الخميس، 29 يوليو 2021

عن العرفان: قراءة في كتاب "مدخلٌ جانبيٌّ إلى البيت" لأمل السعيدي

 




ماذا أريد من القراءة؟ لا أعلم بالضبط. أحسبني قرأتُ ما يكفي لتصير القراءة جزءًا مهمًّا من حياتي، ولذلك لا أعلم إن كنتُ أستطيع أن أُعدّد ما أريده منها. لعلّ الأمر يشبه الحبّ بطريقةٍ ما؛ لا أعلم ماذا أريد من الحبّ لأنني أريد كلّ شيءٍ من الحبّ! أريد كلّ كلامه، وأريد كلّ صمته. أريد من الحبّ كلّ نقاشاته الجادّة التي تنتهي بسخريتنا من "برجوازيتنا الثقافيّة"، وأريد منه كلّ مزاحه وتفاهته التي تنتهي بقول أحدنا باستسلام "الله غالب عليا، علقت!". أريد من الحبّ ضعفي وهشاشتي ومواساة حبيبتي لي، وأريد منه قوّتي وثباتي ومؤازرتي لها، أريد أن أقول "اربطي قلبكِ إلى قلبي" وسط العاصفة وبعد العاصفة. أريد ما فيه من خوف "أنت مراسي غربتي، ولازم أخاف"، وأريد كلّ ما فيه من يقين "لستِ التي اخترتها / ولكنكِ الوحيدة الحتميّة". لقد أحببتُ أعظم امرأة في العالم، ولذلك أريد منها، من الحبّ كلّ شيء؛ فلا أستطيع أن أرتّب "كلّ شيء" في قائمةٍ متّسقة أو أُعدّده في فقرةٍ شاعريّة عاطفيّة. أريد كلّ شيء من الحبّ ومنها.

ربّما في هذا المثال توضيحٌ لتساؤل ماذا أريد من القراءة؟

هذه ليست كتابة عن الحبّ والقراءة –، إنّها محاولة للكتابة عن كتاب "مدخلٌ جانبيٌّ إلى البيت" لأمل السعيدي، الكتاب الذي طرحتُ على نفسي سؤال "ماذا أريد من القراءة؟" كثيرًا أثناء قراءته؛ لأنّه منحني الكثير مما أريده من القراءة.

أرجو أن يُسمح لي بانعطافٍ آخر قبل الحديث عن الكتاب: كلنا نعرف تلك التجربة في القراءة حين نرى أنفسنا في النصّ الذي نقرأه. في مقابلة مع الكاتب هشام مطر، ضمن فعاليات مهرجان لاهور الأدبي لهذه السنة، تحدّث هشام عن هذه التجربة قائلًا إنها قد تكون أقوى تجربة في القراءة وأكثرها تأثيرًا، ووصفها بأنها تلك اللحظة التي نجد فيها أنفسنا أو نتعثّر فيها بأنفسنا فجأة في عالمٍ كنا نظن أنه مختلفٌ عن عالمنا، حين نقرأ عن لحظةٍ حميميّة كنا نظنها خاصةً بنا ثم نجدها قد كُشفت على يديّ تلك الكاتبة أو ذاك الكاتب. لعلّنا نستطيع تسمية هذه التجربة "الألفة". ثمّة مؤانسة في تجربةٍ تؤلّف بين شخصين من عالمين مختلفين وبحياتين مختلفتين (مثلًا امرأةٌ عُمانية ورجلٌ ليبيّ)، عن طريق كشف لحظات وأفكار ومشاعر خلناها خاصّةً بنا، بوحدتنا. لذلك أظن أن الكثير منا يتفق مع هشام مطر في أن هذه الألفة، هي بالفعل من أقوى وأعمق تجارب القراءة. لعلّ هذه الألفة هي من "الكثير" الذي أريده من القراءة، ولقد وجدتُها في كتاب أمل.

يُنسب لسي. إس. لويس قوله إننا نقرأ لنعرف أننا لسنا وحيدين في هذا العالم. كثيرًا ما قرأتُ بدافع هذه المقولة، محاولًا دفع الوحدة وتبديد الوحشة (قبل أن يغالبهما الحبّ). أذكر أنني وصلتني نسخةٌ من "شفرة دفنشي" بعد صدورها بفترة قصيرة، ولم أتحمس أبدًا لقراءتها. أعرتُ نسختي لخمسة أشخاص قرأوها قبلي! وفي يومٍ من الأيام كنتُ أشاهد تقريرًا عن الكتاب في الأخبار، ذُكر فيه انتشار الكتاب بين ملايين القرّاء والقارئات. حينها فقط قرأتُ الكتاب، لكي أعرف أنني لستُ وحيدًا في هذا العالم. لا أظن أن الأستاذ لويس كان يقصد إحصائيات المبيعات والقراءة، ولكن معليش هذه مجرد دراما شخص كان يعاني بشدّة من الوحدة، فمشّيها يا عمّ كلايف. لعلّ ما يقصده لويس هو ما تحدّث عنه هشام وما تشعر به قارئات كثيرات ويشعر به قرّاء كثر: تلك الألفة التي تواسينا بواقع أننا لا نخوض ما نخوضه وحدنا. إنها ألفةٌ وجدتها كثيرًا في كتاب أمل، ألفةٌ تعرفها أمل جيدًا: "الأدب لم يدفعني لما أنا عليه الآن، بل كان طريقتي في التعرف على أسماء الأشياء، لطالما كنت ضعيفة، ولم أعرف أن للحزن مفردات عديدة، تستطيع في كل مرة أن تذيب المسافة بيني وبين العالم." نتعلّم أسماء الأشياء، ليس بوحيٍ يُؤكّد تفرّدنا ووحدتنا في هذا التفرّد، ولكن بتضامنٍ يُبدّد تلك الوحدة: لقد اختبر آخرون كُثر الحزن مثلنا، وها هم يعلموننا أسماء الحزن. إنها بالفعل أُلفة تضامن ومواساة: "لدي تقدير كبير للعزلة، وإيمان بها، لا على سبيل التعفف من محاولات الآخرين، بل لأنني لا أرى فيهم أكثر مما أراه في نفسي، فلا أتخيل حالًا غير التعب، وبأنني لستُ وحيدة على هذه الضفة فكل الناس معي، حتى وإن بدا عليهم ما يخالف ذلك. كل الناس متعبون." كلّ الناس متعبون، وكلّ الناس متضامنون في ذلك، وكم هي رحمةٌ جميلة أن تُكتب كتبٌ فيها هذه الألفة لتبدّد وحدتنا، كتبٌ مثل كتاب أمل بالنسبة لي.

 

أعود للكتاب، ولا أعرف من أين أبدأ...

لقد اختبرتُ الغربة كثيرًا، بدأت في وسط مدينتي وبين أهلي، عشتُ في ثلاثة بيوت مختلفة في بنغازي، بين عائلتين، دون انتماءٍ حقيقيٍّ لأهلٍ أو جيرانٍ أو أصدقاء.  يتولّد لدى المرء منا شعورٌ غريبٌ بالانفصال، بالانفكاك والتخلخل الدائم، شعورٌ وصفته أمل: "وليست لدي غرفة واحدة في كل بلادي، لي أماكن مؤقتة عديدة، لي انتقال مستمر، وليس لديّ أبدًا نفسي." الغربة التي تبدأ في "الوطن" تلازمنا طويلًا. تتشكّل في داخلنا على هيئة تناقضٍ غريب: نرتبط ارتباطًا وثيقًا بالوطن، بالبيت، بأوّل أرضٍ مسّ جلدَنا ترابُها، ومع ذلك ننفصل عن كلّ شيء رغم حضورنا فيه. في نصوص "مدخلٌ جانبيٌّ إلى البيت" تفيض عُمانيّة أمل، تفاصيل بيت العائلة والطفولة، تفاصيل القرية، مسقط، والطرق الواصلة بين كلّ تلك البيوت والأوطان، ولكن تحضر الغربة بقوّةٍ أيضًا، ليس فقط في السفر (تحضر الكويت بحبّ في الكتاب)، ولكن حتّى في الغرف، في البيوت والطرق والمقاهي وستائر الشقق المسدلة والجدران الفارغة إلا من قصيدة. إنّه ذلك التناقض الغريب، الانتماء والانفكاك، الرحيل والرسوخ، وما بينهما من تردّد: "لم أخرج من تراب القرية، وفي يدي أصابعها، أما لغتي فهي ذلك التردد في كل شيء يتعلق بها..." نرتبط بكلّ ذلك "رغمًا عن [غربتنا] الكبيرة فيه" (باقتباس كلمات أمل بتصرّف).

ثم – ربّما بتبرّمٍ من كآبتي الدائمة – قرّر القدر أن يُذيقني مرارة الغربة خارج بنغازي. عشتُ تقريبًا في خمسة بيوت أخرى خارج ليبيا، دون حساب الأماكن التي قضيتُ فيها أشهرًا أثناء النزوح أو التنقّل. عشتُ خمس سنواتٍ في شقةٍ صغيرة (بالأحرى غرفة). وحين جاء وقت مغادرتها، لم أشعر بشيء تجاهها، لدرجة أنّني صُدمت، ذكّرت نفسي بكلّ ما عانيته وحيدًا في هذه الغرفة، كلّ ليالي السهر والدراسة والعمل والاكتئاب، وحتّى لحظات السعادة. لم أشعر بشيء، يترسّخ الشعور بأن كلّ الأماكن مؤقّتة، وربّما هو هذا الشعور الذي يُحكم ارتباطنا بأماكن حياتنا الأولى، بيت الطفولة ووطن الطفولة، الأماكن الأولى التي لم نعرف أنها كانت مؤقّتة.

قلت إن الغربة حين تبدأ في الوطن تلازمنا طويلًا. أظن أن "طويلًا" كلمة جيّدة، فهي ليست "دائمًا". الغربة حين ترتبط بالأماكن، بالخارج، أو بالأحرى حين تتجسّد في علاقتنا بالأماكن الموجودة في الخارج، قد تؤدّي إلى انفكاكٍ صارمٍ من الخارج وتحصّنٍ في الداخل، تحصّنٌ في علاقتنا بالآخرين الذين بمقدورهم جعل كلّ مكانٍ وطنًا بحضورهم. لا يقول العشاق عن بعضهم إنهم "وطن" من فراغ، لم تكتب أمل: "أحب أنك تقول لي أنتِ مكاني، ذلك أفضل كلام الحب" فقط لأجل الكتابة، وأعلم أنني لا أقول لحبيبتي يا "وطني وبيتي وأماني" من باب الغزل فحسب، ولكن من باب إدراك انتهاء الغربة بحضورها أيضًا، من باب العرفان بالنجاة، النجاة من الانفكاك المطلق وخطر الغربة الدائمة، النجاة التي تجسّدت في الداخل بعد أن ضاعت فرص تجسّدها في الخارج: "الحب الذي يمكن أن ننطوي تحت جناحه بينما كل شيء في الخارج سيحدث دائمًا ولن يرحل، لكننا في الداخل لدينا فرصة واحدة قبل أن نموت."

لا أعود للحديث عن الحبّ فقط لأنني أريد دائمًا أن أتحدّث عن حبيبتي، ولكنني أعود للحديث عن الحبّ لأن أمل كتبت عن الحبّ كثيرًا في كتابها، كتبت عنه كتابةً رائعة! كتابة أشعرتني بالألفة وأنا الذي عانيتُ من الوحدة والغربة ومشاكل الصحّة النفسيّة والاكتئاب، وفوق كلّ شيء أشعرتني بالألفة وأنا العاشق جدًّا. لقد كتبت أمل عن الحبّ بدقّةٍ صادقة لا يمكنني وصفها إلا بأنها الحقيقة:

 "فهمتُ أكثر لماذا كنتُ أتخلى عن الجميع منذ البداية، لدي طاقة واحدة للحب والشوق، كانت منذ ولدت مرصودة لأجلك وحد. كل شيء مر بي، ولا أريد أبدًا أن أبخس الناس حقهم أو أن أكتب عنهم كما لو كانوا موضوعات، لكنني الموضوع هنا، كل شيء مررتُ به كان تنويعات عن ما يعنيه أن لا تكون موجودًا في حياتي، وأريد بعنف الكلام الأول، أن أتحطم تحت جسدك، لا لأنني أريد الحب، أريدك أنت، لا أخاف تسميته بالحب، لا أخاف التناظر مع العالم، لكنني أنا وأنت سننجو."

ذلك الإدراك الذي يراودنا حين نجد الحبّ الوحيد الحتميّ، حين وجدتُ حبيبتي، إدراك أن كلّ شيءٍ قبلها كان تنويعاتٍ على غيابها، كلّ شيءٍ قبلها كان اغترابًا، كان انفصالًا عن العالم بانتظار وصولها، هي التي أوثقتُ نفسي بها متيقّنًا من أننا سننجو معًا. لقد كتبتُ على هوامش هذه الفقرة "الله" دهشةً وإعجابًا وعرفانًا بما كتبته أمل، بما عبّرت عنه، ما التقطته من مشاعر حميميّة رأيتُ فيها نفسي واحتفائي بالحبّ وبنجاة الحبّ وبكلّ طمع وطموح وحاجة ورغبة الحبّ. 

كلنا متعبون، والحبّ راحة، راحة نتمسّك بها حدّ أننا لا نخجل ولا نتردد من استجداء هذه الراحة:

"ما الذي أريده منك، قليلًا لينزاح عني هذا التعب الموغل في إبهامه، الذي يتوزع على جسدي كهالة تحيط به، قل شيئًا أرجوك، قل شيئًا، ولا تتركني، فيا إلهي "لماذا ستتركني وحيدًا لمرة أخرى؟"

 أظنّ أن من يعتاد على التخلّي، على الاغتراب، على سوء الفهم الذي كثيرًا ما يرافق الاكتئاب ومشاكل الصحّة النفسيّة، يصير طلب المساعدة عنده شيئًا يشبه المستحيل، ناهيك عن طلب القرب أو الحبّ. ولكن، على الأقل بالنسبة لي، تلاشت كلّ هذه التحفظات – أو العُقد – مع حبيبتي. لم أقل لأحد في حياتي قبلها "أحتاجك"، ومعها هي صار قولي "أحتاجكِ" مرادفًا لقول "أحبكِ"، أقولها بكلِ صراحةٍ وانكسارٍ ورغبةٍ وخوفٍ وثقة كلّما احتجتُ أن أقولها، كلّما احتجتها أكثر. يُغيّرنا الحبّ، يجعلنا – رغم ابتذال الكلمة، لكنها صحيحة – نحبّ أنفسنا أيضًا، ولا نتردد في طلب الحبّ والمساعدة والقُرب: "تعرفت عليك، ولم أواصل ما كنت أنوي القيام به، لا أقصد بأنك صرت موضوعًا، لكنني تغيرت فعلًا، ربما لم أعد بحاجة لتلك القسوة على نفسي، كما لو أنني غرقتُ في المحيط، وكل موجة كانت تبعدني عن ما كنت أعرفه...". مع كلّ هذا، مع كلّ هذا الخلاص وهذه النجاة وتغيير ما بأنفسنا بفضل الحبّ، كيف لا يصير الحبّ شبيهًا بذوبانٍ صوفيٍّ، نفرُّ إلى الحبيبة التي لا أين لها، الأنا الذائبة في ذاتها، الرحلة التي لا وجهة لها: "فأنا استويت والرحلة إليك شيئًا واحدًا بلا شك".

نعم، لقد شعرتُ بألفة العاشق عند قراءة كتاب أمل، وشعرتُ بالعرفان لكلّ ما عبّرت عنه بصراحةٍ وصدقٍ، كلّ ما قالته عن الحبّ دون تحرّجٍ من شطحاتٍ صوفيّة أو رغبات عاطفيّة أو حاجات القرب والجسد الحميميّة. نعم، نريد الحبّ والمحبوبّ والمحبوبةّ: "وأريد بعنف الكلام الأول، أن أتحطم تحت جسدك، لا لأنني أريد الحب، أريدك أنت، لا أخاف تسميته بالحب، لا أخاف التناظر مع العالم، لكنني أنا وأنت سننجو"، ونعم، الزمن يضيع في غياب المحبوبة والمحبوب: "كنت أحس بثقل اللحظة وهي تصبح مهدرة لأنه ليس معي"، ونعم، نتمسّك بكلِ التفاصيل البسيطة لمواجهة العالم: "تمنيت لو أنك نسيت ملاحظة صغيرة في صفحات الكتاب الذي أهديتني إياه، لو فكرت بأن توقيعك على الصفحة الأولى لن يكفي كل هذا الزمن الذي أحياه دونك..."، ونعم، سنتحدّى كلّ "جديّة" العالم في سبيل الحبّ:

"هل من التفاهة في شيء أن يقضي المرء نحبه بالحب، في الوقت الذي يموت فيه الناس لأسباب جدية أكثر، لا تفكر بهذه الفكرة، مكانها ثمة فراغٌ يستطيل، لو كنت مكانك لسارعت بالقول، إن جيمس بالدوين، الذي اعتبر مناضلًا ضد التمييز العنصري، كان قد كتب رواية صغيرة ومعذبة، اسمها غرفة جيوفاني، وقد كتب فيها "قلة من الناس تموت من الحب، لكن الكثرة تهلك وتفنى كل ساعة وفي أكثر الأماكن غرابة – بسبب فقدانه" وأنا أصدق بالدوين..."

قد لا يكون المقصود تحديدًا من الاقتباس السابق تحدّي نظرة العالم التي تُقلّل من شأن الحبّ، ولكن لا مفرّ من إساءة الفهم عند القراءة أو الترجمة وفق ما نعرفه ونرتبط به. حين قرأتُ هذه الفقرة، مقابلة التفاهة والجديّة والحبّ في الوسط بينهما، تذكرتُ فورًا كتاب By Grand Central Station I Sat Down and Wept لإليزابيث سمارت، تذكرتُ قولها في الكتاب "لماذا يجدر حتّى بعشرةٍ قرونٍ من أسى العالم أن تنتقص من حبّي؟ احتضنوا البذرة، احتضنوا البذرة حتّى وسط فمّ البركان!". إساءة فهم أو صحّة فهم، ليس الأمر مهمًّا فعلًا، فحديث أمل في نصوص الكتاب عن الحبّ، حديثها الصريح المحتاج المباشر المتحدّي، ذكّرني بتحدّي سمارت للعالم كلّه بحبّها، ومواجهتها لمن قالوا لها نحن لا نهتم بهذه الأشياء بسؤالها الحائر جدًّا "فمن أجل ماذا تعيشون إذن؟!"، سؤالٌ حائرٌ كما يجب أن يكون، قبل أن يكون استنكاريًّا، فمن أجل ماذا نعيش، نحن كل الناس المتعبين، إن لم نكن نعيش من أجل راحة الحب!

 

لم أعرف بالضبط من أين أبدأ، ولا أعرف بالضبط إلى أين أذهب الآن... هذه تقريبًا ثالث محاولاتي للكتابة عن كتاب أمل. المحاولة الأولى (بثلاث مسوّدات) كتبتُ فيها صفحات وصفحات عن نفسي... المحاولة الثانية اقتبستُ فيها تقريبًا نصف كتاب أمل! وهذه المحاولة الثالثة (الثالثة ثابتة؟)، حاولت أن أجمع فيها بين الاثنين. وأظن أن هذه المحاولات تدلّ على شيءٍ من المهمّ قوله عن كتاب أمل.

لقد جعلني الكتاب أشعر بالألفة حدّ أنني لم أستطع الامتناع عن الكتابة عن نفسي وعن مشاعري، جعلني أشعر بالألفة حدّ أنني احتجتُ إلى الاقتباس منه كثيرًا، لشدّة ما عبّر الكلام عني، لشدّة صدقه بالنسبة لي. هذا لم يكن ليحدث لو لم تكن أمل كاتبةً مبدعة. باستطاعة أي كاتبةٍ أو كاتب الكتابة عن تجربةٍ ما، ولكن الصعوبة التي تعرقل كثيرين هي معرفة كيفيّة كتابة التفاصيل الدقيقة التي تشحن التجربة بالصدق (حتّى لو كان النصّ متخيّلًا أو خليطًا من واقعٍ وخيال). وإن نجح هذا الكاتب أو تلك الكاتبة في التقاط التفاصيل الصادقة، فقد يفتقران إلى مهارة السرد التي تربط خيالًا بواقع بذكريات بمشاعر بتأمّلات وتنتج نصًّا متجانسًا. وإن تحقّق كلّ ما سبق، تبقى موهبة اللغة، دقّة الوصف، الكلمة المناسبة بالضبط لوصف شعورٍ ما أو شيءٍ ما، تلك الجمل المدهشة التي تفاجئنا وسط النصّ وتجعلنا نشعر أنها سقطت من قصيدةٍ ما أو أننا كنا نقرأ قصيدة دون أن ننتبه. هذه ليست كلّ عناصر الكتابة الجميلة طبعًا، لكنّها من بينها بلا شك، وهي بلا شك مما أريده أنا من القراءة، ومما منحه لي كتاب أمل بكثرة!

أظنّ أنّني لا أحتاج فعلًا للحديث عن دقّة وصدق وصف أمل للتجارب والأحداث والأشياء، اقتبستُ كثيرًا من كتابتها عن الغربة والحبّ، ولكنّني سأضيف لذلك بضعة أشياء قد أكون ذكرتها. عُمانيّة أمل حاضرةٌ بقوّة في الكتاب، وأظن أن هذا شيءٌ مهمٌّ جدًّا في هذا الكتاب، شيءٌ كنتُ قد أحببته في بعض كتاباتها التي قرأتها في الماضي، قبل أن أقرأ الكتاب. لا أعلم، لعلّه يعجبني لأنه تناقض الاغتراب، الارتباط بمكانٍ ما رغم كلّ الانفكاك عنه! ولعلّه يعجبني لواقعيته، مقارنةً بكثير من الكتابات المعاصرة لكُتّاب وكاتبات من عالمنا تكاد تخلو من أيّ ملامح، ربّما في محاولات لمنح النصوص سمة الألفة أو العالميّة؟ لا أعلم! ما أعلمه أن كتاب أمل نعرف فيه جيّدًا أن كاتبته عُمانيّة، ومع ذلك فأنا الليبيّ شعرتُ بألفةٍ كبيرة فيه. نعرف ثقافتها (العربية والأجنبيّة) والكتب التي تقرأها. نعرف أنها من جيلنا الذي لم يعد يتمشّى في أرجاء الغرفة محمومًا حين لا يستطيع النوم – كأبطال الروايات الروسيّة! –، بل صرنا نستلقي في الفراش ونتجوّل محمومين في تويتر وإنستاغرام! ملامح أمل واضحةٌ في سردها – سواءً كانت شخصيّة النصِّ أو كاتبته، في نصوصها الواقعيّة والمتخيّلة والمخلوطة. صدق الكتاب ووضوح ملامحه جعلاه أشدّ ألفةً وأكثر عالمية وأدعى للتماهي معه.

وأظن أن هذا سيقودني، من باب دقّة الوصف وصدق الملامح، إلى الحديث عن صراحة أمل في الكتاب. قلتُ ما يكفي عن صراحتها في الحديث عن الحبّ، ولكن هذا لن يوفي صراحتها في الكتاب قدرها. أمل صريحةٌ في حديثها عن الوطن، عن العائلة، عن الطفولة، عن الوحدة، عن الصحّة العقليّة. لعلّ حديثها عن الاكتئاب والعلاج وكلّ المشاعر المشوّشة والأفكار القاسية التي تراودنا، لعلّ هذا الحديث كان من أكثر ما تآلفتُ معه في الكتاب، بل وشعرتُ بالعرفان لأمل بسببه: ما زالت هذه الأمور تُهمّش، يُساء فهمها بقصد، يُقلّل من تأثيرها (منذ أيامٍ قليلة خضتُ حديثًا طويلًا مع أحد الأقارب أحاول أقناعه بضرورة العلاج النفسي والاهتمام بالصحّة العقليّة وبأن الاكتئاب والقلق والتوتر ليست مجرّد "زعل" أو "نرفزة"...). نعم، الاكتئاب يُرمسن أحيانًا، السوداويّة والأرق والحزن وصور أبيض وأسود وقصائد حزينة وأفلام نكديّة وإلخ. ولكن كلّ هذه الرمسنة لا تنفي حقائق ما نعانيه من الاكتئاب: "العالم الذي صار يحتفي بالكآبة، لكنها بالنسبة لي، حقيقتي التي لا أستطيع الفرار منها...". حقائق عبّرت عنها أمل كثيرًا في كتابها، بصراحةٍ صادقة، صراحة أعلم أنّها لا بدّ كانت مؤلمة في بعض الأحيان، ولذلك أشعر تجاهها بعرفانٍ كبير.

 وهذا يقودني إلى السرد. تنجح أمل في فعلٍ شيءٍ صعبٍ جدًّا في الكتابة: تكتب سردًا يبدأ بلحظةٍ راهنة، وينتقل إلى مشاعر، ويعود إلى ذكريات، ثم يعود إلى مشاعر، ويتوقف عند رسالة، ويتأمّل في اقتباس، ويُفكك فكرة، وطوال الوقت يحافظ على انسجامه واتّساقه. لا نضيع، لا ننسى، لا يزدحم النصّ أمامنا، ينساب كلّ شيء بمنطقيّة تامّة رغم كلّ مواضيعه المحمومة والمتاهيّة (حبّ، اكتئاب، ذكريات، علاقات عائليّة، اغتراب...). هذا شيءٌ صعبٌ جدًّا، صعب حدّ أن له وجهين اثنين فقط: فشلًا صاخبًا يعطينا نصًّا متشظيًّا غير متناسق، أو نجاحًا هادئًا لا ننتبه له بتاتًا لشدّة اتّساق النصّ. نجحت أمل في هذا الكتاب ذاك النجاح الهادئ الذي قد لا ننتبه له إلا إن فكّرنا مليًّا في كلّ ما يحتويه هذا النصّ أم ذاك، لندرك براعة هذا النسج.

ومع كلّ ما أُعطيته أمل من جوامع السرد، فقد أُعطيت معه جمال اللغة. أظن أن ما اقتبستُه في الأعلى من كتابتها عن الحبّ والغربة يكفي للدلالة على جمال لغتها: الدقّة التي تنتقي بها الكلمات، قدرتها على التقاط شعورٍ معيّن أو وصف شيءٍ ما، موسيقى الكلمة أو وزنها أو شعورها، لا أعلم، أحاول أن أُفكّك معنى "جمال اللغة" لكنّه شيءٌ صعب! الأمر أقرب إلى الإحساس منه إلى التفكيك والوصف والإشارة إلى شيء معين. إنه إحساس، إحساس لا نجده فقط في الفقرات أو الجمل الكبيرة المشحونة بالعاطفة أو الفكر (مثل ما سبق واقتبستُه)، ولكنه إحساسٌ نجده حتّى بين الأسطر، في جملٍ عابرة، وأوصافٍ سريعة: "وداعة كلّ شيءٍ من حولي"، "لديّ خوفٌ سحيق، عظامي فقدت أمانها"، "التكاثر المزمن لمشاعري"، "وسيل من انعدام الدفء يصطدم بالقصيدة الوحيدة في خلاء الجدار"، "أحس بسيولة الأشياء، وبأنها لن تتعافى"... وليس فقط الوصف، ثمّة شيءٌ في اختيار الكلمات، شيء لن أستطيع التعبير عنه دون اقتباس الكتاب كاملًا!

 

ربّما لم أعرف من أين أبدأ بالضبط، ولم أعرف إلى أين أذهب، ولكن أظن أنّني أعرف كيف سأختم: بالعرفان.

العرفان لأشياء كثيرة: لأنني قرأتُ الكتاب مع حبيبتي، لأن الكتاب أعادني للكتابة عن حبّي وعن حبيبتي، لأن الكتاب جعلني أكتب عن اغترابي واكتئابي (ولو باستحياء يتخفّى وراء كتاب أمل)، العرفان لأنني تعثّرت بنفسي في هذا الكتاب في عالم أمل المختلف عن عالمي، العرفان لأن أمل كشفت الكثير من اللحظات والمشاعر والأفكار الحميميّة التي كنت أظنها تخصني فوجدتها ومعها الألفة والتضامن، والعرفان على براعة السرد وجمال اللغة وصدق الكتاب. العرفان، إذن، لأن أمل السعيدي منحتني الكثير مما أريده من القراءة.

 

28 يوليو 2021