الأحد، 26 يوليو 2020

السعداء لا يكتبون



مررتُ على اقتباسٍ يقولُ إنّ السعداء لا يكتبون. وعندي مشكلة، أو مشكلتان، أو أكثر مع الفكرة!

أوّل ما استدعته ذاكرتي مقابلةً أجراها بلال فضل مع هشام مطر؛ لا أتذكّر تفاصيلها حرفيًّا، وأنا بصراحة أكسلُ من أن أعودَ إليها (ولكنّني لستُ أكسل من أن أُحضر رابطيْ المقابلة! رابط الجزء الأوّل، رابط الجزء الثاني). بعيدًا عن كسلي، وبالالتفات إلى ذاكرتي التي قد تكون أنشط من كسلي (بطبيعة الحال!)، فإنّني أتذكّر أنّ هشام مطر تحدّث عن اكتئابٍ يُصيبه حين لا يكتب، عن تناقصٍ في متعة الحياة وقيمة الوقت، وعن أنّه ليس مُحصّنًا ضدّ المشاعر السوداء. علّق بلال فضل قائلًا إن هذا أمرٌ مفهوم ومتوقّع نسبةً إلى الحياة التي عاشها هشام! ضحك الاثنان، ثم روى هشام قصةً طريفة عن شخصٍ التقى به. كان الشخص مُعجبًا بأعمال هشام وراغبًا في لقائه، ولكنهما حين التقيا أخيرًا وتحدّثا لفترةٍ من الزمن، كان في هيئة الشخص تشنّجٌ يشي بعلامة استفهام، كما يصفه هشام. فجأةً انفلت الشخص وقال له بصراحة إنّه توقّع أن يكون هشام شخصًا جادًّا ومتحفّظًا، فإذا به يلتقي بإنسانٍ طبيعيّ، رجلٍ يتحدّث بأريحية ويضحك!

هل لنا أن نلومَه على توقّعه ذاك؟ إن كان قد قرأ روايتي هشام "في بلاد الرجال" و"تشريح اختفاء"، فلا يُلام أبدًا على ما تشكّل في ذهنه من صورة كئيبةٍ وسوداويّة لمؤلّف تلك الروايتين المؤلمتين!

أمرٌ آخر خطر ببالي، يتعلّق بكاتبٍ آخر، شيخي تولستوي (كما توقعتم بالضبط!). لم أقابله شخصيًّا بالطبع، (أرجو من المشتغلين على ابتكار آلة للسفر عبر الزمن أن يُسرعوا قليلًا)، ولكنني تعرّفت على الشيخ بتدرّجٍ اعتيادي. بدأ شغفي به بقراءةٍ في أعماله الأدبيّة، ثم ما لبثتُ أن شُغفت بالأعمال الفكريّة أيضًا. كنتُ قد وقعتُ في الحب، ولكن صورة تولستوي عندي كانت صورةً افتراضية نمطيّة، كوّنتها كما كوّن ذلك الشخص صورته عن هشام مطر: تخيلتُ تولستوي شيخًا جليلًا جادًّا وكئيبًا. مُبدع هذه الأعمال العميقة، المُفكّر الجادّ الملتزم الناشط في قضاياه الفكريّة والاجتماعيّة، المُصلح الاجتماعي والواعظ الدينيي، كيف كان لي أن أتخيّله إلا وقورًا؟ الوقار بالمعنى المنقوص المعتاد، المعنى الذي يسلب من الرجال والنساء بعض صفاتهم الإنسانية (الضعف، الفكاهة، المتعة، السعادة، إلخ) مقابل صفات مُترفّعة. بعد ذلك، بعد وقوعي في الحبّ جدًّا، شرعتُ أقرأ أكثر في سيرة الشيخ. وصُدمت! نعم، لقد كان شيخًا وقورًا، مُصلحًا ملتزمًا بقضاياه، بل حتى مُفكّرًا وأديبًا مكتئبًا وحزينًا ويزعم أنّه لم يعرف السعادة يومًا في حياته (وهو زعمٌ رفض تشيخوف تصديقه، ربّما لرِقة قلبه ورِقة صداقته بتولستوي، بينما صدّقه غوركي المتشائم دون تشكيك). ولكنّني وجدتُ شيئًا آخر، بل أشياء أخرى، وجدتُ إنسانية تولستوي الكاملة: الأب الذي يلعب مع أطفاله، بل والذي يتآمر مع أطفاله في إعداد مقالب لضيوف المنزل؛ الزوج الذي يعاني مشاكل حادّة مع زوجته؛ الأب المُقرّب روحانيًا وفكريًّا من بناته؛ الشخصية الشهيرة الخجولة التي لا تحب المحافل والاحتفاء؛ الصديق الذي يتحدّث بأريحية وبألفاظٍ سوقية (يقول غوركي: حين كان تولستوي يتلفّظ بها، كانت تكتسب جمالًا عجيبًا!)؛ الصديق الذي يُمازح أصدقاءه وضيوفه ويحرجهم (غوركي راح ضحيّة مشاغبات وأسئلة مُحرجة!)؛ الناقد الساخر الذي يمزّق كتابًا رديئًا بجملةٍ واحدة؛ الشيخ الذي يُحبّ المشي والتجوال والذي يُصفّر مع الطيور في جولاته، أو يقفز ويلاحق أرنبًا بريًّا بمتعةٍ طفولية، أو يتوقّف ليتحدّث مع سحليةٍ تتشمّس في الطريق!

الصور التي نُكوّنها عادةً ما تكون محكومةً بمفاهيم تقليديّة لا شيء يُبرّرها سوى الجهل؛ وأعني هنا الجهل بالآخرين. هذا الجهلُ قد ينتجُ عن تقدير، مثل حال ذاك الشخص المعجب بهشام مطر، وحالي أنا مع تولستوي. وهذا التقدير قد يؤدي إلى صناعة صورة رومانسية مثاليّة (أي رمسنة أو رمنسة، مش مهم)، تغفلُ عن كثيرٍ من الصفات بينما تضخّم أخرى تتّسق مع الصورة النمطيّة تلك، مثل الجديّة والحزن والكآبة. وهكذا تصير السعادة والفكاهة والمتعة أشياء عابرة وتافهة، والأدهى من ذلك أنّها تصير أشياء غير معينةٍ على الخلق والإبداع؛ فالسعداء لا يكتبون!

وجودُ تجربة واحدة لا ينفي وجود تجارب أخرى، مثلما أنّ وجود صفة إنسانيّة واحدة لا ينفي وجود صفات إنسانيّة أخرى (وقار تولستوي لا ينفي فكاهته، وأسى كتابات هشام مطر لا ينفي المرح في شخصيّته). المشكلة في خلقِ صورٍ مُطلقة: صورة الكاتبة السوداوية المنعزلة، صورة الشاعر المتهوّر المكتئب، صورة الشيخ الوقور حدّ الملل، صورة الكاتب المُعذّب بماضيه أبد الدهر. الرمسنة تأليهٌ لصورٍ معيّنة تُلغي إمكانية وجود تجارب مختلفة.

تجربتي مختلفة (نعم، سأتحدّث عن نفسي). ثمة كُتاب وكاتبات وشاعرات وشعراء يكتبون ألمًا وحزنًا. تجربتي لا تنفي تجربة غيري، ولكنها قد تكشفُ اختزاليّة الرمسنة. أول خطوة لمواجهة التنميط هي الاعتراف باختلاف تجارب المكتئبين والمكتئبات. فلعلّنا نُميّز بين طريقتين في التعامل مع الاكتئاب: الخوض في الألم، أو الهروب من الألم. قد أكون ممن يهربون ويهربن بالكتابة. بعض تدويناتي على هذه المدوّنة تبدأ بالحديث عن الكآبة ومحاولاتي للهروب منها. وأعرف أنّ بعض التدوينات الأخرى كُتبت في أوقاتٍ صعبةٍ جدًّا من حياتي، فحتى إن لم أذكر فيها أنّني أفرّ فزعًا من الكآبة، فأنا أعرف أن هذا ما كنتُ أفعله. الفرار من الكآبة يجعلها "مكانًا"، يعني أنني كنتُ أفرّ إلى مكانٍ آخر، فما هو هذا المكان؟ لا بدّ أنّه السّعادة، أو ربّما النسيان المؤقّت. حجبٌ مؤقّتٌ للكآبة، لكنّه يسمح برؤية السّعادة التي كانت قبل ذلك محجوبة؛ ولكنّ الهاربين والهاربات إلى السّعادة لا يكتبون؟

الصور النمطيّة لا تتوقف عند تجاهل اختلاف التجارب، ولا عند التشكيك في تجاربنا الشخصية التي لا تطابق تلك الصور. مشاكلي كما ذكرتُ في البداية كثيرة! الصور النمطيّة لا بدّ أن يكون فيها تجاهلٌ للحالات النفسيّة التي نعيشها. إنّها تنتقي تجارب معيّنة وترمي بأخرى حتى تصل إلى نتيجة نمطيّة؛ نتيجة خاطئة في أغلب الأحيان، ولكنّها خفيفة ظريفة وسهلة الهضم: السعداء لا يكتبون.

فمن الذي يكتب؟ من ليس سعيدًا.
لماذا تكتب التي تكتب؟ لأنّها ليست سعيدة.
متى يكتب الرجال والنساء؟ حين لا يكونون ولا يكنّ سعداء وسعيدات.

هل تتضمّن هذه الإجابات الثلاث كلّ الاحتمالات الممكنة؟ لا، بالطبع. وكذلك إجابة أو قاعدة السعداء لا يكتبون لا تتضمّن كلّ الاحتمالات الممكنة. وهذا ما قد يدفعنا إلى قلب هذه القاعدة إلى سؤال، مثلما نفعل (أو يجدر بنا أن نفعل) مع كل المسلّمات التي نرمسنها ونتداولها دون تشكيك.

السعداء لا يكتبون؟
يمكننا الردّ على السؤال بطرح أسئلة أخرى: ماذا نفعل بكلّ النصوص التي كُتبت بسبب تجارب سعيدة؟ ماذا نفعل بكلّ الكُتّاب والكاتبات الذين يقولون إنّهم لا يشعرون بالسعادة إلّا حين يكتبون؟ لستُ مبدعًا أو كاتبًا على سنّ ورمح، ورغم أنّني أعاني من الكآبة، إلّا إنّني كتبتُ وأكتب وأنا سعيد. حين رحمني الله بالحبّ وأنقذني من الظلمات بنور حبيبتي، حين صرتُ سعيدًا حقًّا لأوّل مرّةٍ في حياتي؛ صرتُ أنشط، أكتب وأقرأ وأعمل أكثر. فكيف حدث هذا إن كان السعداء لا يكتبون؟

السعداء لا يكتبون؟
طريقةٌ أخرى للإجابة عن السؤال، ليس بطرح أسئلة، ولكن بإجابة طويلة فيها عشرون كلمة متشابهة: السعداء لا يكتبون ويكتبون، والسعيدات لا يكتبن ويكتبن، والمكتئبات يكتبن ولا يكتبن، والمكتئبون يكتبون ولا يكتبون. هذه ليست إجابة، صح؟ يعني، قلتُ فيها كلّ شيء، الجميع يفعلون ويفعلن ولا يفعلون ولا يفعلن في ذات الوقت! كيف؟! ببساطة لأن هذه إجابة تُوضّح عبثية السؤال، فنحن إن أردنا التحدّث عن "الجميع" فلا بدّ أن نتحدّث حقًّا عن الجميع، وهذا يعني أن نرمي في القمامة تلك الصور الرومانسية النمطيّة، التي تحاول اختزال "الجميع" في اقتباسٍ شاعريّ يتحدّث عن تجربةٍ واحدة.

صياغة أخرى للقاعدة: الجميع يعيشون ويعشن تجاربَ متنوّعة.

تحدٍّ أخير للسؤال العبثي: أنا سعيد، في قمّة السعادة، وكتبتُ هذا التدوينة. علّل!

26 -7- 2020