.
- بالنسبة لي أهم شيء في هذا المشهد هو
أن الرجل اهتم بالحديث مع الطفل بينما بقية الناس يراقبون بصمت. لطالما شعرت بخليط
من الرضى والغضب على مشهد المرضى الذي يشعرون بالعرفان تجاه الرجل، وكأنه يُحررهم
من مسؤولية القيام بذلك.
-
...
نعم، كلامك هذا ذكرني حتى بموقف الصادق النيهوم، ربما القصة هي فعلاً عن كاتب.
النيهوم كان أيضاً يحاول تعليم الجيل الجديد، ربما مثل خليفة، وكان الجميع ينظرون
إليهم على أنهم يلاعبون طفلاً، وكأن عملهم غير جاد، مجرد خربشة على صفحات الجرائد.
ولكن الحقيقة أن لا أحد يهتم مثلهم بمستقبل الجيل القادم، بينما البقية يتجاهلونه.
- ربما. لاحظ أن حتى الأب نفسه ترك الطفل
في غرفة الانتظار! أظن أنني أرى الترابط مع فكرة الكاتب الذي تتحدث عنه. الصادق
النيهوم تحدث أيضاً عن صدام الأب والابن، وهو طبعاً ينتقد المجتمع كثيراً. في
الحقيقة، هذا يُذكرني بمقالة أخرى لخليفة يتحدث فيها عن ترك الأطفال ليربيهم
المجتمع، أو الشارع. أو بالأحرى لكي لا يربيهم أحد!
-
...
نعم، بلا شك سوف تتكرر أفكار الكاتب. النيهوم تتكرر أفكاره، أو على الأقل صدى
لأفكاره يتردد عبر أعماله المختلف.
- بالتأكيد. لقد ذكرتني الآن بنص آخر
لخليفة بعنوان "بيع الريح للمراكب"، يتحدث فيه عن دودة تحلم بالطيران،
تحولت يوماً إلى فأر، ثم إلى خفاش، ثم إلى طائر حقيقي. وبعدما حلَّق عبر العالم
واكتسب كل التجارب، حين عاد لم يكن هنالك أحد يريد الاستماع لما لديه ليقوله..
وكأنها الحلقة الأولى في حياة هذا الرجل.
-
...
نعم، ليس لديه أحد يستمع له إلا الأطفال!
- الأطفال وحدهم من لن يتهموه بالجنون،
ولذلك أصر على أن يقول للطفل تذكر، تذكر. الأمر أيضاً لا يخلو من فكرة أن الأطفال
لطالما كانوا يرمزون للأمل، هم الفرصة الأخيرة للعالم كما يراهم الناس مثل الرجل
الأبيض الشعر.
-
...
نعم، ختام القصة هو إظهار أن مثل هؤلاء ليس لديهم إلا الأمل في مستقبل الآخرين،
ففي الحاضر يراهم المجتمع كأنهم مجانين. الرجل السمين الذي جاء ليجلس بجواره وأصيب
بالفزع وأراد أن يهرب.
- الرجل السمين هذا مهم جداً جداً!
-
...
كيف؟
- أولاً، كلمة سمين مهمة، هذا رجل سمن في
القاع، مُكتفٍ تماماً بالنفايات والزعانف وقشور الأسماك. ثانياً، خليفة كان ذكياً
جداً في اختيار الطفل، الطفل سوف يتحدث مع الرجل ويستمع له، لأنه لم يتشبع بعد بكل
أفكار المجتمع، كل أفكار الميناء. بقية المجتمع كما قلنا سابقاً جلسوا يراقبون
بصمت. وبالتالي، الطفل الذي تلقى كلام الرجل ذو الشعر الأبيض بحماسة يُمثِّل حكماً
مُجرداً من عقلية المجتمع، والآن يعطينا خليفة حكماً متشبعاً حتى السمنة بعقلية
المجتمع: الرجل السمين. وما هو حكم المجتمع على من ينتقده؟
-
...
مجنون!
- بالضبط. لا أحد يريد أن يعترف أن وضعنا
يتطلب الرثاء والنواح. نُفزع، نظن أن من يتحدث مجنون، ونبحث عن مفر لنهرب بعيداً
ولا نسمع صياح النوارس!
كنا الآن خارج المحل. وقت إبقاء المحل مفتوحاً في
الليل وصل إلى نهايته. حسين كان قد بدأ يُطفئ الأضواء أثناء الحوار، وأنا وقفتُ
بكيس حاجياتي اللاتي اشتريتهن. خرجنا إلى الشارع من المحل المظلم، أغلق حسين
الأبواب وأنزل الستار الحديدي (لا ليس ستار الحرب الباردة، ولكن ذلك الستار الذي
نراه في المحلات دائماً). أغلق الأقفال في أسفل الستار، ثم استقام وهو يضع
المفاتيح في جيوب معطفه الأخضر الذي دائماً يرتديه بإحكام. بدأنا نعبر الشارع
المظلم في برودة الليل المنعشة. من جديد خيم عليه ذلك الصمت الذي يدل على محاولة
لالتقاط إحدى الأفكار التي تتقافز داخل رأسه. وحين نطق أخيراً كان يبدو أنه استسلم
خشية أن تُسبب له هذه الأفكار الصداع!
-
...
أنت تعلم أن كل كلامنا هو في الأغلب غير صحيح؟
- ماذا تقصد؟
-
...
أقصد أنني أنا وأنت لم نحلل هذه القصة، ولكن كنا نُعيد كتابة القصة، أو نترجمها
إلى لغة أخرى وقد نمنحها معانٍ أخرى. نعم، أنا مُضطر للرضى بهذا الأمر، المعنى في
بطن الشاعر أو صاحب النص، هو سيبقى شبعاناً، وأنا سأجوع مهما حاولت قضم كلماته.
وسأُصاب بالصداع الغريب. القناعة كنزٌ لا يفنى.
- تستسلم؟
-
...
نعم، إلى حدٍّ ما، لا أعني بخصوص قصة خليفة هذه، فهي نسبياً واضحة، نحن فقط نحاول
استكشاف ما خبأه خليفة فيها. لكن بصفة عامة، الأمر صعب، ليس عقلياً، ولكن كل شيء. نعم،
سيدخل الآن زبون آخر مثل المائة الذين سبقوه وسوف يقاطعنا وسنصمت بخجل وكأننا كنا
نتحدث في السياسة. هل جربت أن تسأل شخصاً يريد استعارة قداحة عن رأيه في رمزية
كلمة في قصة؟
- ولكننا نحاول، أليس كذلك؟ نوازن بين
الوظيفة، بين الناس، بين كل شيء آخر، ونجد وقتاً لمحاولة تفسير رمزية كلمة أو
صورة.
-
...
نعم، لكن الأفضل أن لا يتعمق المرء وأن يلتزم حدوده. سأُصيب نفسي بجلطة وليس فقط
بصداع، الظروف ليس مناسبة لأي شيء من هذا النوع، ليست مناسبة حتى للموت. نعم، نحن مرغمون
على البقاء عند ميناء!
- حسين...
-
...
ماذا؟
- واك واك واك!
-
...
واك واك واك!
16 نوفمبر 2016
ملاحظة: ذاكرتي ليست قويةً لدرجة تذكر حوار كامل بهذه الدقة! لذلك هنالك نسبة لابأس بها من "التأليف" لملء فراغات الذاكرة، وأيضاً نسبة من "التأليف" بسبب استغراقي في التفكير في الأمر أثناء كتابته! يمكنني القول بأنني خُضت حوارين مع حسين، أحدهما تذكرته والآخر ألفته!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق