الأحد، 26 مارس 2017

من مفكرة رجل لم يولد: يوسف القويري واستقراء المستقبل.




منذ فترة وأنا أرغب في القراءة للأستاذ يوسف القويري. وقد جاء هذا نتيجةً لقيام عدد من القارئات والقُراء من ليبيا بلفت الانتباه إلى وجود هذا الأديب الليبي الذي كدنا أن نقتله بالنسيان.


الأستاذ يوسف القويري يُعتبر من رواد الحركة الثقافية التي ازدهرت في ليبيا بعد الاستقلال وعبر الستينات، ثم اصطدمت بحائط انقلاب القذافي (أو ثورته، أنت حر!) سنة 1969. وقد واجه الكثير من الكتاب عدة خيارات مختلفة، بعضهم ارتبط بنظام القذافي (سواءً بشكل مباشر وملتصق بالقذافي، أو بشكل غير مباشر بتودد بسيط ودون صدام مع النظام)، بعضهم التزم الكتابة الأدبية بعيداً عن الأضواء، بعضهم قلل من الكتابة لدرجة أنها كادت تنعدم (وهنا سأذكر خليفة الفاخري رحمه الله كمثال)، وبعضهم شبه توقف كلياً عن الكتابة، ويوسف القويري هو أحد هؤلاء. وبحسب مقالة للكاتب أحمد إبراهيم الفقيه (موجودة على موقع ليبيا المستقبل) فإن القويري توقف عن الكتابة لما يقارب 30 سنة! ربما كان نتاجه الوحيد فيها العمل على مسرحية. حين تكون خيارات الكاتب هي السجن (وحتى القتل) أو المنفى أو الارتباط بنظام مستبد ودموي أو الصمت فإن اختيار الصمت يبدو أمراً سهلاً، ربما هو ليس كذلك بالنسبة للأديب الذي يعاني من لعنة الإبداع والمفكر الذي يحمل مسؤولية النهضة، ولكنه يبقى في كل الحالات مفهوماً.

وفي هذه الأيام، وسط كل البشاعات التي يفيض بها فضاء الإنترنت الليبي (من تعصبات جهوية، وانقسامات، وفقدان تام للإنسانية يدفع بالبعض لتداول صور الجثث والموت والدمار بشماتة وحتى باحتفال ومع إيموجيات ضاحكة!) في وسط كل هذه البشاعة قام بعض الشباب الليبيين من قارئات وقُراء بمنحنا هدية جميلة وهي إعادة التعريف بيوسف القويري ونشر بعض كتبه على الإنترنت (بعضها تم رفعها إلكترونياً من قبل حركة تنوير، وأُضيفت صفحة للكاتب على لموقع goodreads). بالطبع فإن مثل هذه "الحملة الثقافية" للتعريف بهذا الكاتب لن تخلو من متحمسين يبالغون في حماستهم ويفيض مدحهم (بنية طيبة أو بنية سيئة!)، ولن تخلو أيضاً ممن يقاومون كل جديد وينتقصون منه فوراً (ربما لتفادي الاعتراف بخجل بأنهم كانوا يجهلون بوجود هذا "الجديد القديم"!). ولكن في كل الحالات فإن أهم شيء هو عودة هذا الأديب الليبي إلى الساحة (لقد عاد حتى للكتابة ونشر نصوص على صحيفة الأيام الإلكترونية الليبية)، والشيء الآخر المهم هو القراءة، وما رافق هذه الحملة من قراءة لكتب الأستاذ القويري. وكغيري كنت من بداية هذه الحملة أرغب في القراءة للأستاذ القويري والتعرف على أعماله.

الكسل والحيرة في القراءة، والمزاج الملعون الذي يدفعك من كتاب لآخر ومن موضوع لآخر ويجعل مجرد التفكير في الالتزام بقائمة قراءة أو جدول معين أمراً مثيراً للضحك (من شدة كونه مثيراً للخجل!) كل هذا عطلني كثيراً عن القراءة للقويري. ولكنني أخيراً تحمستُ قليلاً لكتابه "من مفكرة رجل لم يولد". لقد قرأتُ عنه نبذاً قصيرة تصفه بأنه رواية خيال علمي. خيال علمي! أنا أحب الخيال العلمي! والمؤلف كاتب يمتدح كثيرون براعته الأدبية، ويمدح كثيرون فكره وثقافته، وهو ليبي! رواية خيال علمي ليبية كاتب ليبي يعتبر من رواد الأدب والفكر في ليبيا! لا بد أن أقرأها!

طبعاً بعد هذه الحماسة تعطلتُ قبل قراءة الكتاب كثيراً (الحيرة في القراءة يجب أن تُصنف على أنها مرض نفسي حقيقي!). ولكنني قمتُ أخيراً بقراءته!

الأحد، 12 مارس 2017

نورس في محل بقالة.


في سنة 2010 (تقريباً) تعرفتُ على حسين. كنت أُقيم في شقة والدي في تلك الفترة، وحين كنتُ أنتهي من العمل حوالي التاسعة أو العاشرة ليلاً، كنت لا أعود للشقة مباشرةً ولكن أمر على منزل جدي وأمضي بعض الوقت هناك، أو أبقى هناك قليلاً ثم أذهب للقاء أحد الأصدقاء، الأمر يعتمد دائماً على موعد مغادرة العمل، وعدد المشاغل في بيت جدي، وفوضى الحياة بصفة عامة. في الأغلب كنتُ أعود للشقة متأخراً، وأعود متأخراً جداً في نهاية الأسبوع.

في طريقي إلى الشقة كنت أحياناً أتوقف عند محل صغير أشعر تجاهه بالعرفان، فبعدما تنام بنغازي كلها وتمتلئ شوارعها بالظلام والهدوء كان هذا المحل الصغير يبقى مفتوحاً – قنديلاً دافئاً في طريقي إلى الشقة. كنت أدخل، أُلقي السلام، أخذ بعض الحاجيات للعشاء، أطلب علبة سجائر، أدفع، أُخرج بعد إلقاء التحية وصاحب المحل يودعني مع عبارة "يا راجل يا طيب".

الكثير من الليالي كانت تمر هكذا.

أركن سيارتي أمام المحل. أدخل مُلقياً التحية، أجمع حاجياتي، ربما أسأل عن نوع السجائر المفضل عندي ويأتيني الرد باعتذار تليه "يا راجل يا طيب". أغادر المحل إلى الشارع الهادئ، وأعود إلى الشقة في أعلى طابق لعمارتنا القديمة – وهو الطابق السابع وحسب، ليست ناطحة سحاب!

المحل كان محلاً تقليدياً جداً، كل تفاصيله هي تفاصيل محل الشارع الصغير، بدايةً من وجوده في زاوية الشارع، وجلوس صاحب المحل في الشارع على كرسيه، ذلك الكرسي الخشبي الذي يرفضون أن يتركوه يموت فكله مليء بالأخشاب المختلفة والمسامير والإصلاحات المتتالية، وصولاً إلى توافد شباب الشارع المستمر لطلب قداحة أو لأخذ الكرسي الفارغ من داخل المحل ليجلسوا أمامه. حين تدخل تجد أمامك الرفوف الموجودة وسط المحل، تقابلها من الجهتين رفوف ترتفع إلى السقف على جداري المحل، وفي نهاية المحل تمتد الثلاجة على الجدار الخلفي. على يسارك في الأعلى التلفاز الصغير القديم (كل تفاصيل المحلات الصغيرة!)، وعلى يمينك المنصة (الكاصة) التي يجلس وراءها صاحب المحل. المنصة خشبية، وسطحها عبارة عن صندوق مستطيل زجاجي، ترى أسفل الزجاج أنواع السجائر والحلوى ويد صاحب المحل حين تمتد أسفل الزجاج لتُحضر لك ما طلبته.

أسفل هذا الزجاج كنتُ أرى أيضاً كتباً...

لقد شدت الكتب انتباهي لأنها كانت كُتب الصادق النيهوم. أحد الكتاب الذي يعجبونني، وأحد أبرز الكتاب والمفكرين الليبيين. لقد جذبني ذلك فوراً لصاحب المحل. كثيرون جداً يتحدثون عن النيهوم، ولكن قليلون من يقرأون له (وهذا حال كل الكتب والكتاب بصراحة). كنتُ دائماً أرغب في أن أتحدث مع صاحب المحل، لكن خجلي كان يغلبني كل مرة كما يبدو.

في النهاية تمكنتُ من الحديث معه.