السبت، 2 مارس 2019

المدن غير الموصولة: وللعبقرية مفاتيح أيضاً.







هذا الكتاب الرشيق الأنيق تحمستُ له جداً عند صدوره. ركضتُ خلفه إنترنتياً حتى تمكنتُ من شرائه، والفضل في ذلك يرجع لناشري الكتاب: دار بلسم؛ فقد سألتهم مرة عن شراء الكتاب من خارج مصر، ولم ينسوني! بل تابعوا الموضوع معي وأشاروا علي بمحاولة شراء الكتاب من مكتبة ديوان. اشتريته فوراً، وبقيتُ لقرابة أسبوع أتفقد البريد كل يوم، مع أني من المفترض أن أعلم أن الموضوع قد يأخذ وقتاً، بريد دولي وما نحو ذلك، لكن كل يوم أُلقي نظرةً متشوقة على كومة البريد في المبنى. وحين وصل الكتاب، فوراً أخرجته من طرده وجلستُ أقرأه وبصراحة أنقذني من يومٍ آخر من الكآبة واللافائدة.

لماذا تحمستُ للكتاب كل هذا الحماس؟ حسناً... من أين نبدأ...

الكتابة: محمود قطب

هذا تقسيم غريب لهذه التدوينة، لكن أظنه مفيد. على كل حال، نعم، فلنبدأ بالكتابة. الكتاب مجموعةٌ من القصص القصيرة، تتفاوت ما بين بضعة أسطر إلى صفحتين أو ثلاث، في كتاب من القطع المتوسط، باللغة العربية. حتى الآن كل شيء طبيعي والأوضاع مستقرة، ولكن اسمحوا لي بأن "أدخل عليكم بالعرض" كما يُقال وأن أخبركم بأنها قصص ذكرتني بجبران خليل جبران وتولستوي وبورخيس! مفاجأة؟ حسناً، قد لا تكون مفاجأة لك أيها القارئ العزيز، ولكنها كانت مفاجأةً لي! وقبل أن يتحمس أحد ويقول لي هدي أعصابك وخف علينا، أرجو متابعة القراءة.

سأعترف بأن توقعاتي للكتاب كانت عالية قليلاً، لديَّ اطلاعٌ بسيط على كتابات المؤلف، وكنتُ متحمساً لإخراج الكتاب الذي سيجمع بين النصوص والرسومات. ولكني كنتُ أتوقع شيئاً مثل الكوميكس (القصص/الروايات المصورة)، ولم يخطر ببالي أن تدفعني نصوص الكتاب إلى استحضار عظماء مثل جبران وتولستوي وبورخيس! فكيف ذكرتني هذه القصص بهم؟ دعونا نطرح سؤالاً آخر قبل ذلك: ما تصنيف هذه القصة؟

أهي قصص أطفال؟
قصصٌ للنشء والمراهقين؟
أم قصصٌ للبالغين؟

بصفتي أنتمي إلى فئة البالغين (على الأقل وفق شهادة الميلاد) فإجابتي على هذا السؤال أن نصوص الكتاب نصوص "مُتجاوزِة" أو "مُخترِقة". ماذا تتجاوز وتخترق؟ التصنيفات العمرية أو الأدبية. هذه القصص تتجاوز وصفها بأنها قصص للأطفال، وتخترق وصفها بأنها للنشء، وتصل إلى البالغين وربما تتجاوزهم كذلك (ملحوظة عابرة: أتحدث الآن عن القصص، لكن هذا الكلام ينطبق على الكتاب كله!). لقد ذكرتني القصص بتولستوي مثلاً لأنني ربطتها بالقصص التي كتبها تولستوي للصغار، وأذكر قصصه للصغار ليس للانتقاص من قيمة "المدن غير الموصولة" بل لبيان شيء عبقري في الكتاب، فمن مظاهر عبقرية تولستوي (الذي هو تاج راسي وراسكم) اتقانه لكتابة أدب الأطفال والنشء (وحتى الأدب الوعظي الموجه للكبار) بحيث لا تقول القصة مباشرةً ما الدرس الذي يجب علينا تعلمه، ولكنها تعلمنا الدرس عن طريق الحكاية وحدها. مثال ذلك مثلاً قصة "تخيل مدينةً نصف مغمورة في البحر"، أو قصة "تخيل مدينة معلقة في الهواء"، أو قصة "تخيل مدينة يراها سكانها مستودع الحكمة"، أو كل القصص في هذا الكتاب الصغير الرائع! الفكرة تصلك بوضوح أيها البالغ المثقف ما شاء الله عليك! وإن كنتُ مراهقاً أو حتى طفلاً فإنك ستشعر بالدرس، ستفهمه. وهذه القدرة التعليمية لقصص هذا الكتاب هي من مفاتيح العبقرية الكامنة فيه.

ولكن، هذه القصص ليست فقط للأطفال أو المراهقين، فقد ذكرتني كذلك بجبران وقصصه الرمزية. قصص جبران الرمزية لا أظنها مكتوبة للأطفال، فهي فلسفية أكثر من أن يفهمها الصغار، ولكنها تحمل ذلك الطابع الطفولي والبسيط، وهنا سأستحضر تولستوي من جديد، لأقول بأن "البساطة" في الكتابة، سواءً لغوياً أو سردياً، ليست عيباً بل فناً لا يُتقنه كثيرون. وهذه الرمزية في قصص محمود قطب لا تتوقف عند الرمزية الفلسفية الجبرانية (لعل أبرز مثال عليها قصة "تخيل مدينةً نصف مغمورة في البحر" أو قصة "تخيل مدينةً بلا خريطة")، بل تصل أيضاً إلى مستويات الرمزية العجائبية البورخيسية، وهنا لا أحتاج لمثال لأن كل المتاهات التي تلف وتدور في مدن محمود قطب لا بد أن تستحضر للذهن بورخيس، ناهيك عن قصص السكان وعاداتهم الغريبة والعوالم العجيبة التي ابتكرها محمود قطب. فالقارئ البالغ عمرياً، ولو أن بلوغ بعض القراء عقلياً مشكوكٌ فيه، ولكيلا يزعل أحد فأنا أقصد نفسي! أين كنا... القارئ البالغ، الذي يُتوقع منه أن ينظر أبعد من مجرد حبكة أو خيال قد يشد الصغار، سيجد في هذه القصص الكثير من المعاني والحكم، ولعله سيُفكر مثلي: هذه قصة يمكن إسقاط معناها على أوضاع هذه البلاد أو تلك، وهذه قصة يمكن إسقاط معناها على هذا الخلاف الفكري، وهذه قصة يمكن إسقاط معناها على هذه الظاهرة الاجتماعية أو النفسية، إلخ إلخ إلخ. وهذا ثاني مفتاح من مفاتيح عبقرية هذا الكتاب: الرمزية البارعة. وأقول الرمزية "البارعة" لأنني فاشلٌ في الكتابة ولم أجد كلمة أصف بها الرمزية التي لا تكون واضحةً لدرجة الابتذال ولا تكون غارقةً في الغموض لدرجة الامتناع! فقلتُ أنها بارعة لأنها جاءت موزونةً توازناً بارعاً. يعني، برع الكاتب في الكتابة البارعة ببراعة. وصلت؟ تمام.