الأحد، 26 مارس 2017

من مفكرة رجل لم يولد: يوسف القويري واستقراء المستقبل.




منذ فترة وأنا أرغب في القراءة للأستاذ يوسف القويري. وقد جاء هذا نتيجةً لقيام عدد من القارئات والقُراء من ليبيا بلفت الانتباه إلى وجود هذا الأديب الليبي الذي كدنا أن نقتله بالنسيان.


الأستاذ يوسف القويري يُعتبر من رواد الحركة الثقافية التي ازدهرت في ليبيا بعد الاستقلال وعبر الستينات، ثم اصطدمت بحائط انقلاب القذافي (أو ثورته، أنت حر!) سنة 1969. وقد واجه الكثير من الكتاب عدة خيارات مختلفة، بعضهم ارتبط بنظام القذافي (سواءً بشكل مباشر وملتصق بالقذافي، أو بشكل غير مباشر بتودد بسيط ودون صدام مع النظام)، بعضهم التزم الكتابة الأدبية بعيداً عن الأضواء، بعضهم قلل من الكتابة لدرجة أنها كادت تنعدم (وهنا سأذكر خليفة الفاخري رحمه الله كمثال)، وبعضهم شبه توقف كلياً عن الكتابة، ويوسف القويري هو أحد هؤلاء. وبحسب مقالة للكاتب أحمد إبراهيم الفقيه (موجودة على موقع ليبيا المستقبل) فإن القويري توقف عن الكتابة لما يقارب 30 سنة! ربما كان نتاجه الوحيد فيها العمل على مسرحية. حين تكون خيارات الكاتب هي السجن (وحتى القتل) أو المنفى أو الارتباط بنظام مستبد ودموي أو الصمت فإن اختيار الصمت يبدو أمراً سهلاً، ربما هو ليس كذلك بالنسبة للأديب الذي يعاني من لعنة الإبداع والمفكر الذي يحمل مسؤولية النهضة، ولكنه يبقى في كل الحالات مفهوماً.

وفي هذه الأيام، وسط كل البشاعات التي يفيض بها فضاء الإنترنت الليبي (من تعصبات جهوية، وانقسامات، وفقدان تام للإنسانية يدفع بالبعض لتداول صور الجثث والموت والدمار بشماتة وحتى باحتفال ومع إيموجيات ضاحكة!) في وسط كل هذه البشاعة قام بعض الشباب الليبيين من قارئات وقُراء بمنحنا هدية جميلة وهي إعادة التعريف بيوسف القويري ونشر بعض كتبه على الإنترنت (بعضها تم رفعها إلكترونياً من قبل حركة تنوير، وأُضيفت صفحة للكاتب على لموقع goodreads). بالطبع فإن مثل هذه "الحملة الثقافية" للتعريف بهذا الكاتب لن تخلو من متحمسين يبالغون في حماستهم ويفيض مدحهم (بنية طيبة أو بنية سيئة!)، ولن تخلو أيضاً ممن يقاومون كل جديد وينتقصون منه فوراً (ربما لتفادي الاعتراف بخجل بأنهم كانوا يجهلون بوجود هذا "الجديد القديم"!). ولكن في كل الحالات فإن أهم شيء هو عودة هذا الأديب الليبي إلى الساحة (لقد عاد حتى للكتابة ونشر نصوص على صحيفة الأيام الإلكترونية الليبية)، والشيء الآخر المهم هو القراءة، وما رافق هذه الحملة من قراءة لكتب الأستاذ القويري. وكغيري كنت من بداية هذه الحملة أرغب في القراءة للأستاذ القويري والتعرف على أعماله.

الكسل والحيرة في القراءة، والمزاج الملعون الذي يدفعك من كتاب لآخر ومن موضوع لآخر ويجعل مجرد التفكير في الالتزام بقائمة قراءة أو جدول معين أمراً مثيراً للضحك (من شدة كونه مثيراً للخجل!) كل هذا عطلني كثيراً عن القراءة للقويري. ولكنني أخيراً تحمستُ قليلاً لكتابه "من مفكرة رجل لم يولد". لقد قرأتُ عنه نبذاً قصيرة تصفه بأنه رواية خيال علمي. خيال علمي! أنا أحب الخيال العلمي! والمؤلف كاتب يمتدح كثيرون براعته الأدبية، ويمدح كثيرون فكره وثقافته، وهو ليبي! رواية خيال علمي ليبية كاتب ليبي يعتبر من رواد الأدب والفكر في ليبيا! لا بد أن أقرأها!

طبعاً بعد هذه الحماسة تعطلتُ قبل قراءة الكتاب كثيراً (الحيرة في القراءة يجب أن تُصنف على أنها مرض نفسي حقيقي!). ولكنني قمتُ أخيراً بقراءته!


رواية؟

ما قرأته عن الكتاب وحمسني له كثيراً كان يصفه بأنه "رواية خيال علمي". وللأسف لا يمكنني إخفاء خيبة أملي حين بدأتُ بقراءة الكتاب واكتشفتُ أنه ليس روايةً في الحقيقة. ليست لدي دراية حقيقية بالمصطلحات المستخدمة في النقد الأدبي، أعني النوع الأدبي والجنس الأدبي والأسلوب الأدبي وإلخ، ولا أريد فتح غوغل (يعيش الكسل!)، ولكن لنقل أن الجنس الأدبي تصنيف أوسع من النوع الأدبي (كما هو حال كلمتي الجنس والنوع)، وبناءً على ذلك، فإن كتاب "من مفكرة رجل لم يُولد" لا يُصنف تحت جنس "الرواية"، ولكنه في الأغلب يُصنف ضمن جنس "المقالات القصصية" أو "اليوميات" أو "الخواطر" وربما حتى القصص القصيرة (كما أشار لذلك الشاعر محمد الفقيه صالح في دراسة له حول الرواية منشورة في مجلة تفكُّر الصادر عن جامعة بنغازي، وهو رأي أجده سليماً فالكثير من فصول الكتاب يمكنها أن تكون قصصاً قصيرة مستقلة). هو بلا شك أدب "خيالي"، أي أنه "مُتخيل" وليس حقيقياً، ولكن لا توجد حبكة تربط فصول الكتاب ببعضها بعضاً من حيث الأحداث، الرابط الوحيد بين كل الفصول هو الشخصيات الأساسية الثلاث، الأب والأم والابنة. وفي الحقيقة فإن الكتاب قد بدأ كزاوية أسبوعية في إحدى الصحف، كما ذكر الأستاذ يوسف القويري في مقابلة حديثة أُجريت معه من قبل صحيفة الأيام، فكانت فصول الكتاب بالفعل نصوصاً تشبه المقالة أو اليوميات منفصلة عن بعضها نشرها القويري ما بين سنتي 1966 و1968.

وسأعترف بأنني ربما كنتُ مخطئاً في توقع قصة خيال علمي مثيرة وعميقة وكأن مؤلفها راي برادبوري أو إيزاك أزيموف! يجب أن لا نقرأ بحكم مُسبق أو توقعات.. حسناً، لا يمكننا فعلاً تفادي ذلك، لكن علينا تعلم السيطرة على ذلك وعدم السماح له بتشويش قراءتنا للكتاب بأن نترك الكتاب يعطينا ما لديه أولاً ثم نحكم لا أن نطالبه بأن يعطينا ما نريده نحن – وهذا يا عزيزي القارئ درس في الموضوعية وما إلى ذلك من هراء أعطيه لك مجاناً!

وبعيداً عن تواضعي الجليل (لا شكر على واجب على فكرة!)، وبالعودة إلى طبيعة الكتاب، فحتى وإن قلنا بأن جنس الكتاب الأدبي ليس رواية، إلا أن نوع الكتاب الأدبي يبقى بالفعل خيالاً علمياً. ومن جديد أنا أكسل من أن أفتح غوغل وأبحث، ولكنني أعلم أن هنالك الكثير من الخلافات، أو لنقل هنالك "عدم وضوح" في تعريف الخيال العلمي والخيال المستقبلي في الأدب. وأظن أننا لن نكون مخطئين إن وصفنا كتاب "من مفكرة رجل لم يولد" بأنه كتاب من نوع أدب الخيال المستقبلي (وربما اليوتوبي). ربما (والله أعلم) لأن الخيال العلمي يكاد يكون وصفاً ملازماً للأجناس الأدبية القصصية (الرواية، القصة، المسرحية، إلخ) بالإضافة إلى كونها وصفاً لقصص يلعب فيها العلم دوراً بارزاً في حبكة القصة، بينما الخيال المستقبلي قد يكون أعم وأوسع في احتواء أجناس وأساليب أدبية متعددة. أعني، ربما.. هذا فقط رأيي الشخصي وما اعتدتُ عليه من روايات وقصص الخيال العلمي. ربما هنالك تصنيف أوسع لأدب الخيال العلمي يحتوي كل شيء.
على كل حال، وبالرغم من خيبة أملي لأنني لم أجد رواية خيال علمي مؤثرة، إلا أنني لم أفقد حماستي كلياً للكتاب، بل احتفظت بحماستي للتعرف على يوسف القويري، وأيضاً لرؤية ما الذي تنبأ به القويري في الكتاب!

مفكرات رجل وُلد!

في مقدمة الكتاب يذكر الأستاذ يوسف القويري أنه لا يريد فعلاً التنبؤ بالمستقبل:

"ليس في هذا الكتاب أي نوع من الاستباق غير المعقول للواقع. بل إن بعض لمحاته العلمية المتناثرة ستبدو للقارئ المثقف أموراً قريبةً جداً سوف يحققها العلم قبل ذلك التاريخ البعيد، إن لم يكن بعضها في طريقه الآن من مختبرات العلماء إلى ساحة المجتمع البشري".
اطلاعي البسيط على أعمال القويري أوضح لي فوراً أنه متابع شغوف للعلم والتطورات العلمية (حتى أنه لديه مجموعة مقالات أو نصوص ينشرها حالياً تشبه كثيراً فكرة هذا الكتاب من حيث أنه تبدو كقصص قصيرة تدور في مستقبل يوتوبي يتميز بالتطور العلمي)، ولذلك يبدو ما جاء به في هذا الكتاب متماشياً مع اهتماماته. وبالرغم من أنه يقول بأنه لا يريد التنبؤ بالمستقبل، إلا أنني لم أستطع منع نفسي من محاولة تتبع الخيال الذي تحول إلى حقيقة!

وبناءً على ذلك، فقد تخليتُ عن كسلي (تكبير!) ودخلتُ إلى غوغل للبحث، وفيما يلي قائمة ببعض ما ورد في الكتاب وتحقق فعلاً:

1. السينما البانورامية: يذكر القويري أن السينما في المستقبل ستتكون من شاشة شبه-دائرية تُحيط بالمتفرج ويستطيع مشاهدة أي جزء يريده من المشهد أو الصورة. وهذا ما يُسمى اليوم بالسينما البانورامية، والتي قد تتكون من ثلاث شاشات أو خمس شاشات أو حتى شريط في شكل قوس (أو نصف دائرة) تحيط بالمتفرج. صالات العرض هذه ليست منتشرة كثيراً ولكن لها وجود، بالإضافة إلى أن هنالك عروض فنية قد تستخدم عدداً أكبر من الشاشات.


ربما يجدر بنا أيضاً أن نذكر أن القويري تحدث عن أن السينما سوف تستطيع فيها أن تشم روائح الفيلم! وفي الحقيقة هذه التكنولوجيا قديمة وقد جربها بعض صانعي الأفلام في الخمسينيات، ولكنها لم تنتشر فعلاً!

2. جسور عابرة للقارات: يذكر القويري أكثر من مرة جسراً يربط بين أوروبا وأفريقيا. ومع أننا لم نتوصل إلى مثل هذه الجسور بعد، فإن هذا لا يعني أنه لا توجد جسور طويلة بشكل مذهل! وباستبعاد الجسور التي تغطي الأرض (جسر دانيانغ-كونشان الكبير في الصين هو أطول جسر في العالم، بطول 165 كيلومتر تقريباً! ولكن جزء قليل منه فقط يعبر فوق المياه)، فإن أطول جسر يعبر فوق المياه هو جسر خليج جياوزو (أيضاً في الصين!). جسر خليج جياوزو يبلغ طوله حوالي 26.7 كيلومتر، وتقريباً 25.9 كيلومتراً منه تعبر فوق المياه. لا بد أنك تسأل نفسك: ما المسافة بين أوروبا وأفريقيا؟ أقرب نقطة في مضيق جبل طارق طولها حوالي 15 كيلومتر! أظن أنه يمكن القول بأننا قريبون جداً من هذه الجسور الطويلة، وإن كانت أوضاع بحر عن بحر (أو مسطح مائي عن مسطح مائي آخر) تختلف، بالأخص من حيث حركة السفن.


3. حديقة صغيرة تنبت بلا تربة: هذا النوع من الزراعة يُسمى "هايدروبونيكس hydroponics" وهو يعتمد على الزراعة في مياه غنية بالمواد المُغذية. ولقد كانت هذه الزراعة (بسبب اعتمادها على معايير علمية دقيقة) محصورةً في الأغلب في التجارب أو في عمليات الانتاج الزراعية، ولكنها مؤخراً بدأت تنتقل إلى البيوت! من المؤسف أننا لم نتوصل لاختراع بيوت معلقة في الهواء كالمناطيد كما تخيلها القويري لتكون لها حدائق صغيرة من هذا النوع! جدير بالذكر أن هذا النوع من الزراعة، على حسب ما وجدت، يُستخدم لزراعة الخضروات، أي أنه "للإنتاج" وليس "للزينة" في الأغلب.


4.  الطاقة الشمسية: تحول الطاقة الشمسية إلى طاقة كهربائية تطور لا داعي للحديث كثيراً عنه!

5.طاقة الرياح: يذكر القويري أن العلم هزم العاصفة وسخر قوتها، وفي الأغلب قد يكون يُشير في ذلك إلى الرياح، وهو أيضاً شيء آخر تحقق علمياً ولا داعي للحديث عنه. وفي الحقيقة هذا اكتشاف قديم جداً ولا أعلم هل يجدر بي ذكره في هذه القائمة أم لا!

6.تحديد نوع الطفل: أيضاً هذا تطور قديم نسبياً، ولكنه أحد التقدمات العلمية التي لم تكتمل فعلاً. أعني أن نتائج تحديد نوع الجنين (ولد أو بنت) غير مضمونة وتحتاج لعمليات كثيرة وتناول أدوية كثيرة، وهي بالطبع غالية جداً (كلما أردت نتائجاً أفضلاً، كلما زاد السعر). ولكن بصرف النظر عن اكتمال تطور العملية وتوفرها للجميع فإن هذه "التكنولوجيا" موجودة بالفعل.

7. الزجاج الكاتم للصوت والطلاء الكاتم للصوت: هذه أيضاً لا تحتاج للكثير من الحديث، الزجاج الكاتم للصوت موجود ومتوفر، وقد يقوم بتقليل الضجيج بنسبة 75-95% حسب بعض الدراسات. أما الطلاء الكاتم للصوت فهو أيضاً موجود ولكن بدرجات متفاوتة من التأثير (البعض يشككون في تأثيره)، وأيضاً له بعض القيود فيما يخص الألوان المتوفرة وسماكة الطلاء.

8. حبر يُضئ في الظلام: أيضاً اختراع قديم نسبياً، ربما يكون لاحقاً على تاريخ تأليف الكتاب. وأظن أن هنالك اختلافات بين رؤية القويري وبين الرائج اليوم، حيث أن المنتشر هو تلك الأقلام والأحبار المشعة ذات الألوان الفاقعة. ولكن حتى هذه الألوان يمكن صناعة أشكال أقل "إشعاعاً" منها، ويمكنها أن تأتي في أشكال أقلام رسمية، وليس فقط أقلام ملونة مُشعة تبدو وكأنها أقلام أطفال!

9.  السحاب الصناعي والمطر الصناعي: بينما لم يتوصل العلم فعلاً إلى ابتكار سحاب صناعي يمكن تصنيعه وإطلاقه في الهواء! (أو ربما توصل وأنا ليست لدي نية للبحث!) فإن الأسلوب العلمي الأكثر انتشاراً حالياً والذي تُنفق عليه الحكومات عشرات ومئات الملايين كل سنة، هو أسلوب "تلقيح السحب" أو بترجمة أكثر حرفيةً "بذر السحب cloud seeding"، وهو يتم إما بإطلاق صواريخ أو عبر أجهزة أخرى تصدر أبخرة أو باستخدام طائرات لنثر مواد كيمائية في السحب تساعد على تكثفها وتكوين المطر. في السنوات الأخيرة الصين كانت تُنتج بهذه الطريقة ما بين 40 و55 طناً من المطر الصناعي! الصين الصين الصين...


10. فواكه جديدة: التطورات العلمية في الفواكه والخضروات لا حصر لها. فهنالك تطوير لزراعة أنواع بلا بذور، وتطورات في تسريع عملية النضج، وتغيير مواسم النضج، وتغييرات في الشكل واللون والطعم. قد لا تكون لدينا فواكه وخضروات جديدة فعلاً، ولكنها تبقى "أنواعاً" جديدة.

11.كتاب تمكن قراءته في النور والظلام: يتحدث القويري عن كتاب مطبوع بطريقة "لايت" كما يصفها، والتي تسمح للقارئ بقراءة الكتاب في النور والظلام. هذا شيء يتحقق في الهواتف الذكية وأجهزة التابلت والأجهزة المخصصة للقراءة مثل كيندل. وبالتحديد أجهزة القراءة أكثر ما تبادر إلى ذهني هنا، لأنها يتم العمل فيها على تطوير أفضل "حبر إلكتروني" و"ورق إلكتروني" يسمح بقراءة جيدة في النور وفي الظلام.

12. سوق إلكتروني: يتحدث القويري عن سوق إلكتروني يضغطون فيه الأزرار ليختاروا السلع وتخرج المشتريات من فتحةٍ ما فورياً (تقريباً، حسبما فهمت من وصفه). ربما لم نصل بعد إلى مرحلة أن تضغط على زر وتخرج السلعة عبر فتحة (كما نرى في أفلام الخيال العلمي!)، ولكن هنالك تطورات كثيرة في هذا المجال. من بينها مثلاً أنك تستطيع الذهاب لمحل وشراء حاجياتك والدفع وحدك عبر آلة دفع ذاتي (self checkout). هنالك أيضاً التسوق عبر الإنترنت، وربما هو أقرب شيء لفكرة ضغط أزرار وحسب لتصلك المشتريات. وهنالك تطبيقات في آسيا لهذه الفكرة عن طريق "سوق افتراضي"، بحيث يقوم المشتري باختيار السلع التي يريدها عبر مسح رموزها على هاتفه (وتُضاف بالتالي إلى "عربة التسوق" الافتراضية) وبعد سداد المبلغ (كل شيء في الهاتف!) يتم إيصال المشتريات إلى بيته.


13.نظارات الرؤية حرارية: أيضاً شيء لا داعي للحديث عنه فعلاً، وهي تستخدم لأشياء كثيرة، من بينها أشياء طبية وتساهم في تشخيص بعض الأمراض. وأظن أننا جميعاً نراها في أفلام الأكشن!

14. حديث عبر شاشة تليفون صغيرة: هل لديك موبايل؟ إذاً لا داعي للحديث عن هذا الأمر!
كل هذا تحقق بالفعل (وربما هنالك غير ما سبق مما ورد في الكتاب ولم أنتبه له)، وقد كان القويري صادقاً في قوله بأن بعض ما ورد في الكتاب قريب الحدوث. ولعل هذا لا يدل على خصوبة خيال القويري بقدر ما يدل على متابعته الدقيقة للتطورات العلمية التي تمكنه من استقراء المستقبل.

ومع ذلك، فلم يخلُ الكتاب من خيال، وأول ما يرد إلى ذهني الآن هو المباني الورقية و"عصر الورق"! وهنالك أمور خيالية أخرى، كالآلة اللدنة، وأجهزة الإيحاء الإلكتروني في العربات والتي تُعيد رأس السائق إلى حالتها الطبيعية مهما بلغ مقدار ما شربه من مشروبات كحولية! لا بد أن كثيرون يحلمون بهذا الاختراع الذي سيسمح لهم بشرب براميل من الخمر قبل القيادة! وهنالك أيضاً الخيال المعتاد حول السفر للمريخ وزيارة القمر، وهنالك الخيال اليوتوبي في الحلم بإنهاء الحروب وإلغاء الجيوش وإعدام المخزون النووي (تنهيدة عميقة...).

ولعل أكثر خيال أعجبني في الكتاب وأتمنى أن يتحقق هو أن إنسان المستقبل يعمل بين أربع ساعات وثلاث ساعات في اليوم!

يا رب!

كتابة مفكرات المستقبل في الماضي

الكتاب هو مفكرات رجلٌ من المستقبل، وقد ألفه القويري في الماضي، ونحن نقرأه في هذا الحاضر الذي يُعتبر مستقبل تأليف الكتاب وماضي ما جاء في الكتاب! صداع، أليس كذلك؟ نعم، هذا أثر السفر عبر الزمن! ولكن يا ليتنا كنا نسافر عبر الزمن، ففي الحقيقة أشعر بالأسف على الأستاذ يوسف القويري، فهو الرجل الذي سافر عبر الزمن وعاد لنا بأخبار العالم من المستقبل، ثم علق في نفس النقطة الزمنية، منذ سنة 1966 إلى سنة 2017... 51 سنة وهو في نفس النقطة من الزمن، الأمر عكس ما حدث لبطل رواية "المسلخ رقم 5" لكورت فونيغيت فإن كان هو قد أصبح "غير عالقٍ في الزمن" فإن القويري قد عَلِق في الزمن، والغراء الذي يثبته في مكانه اسمه الليبيين...

العالم ربما تقدم علمياً وعمرانياً وأخلاقياً وإنسانياً. ولكن نحن لم نتقدم على الإطلاق، لم نأخذ أي خطوة في أي اتجاه. ولا أتحدث هنا عن التطور العلمي بقدر ما أتحدث عن "التطور الإنساني" المذكور في الكتاب (ولعل هذا التطور هو أكثر ما أعجبني في الكتاب، تصرفات الناس، وتعامل أفراد العائلة مع بعضهم، ووضع المرأة، هي أمور أشعر بأنها أهم شيء في الكتاب)... كل شيء مازال كما كان في سنة 1966، ونحن اليوم حين نقرأ الكتاب فإننا سنقرأه تماماً كما كتب القويري نصوصه: وكأننا كنا نجلس معه وهو يكتبه ونتعجب معه من تصرفات أشخاصه.

وبعيداً عن فيضان البكاء على حالنا، وعلى سيرة فونيغيت وروايته المجنونة، فإنني أظن أن مكتبة الأدب العربي وأظن (بنسبة 90%) مكتبة الأدب الليبي تفتقران إلى أدب الخيال العلمي والأدب المستقبلي. علي الاعتراف بكل خجل بأنني لستُ متابعاً جيداً للأدب الليبي ولا حتى للأدب العربي، فمثل الكثير من القراء العاديين أجدني في العادة أقرأ المشهور القديم أو الجديد الرائج، ومع ذلك فنحن لا نسمع لا في المشهور القديم ولا في الجديد الرائج عن أي شيء له علاقة بالخيال العلمي والمستقبلي. ومن هذه الناحية فإن هذا الكتاب ستكون له قيمة على مستوى الأدب الليبي وعلى مستوى الأدب العربي أيضاً. لعل هذا الكتاب يُشجع شخصاً ما على كتابة دراسة عن أدب الخيال العلمي أو الأدب المستقبلي، أو لعله يشجع شخصاً ما على كتابة رواية أو قصص خيال علمي (هنالك الكثير من الكُتَّاب والكاتبات الشباب في ليبيا... شدوا حيلكم يا جماعة واكتبوا قصة حب على المريخ!).

لا أريد التوصية بالكتاب أو عدم التوصية به، هذا ليس سبب كتابتي لهذا الكلام (الفارغ كالعادة). الحديث عن الكتاب في حد ذاته له مكان آخر، من ناحية تقييمه فنياً وفكرياً، وهو تقييم يعتمد في الأغلب على أذواقنا الشخصية وتكويننا العقلي. البعض قد يعجبهم الكتاب ويستمتعون به ويجدون فيه إبداعاً أدبياً وقصصياً وآخرون قد يرونه عادياً ويؤدي غرضاً تعليمياً عبر أسلوب سردي وحسب، البعض قد ينبهرون بأفكار الكتاب ودروسه (الظاهرة والضمنية) وآخرون قد يرون أنه بسيطٌ ولمستوى مبتدئ... إلخ إلخ إلخ. في عالمٍ مثالي كل شخص سيقرأ الكتاب وحده ويصدره حكمه الذي يمثل رأيه الشخصي. وفي كل الحالات فهذا ليس ما أريده الآن.

هذه الكتابة فقط رد فعل مني على قراءة الكتاب ، تفاعلٌ مع ما تحمست له بدون أي إضافة نقدية حقيقية، فلا شيء جديد عندي (تسويق لاسم المدونة!). ولكن قد يكون هذا الكتاب الصغير الخفيف قد أثار رد الفعل هذا لأنني مازلتُ في مرحلة "التعرف" على يوسف القويري، وبدأتُ للتو في قراءة بعض كتبه المتوفرة على الإنترنت، وربما بسبب طبيعة الكتاب. حسناً، سوف أعترف، يا إلهي أحب الخيال العلمي وتحمست كثيراً! أعني حتى مع خيبتي في نوع الكتاب (أنه ليس روايةً مثيرةً مثلاً أو قصةً عميقةً فيها خيالٌ شاطح) فإنني مازلتُ متحمساً قليلاً له وسعيداً بوجوده في المكتبة الليبية، حتى كخطوة أولى خجولة في اتجاه أدب الخيال العلمي العميق. وبالطبع لن أنسى أيضاً أنني استلطفت "غاية" الكتاب في الإصلاح الاجتماعي والنهضة الثقافية.

وأظن أن هذا يكفي للآن...

فكرتُ في طريقة جيدة أختم بها هذه الكتابة، وقلت ربما يجب أن أكتب توصية بقراءة كتب راي برادبوري مثلاً. ثم تذكرت أن المكتبة العربية تفتقر لترجمات لأعمال برادبوري! أعني هنالك ترجمات سيئة لرواية "فهرنهايت 451"، ترجمات تبعث على الاكتئاب! وهنالك ترجمة لكتابه "الزِن في فن الكتابة". لماذا لا يوجد اهتمام حالياً بترجمة قصصه ورواياته؟ هنالك هوس في العالم العربي حالياً بالكتب التي تتحدث عن القراءة والكتابة، أظن أن هنالك اختلال في الأولويات عندنا! أعني! اقرأوا لبرادبوري أولاً قبل أن تقرأوا حديثه عن الكتابة! أوه، يبدو أنني سأُنهي هذه الكتابة بنوبة غضب...

نفس عميق، ونختم بقول: اقرأوا خيال علمي، واكتبوا خيال علمي، وشكراً.

15 مارس 2017


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق