منذ فترة اكتشفتُ أنني
ارتكبتُ خطأً فادحاً. رواية "في بلاد الرجال" لهشام مطر صدرت سنة 2006،
وأنا بكل حماقة تعطلتُ في قراءتها 11 سنة! خطأ فادحٌ فاضح في هذه الحياة التي لا
وقت فيها لقراءة كل شيء ولذلك نتمنى أن نقرأ ما يستحق القراءة قبل أن تُغلق كل
الكُتب. ولكنني حاولت تصحيح هذا الخطأ. قرأتُ "في بلاد الرجال" سنة
2017، بعد 11 سنة من صدورها، ولكنني قرأتُ كتاب "العودة" المدهش
سنة 2017، هذه المرة سنةً واحدةً فقط بعد صدور الكتاب في 2016. تقدمٌ جيد، أليس
كذلك؟ حسناً، لقد حرصت على أن أتقدم أكثر.
كتاب هشام مطر الجديد
"شهر في سيينا" A Month in Siena صدر بتاريخ 17 أكتوبر 2019. لماذا
أعرف تاريخ صدور الكتاب بهذه الدقة؟ لأنني لأول مرةٍ في حياتي أطلب كتاباً قبل
صدوره، وقد وصلني عبر البريد بتاريخ 17 أكتوبر بالضبط. لقد حاولتْ الظروف
أو الصروف أن تتواطأ ضدي وضد الكتاب، هذه مشاغل وهذه هموم وهذه صاحبة الفخامة
الكآبة وهذه حوادثٌ مؤلمة، ولكن هذا التواطؤ لم ينجح إلا في تعطيلي أسبوعين أو
ثلاثة فقط!
حين قرأت "في بلاد
الرجال" صُدمت: كيف تعطلت لهذه الدرجة؟ كيف لم أنتبه لهذا الكتاب الممتاز
ولهذه الرواية التي قد تكون إحدى أفضل الروايات اللاتي قرأتهن؟ وحين قرأت
"العودة" لم أُصدم، بل فقط تأكدت أن هشام مطر كاتبٌ وشاعرٌ حقيقيٌّ
جداً، وشعرتُ بأن "العودة" كتابٌ اقترب كثيراً من درجة الكمال. والآن
وقد قرأت "شهر في سيينا" فها أنا ذا أزداد يقيناً فوق يقيني بأن هشام
مطر من أفضل الكُتَّاب المعاصرين.
اللغة تشبه الذاكرة
أليس كذلك؟ نستخدم كلمات من ذاكرتنا للتعبير عن شيء جديد أو بالأحرى لتذكير بعضنا
بعضاً بشيء قديم لنفهم شيئاً جديداً. وأظن أن المقارنة كذلك نوعٌ من أنواع اللغة
الذاكرية. ولذلك سأبدأ بهذا الاستذكار: لقد ذكرني الكتاب بإدوارد سعيد وخورخي لويس
بورخيس وعبدالفتاح كيليطو. سنجد عقلانية وأناقة إدوارد الأكاديمية، وسنجد شغف
بورخيس بالتفاصيل والأحلام والخيال، وسنجد فضول كيليطو وهو يحاول فك ألغاز الأعمال
الفنية. ولكن هذا لا يعني أن هشام مطر ليس موجوداً، بل موجود، فالعقلانية عقلانيته
والأناقة أناقته، والشغف شغفه وأحلامه وخياله، والفضول فضوله، واللغة لغته الرائعة
المدهشة بدقتها. ولهذا السبب كذلك، لحضور هشام في كتابه الجميل هذا، فقد ذَكَّرني
بكتاب "وليمة متنقلة" لهيمنغواي، ذلك الكتاب الصغير الذي أهديت منه
نسخاً عديدة، والشيء بالشيء يُذكر فقد تحدثت وأوصيت وأعرت وأهديت كتابي هشام مطر
"في بلاد الرجال" و"العودة" عدة مرات كذلك. وهذه الذكرى
القديمة عن كتاب هيمنغواي الذي كتب فيه عن تجارب شبابه في باريس بجمالٍ حميميٍّ
(أو ربما بروستي) مُدهش تقودني لوصف الذكرى الجديدة التي هي كتاب هشام هذا.
"شهر في
سيينا" كتاب يتحدث فيه هشام عن شهرٍ أمضاه في مدينة سيينا الإيطالية بعد الانتهاء
من تأليف كتابه "العودة". "العودة" كتابٌ جميلٌ ويقترب من
درجة الكمال كما ذكرتُ سابقاً، ولكن جماله هو ذاك الجمال الشاعري، جمال قصائد
الرثاء التي تتمكن بمعجزةٍ سليمانية من تذويب فضة الحزن وتشكيل الجمال منها. حين
كتبت عن "في بلاد الرجال" قلت إنه كان كتاباً مرهقاً،
"العودة" لم يكن مختلفاً في إرهاقه العاطفي الجميل. في كتاب
"العودة" يذكر هشام عادته في الذهاب إلى المتاحف ليختار لوحةً ويقف
أمامها لزمنٍ طويل يدرس كل تفاصيلها. هكذا قد نفهم لماذا قرر هشام أن يذهب إلى
سيينا ليشاهد اللوحات السيينية الغامضة التي قال عنها:
"كانت
تقف منفردةً، لا من العصر البيزنطي ولا من عصر النهضة، طفرة بين الفصول، مثل
الأوركسترا تُدوزِن أوتارها في الاستراحة."