الأربعاء، 7 ديسمبر 2016

كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها: أو كيف تحاول أن تقنع العالم بأن يأكل الزبالة!



...كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها: الكتاب الذي ألفه شخص لا يريدك أن تقرأ الكتب

كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها؟ الإجابة بسيطة جداً:  إما أن تتحدث بالاستناد إلى ما تعرفه عن الكتاب (كلام لصديق تثق في رأيه أو مراجعات قرأتها هنا وهناك أو حتى كلام سمعته عن الكتاب في أحد الأفلام)، أو يمكن لحديثك عن الكتاب أن يكون ببساطة اعتذاراً عن الحديث عنه وربما إن راودك الفضول أن تسأل من قرأه عنه، وفي الحالتين تقول بصراحة بأنك لم تقرأ الكتاب.

بيير بيار لا يظن ذلك. الأمر ليس بهذه البساطة بالنسبة له. بالنسبة لبيير بيار قراءة الكتب من عدمها (كمعيار لثقافة المرء) أمر له تداعيات نفسية واجتماعية عميقة لدرجة أنها تستدعي استحضار نظريات فرويد عن التحليل النفسي (يا ساتر!). الخجل، أو لاستخدام كلمة تُهوِّل من الأمر بما يتوافق مع كلام بيير بيار، العار الذي يلحق بك لأنك لم تقرأ هذا الكتاب أم ذاك هو شيء يتطلب تأليف كتاب كامل عن تجاوز هذا العار وكيفية التعامل معه. كتاب "كيف تتحدث عن كتب لم تقرأها" يكاد يكون كتاب علاج نفسي لإقناعك بأنك طبيعي، بأن كل شيء سيكون على ما يرام، المجتمع يجب أن يتقبلك، لا تقلق، لا تخف، ولا تقرأ!

إنها مقدمة عنيفة قليلاً، ولكي لا تكون عنيفة كلياً فسأعترف بأنه كتاب ذكي، فيه تحليلات دقيقة وقيمة للأدب والنقد وإشارات لكتب مناسبة بدقة عالية لموضوع الكتاب (وهو شيء طبيعي، فبيار أستاذ جامعي في الأدب)، بالإضافة إلى أن الكتاب فيه أيضاً تحليل اجتماعي ممتاز لتفاعل الكتب في حياتنا ودورها في علاقتنا الإنسانية (أظن أن بيار هو أيضاً مُحلل نفسي). هذه الأمور كما ذكرت قيمة للغاية، وهي ما يجعلني لا أندم كلياً على قراءة هذا الكتاب، وربما حتى قد يقنعني، ليس بأن أنصح أحداً ما بقراءته، ولكن إن وجدتُ شخصاً يهم بقراءته فقد أقول له بأنه كتاب يستحق أن تكمل قراءته (رغماً عن أنف بيار الذي لا يريدنا أن نقرأ!). ولا أعلم، على حسب الظروف، ربما أجد نفسي في موقف يتطلب أن أنصح شخصاً ما بقراءة الكتاب. الكتاب ذكي وفيه معلومات قيمة (كلمة قيمة أحاول بها تبرير مدح الكتاب، لذلك أرجو احتمالها!)، وهو يعطي زاوية رؤية جديدة على العالم الأدبي والنقدي والساحة الثقافية. ومع هذا المدح، نقول بأن الكتاب أيضاً ممل، أسلوبه أكاديمي كثيف (كتبه أستاذ جامعي، أمر متوقع) بين الحين والآخر قد تكون هنالك عبارة شاعرية، أو استنتاج حكيم.

فكرة الكتاب الأساسية هي فكرة وصفتها لأحد الأصدقاء بأنها زبالة. وأظن أنني أستطيع تلخيص عبرة الكتاب فيما يلي:
-       لا يوجد شيء اسمه ثقافة شاملة، أي ثقافة ستكون فيها ثغرات، وهذا شيء طبيعي وحتمي ولا داعي للخجل منه.
-       القراءة سيئة، لأنها (1) تأخذ منك وقتاً ومجهوداً لا يمكنك تضييعه إن كنت تريد التعرف على أكبر عدد من الكتب و(2) تسلب منك ذاتك وأصالتك بمجازفة أنك قد تتأثر بالكتاب.
-       يمكنك الحديث عن كتب لم تقرأها، بالاعتماد على كتب أخرى مثلاً، بالاعتماد على أفكارك السابقة، بالاعتماد حتى على خيالك وتأليفك. الجميع يفعلون ذلك.
-       الأفضل لك أن تتحدث عن كتب بدون أن تقرأها، لأن المهم هو رأيك وشخصيتك، الكتاب بالنسبة لك (أو للناقد) هو مثل الطبيعة للفنان أو الحياة للروائي، هي مجرد "عذر" ليُنتج عملاً فنياً، والنقد هو أيضاً عمل فني يستغل الكتب كمجرد عذر لكي تعبر عن نفسك.
-       زبالة.


النقطة الأخيرة هي إضافة توضيحية مني. على أي حال، هنالك الكثير من الأفكار في الكتاب، أفكار يمر عليها بيار في سبيل إثبات وجهات نظره المذكورة في الأعلى، مثلاً يتحدث عن كون الكتب تمثل رابطاً بين الناس، يتحدث عن تفاعلات الكتب في معادلة الروابط بين الأشخاص، كيف نرى الكتب، ننساها، نتوهم فيها أشياءً، كيف نضيف إليها. بيار يذكر الكثير من الأفكار الممتازة في سياق النظر للكتاب على أنه شيء حيوي يتفاعل معنا ومع بيئتنا – إنها تلك الفكرة التي تمنح القارئ أيضاً دوراً إيجابياً مهماً فيما يخص دورة حياة الكتاب. المشكلة الوحيدة أن بيار لا يذكر هذه الأفكار في سياق فكرة "دور القارئ" أو "الكتاب كائن حي"، ولكنه يذكرها في سياق فكرة "لا تقرأ". وهذا ما يجعل وصف زبالة يعلق بفكرته التي تمثل الإطار الأساسي الذي يحتوي ما جاء في الكتاب، من وجهة نظري المتواضعة جداً.

ولا أعلم لماذا ولكنني شعرتُ الآن بأنني يجب أن أؤكد بأنني قرأتُ هذا الكتاب. الشيء الطريف، أن هذا الكتاب نصحني به صديق كانت لي معه تجربة مباشرة عن "اللاقراءة". هذا الصديق متخصص (بل هو كنز!) في الفلسفة والثقافة – الثقافة هنا بمعنى فكري، مثل الثقافة الغربية أو الشرقية أو الحداثة أو ما بعد الحداثة وما بعد الكولونيالية، وما بعد الإلخ وإلخ وما إلى ذلك من إلخ. وسأعترف بأنني كنت أتحدث معه أحياناً انطلاقاً من معلومات قليلة، قشور قرأتها هنا وهناك، مراجعات، تعليقات، كأن تتحدث عن كارل ماركس بدون أن تقرأ كتاباته ولكن بناءً على تعليقات قرأتها عنها في كتاب آخر (أظن أن غالبيتنا العظمى تفعل ذلك!). الكثير من حواراتي معه كانت تتسم بشيئين: أولاً تفادي ذكر أنني لم أقرأ شيئاً مباشراً عن الموضوع (لا مفر من الخجل!)، ومحاولة بناء أفكار شخصية حول الكمية المحدودة التي أمتلكها من المعلومة (وهذا شيء إيجابي قليلاً)، وثانياً، بسبب قلة معلوماتي، محاولة الحصول على أكبر قدر من المعلومات منه، أي محاولة التعلم منه. وقد اعترفت له في أحد الأيام بأن معلوماتي في أحد المواضيع هي عبارة عن قشور وطلبت منه أن ينصحني ببعض الكتب. في مرةٍ أخرى طلبت منه نفس الطلب عن موضوع آخر، ونصحني بمجموعة من الكتب لأقرأها بتسلسل. وبسبب ما اعترفت له به من معاناتي مع الرغبة في القراءة والتعلم أكثر وضيق الوقت (وضيق المزاج أيضاً)، فقد تذكرني هذا الصديق حين كان يقرأ كتاب بيار ومر على مقطع يصف ذلك الشعور بالعجز في مواجهة كل تلك الكتب الموجودة في العالم (ليس فقط الكتب الموجودة في العالم، بل حتى في مواجهة الكتب التي نشتريها ونكدسها دون قراءة وننظر إليها بخجل وبحسرة على تبذيرنا الجميل للمال!). أرسل لي الصديق المقطع الذي ذكره بي، وكان ذلك كافياً لإقناعي بالحصول على الكتاب لقراءته. من جديد، لا أظن أني سأنصح أحداً ما بالكتاب، ولكنني لم أندم على قراءته. كما ذكرت، هنالك الكثير من الأفكار القيمة فيه، المشكلة الوحيدة هي أن السياق العام الذي عُرضت فيه هذه الأفكار هو سياق أحمق، أو ربما فقط سياق خاص جداً ببيار.

بيار أستاذ جامعي في الأدب، لن أُتعب نفسي بالبحث عن سيرته، هو نفسه تحدث عن المحاضرات والطلبة وتحدث عن الزملاء وعن لقاء الكُتَّاب وكتابة المراجعات عن الكتب وما إلى ذلك. بيار يجب عليه أن يقرأ، يجب عليه أن يعبر عن رأيه عن الكتب، يجب عليه أن يكتب مراجعات، ويجهز محاضرات، ويرد على أسئلة الطلبة، ويعقد ورش عمل ونقاشات، ويحضر اجتماعات مع هيئة التدريس، ولقاءات ومناسبات تجمعه بكُتَّاب... بيار لا يقرأ فقط بسبب شغف القراءة، بيار يقرأ أيضاً بسبب التزاماته الوظيفية، أو بعبارات أخرى: بسبب التزاماته الحياتية. في هذا السياق، يمكن للمرء أن يتفهم وطأة عار عدم قراءة الكتب على بيار وتهويله للأمر؛ ففي وضعه هو وبيئته هو الأمر بالفعل يكاد يكون مسألة شرف! وفي مواجهة عار اللاقراءة هذا، قرر بيار أن يحاول البحث عن مخرج.

بيارد أجرى بحثه، واكتشف أن الكثير من الكُتَّاب والنقاد (بشهادة عدة روايات اختارها بدقة) يمارسون فعل اللاقراءة بشكل طبيعي ومستمر، الأمر الذي منح بيار الشجاعة اللازمة ليخرج بفضيحة اللاقراءة على الملأ ويؤكد للناس بأنها ليست فضيحة. اللاقراءة هي فكرة بيار عن الأساليب المتعددة التي نعرف بها الكتب دون قراءتها من البداية إلى النهاية: تستطيع معرفة الكتاب عن طريق تصفحه بسرعة، تستطيع معرفة الكتاب عن طريق الاستماع إلى ما يقوله الآخرون، يمكنك أن تقرأ وتنسى، يمكنك حتى أن لا تقرأ على الإطلاق وتخترع الكتاب الذي تريده! الأمر غريب، أعلم. على أي حال، بيار حين وجد أدلةً تاريخية وأدبية على ممارسة اللاقراءة لم يتوقف عند إثبات أن هذا أمر يمارسه الجميع ولا داعي لأن نكذب على أنفسنا وندعي ثقافةً شاملة وهي في الحقيقة ليست فقط مليئة بالثقوب ولكنها غربال! بيار يبدو أنه حاول أن يجد "إيجابيات" في الأمر، إيجابيات مثل الحديث عن دور القارئ في حياة الكتاب، عن دور الكتب في حياتنا وعلاقتنا، عن الإبداع الذاتي والخيال الإنساني، عن الذات وتطوير أنفسنا، عن الحفاظ على شخصياتنا، عن وعن وعن... هي أفكار حين نُجردها من سياق بيار تبدو جيدة وإيجابية بلا شك، ولكن هو أخذ كل ذلك، وضعه في خلاط، وأخرج منه فكرة: لا تقرأ، إذا كنت تحب الكتب، فلا تضيع وقتك في قراءتها، تعرف عليها عبر أثير الثقافة، واخترع الكتاب كما تريده أن يكون، وحافظ على شخصيتك وإبداعك وخيالك بعيداً عن التأثر بالكتب.

المشكلة.. المشاكل! هي أن بيار وهو يحاول نزع القداسة عن الكتب والقراءة نسى عدة أشياء عن الكتب، أو تجاهلها...

أولاً، الكتب أعمال فنية لها قيمة في حد ذاتها، وليست مجرد غلاف وتصنيف في المكتبة. في سياق الدراسة الأكاديمية والعيش في عالم وظيفي معتمد على الكتب قد يغلب طابع التصنيف المكتبي على الكتب، مهما كنت شغوفاً بها. ومع ذلك تبقى للكتب قيمتها الذاتية. أنت لا تستطيع أن تخبر أحداً ما لا داعي لتنظر إلى هذه اللوحة لتقدر جمالها، أو لا داعي لتقرأ هذه القصيدة، تسمع تلك الأغنية، تشاهد ذلك الفيلم... لا تستطيع أن تقول ذلك، لأنك تنفي تماماً وجود العمل الفني. بيار يُقر بذلك في النهاية، الكتاب ليس مهماً، أنت المهم، يبني ذلك مباشرةً على أفكار أوسكار وايلد عن النقد وقوله بأن العمل الفني ليس مهماً والنقد هو المهم. ولكن بيار ينسى شيئاً هنا! أوسكار وايلد حين تحدث عن النقد هكذا، جعله فناً. منح النقد صفة الفن، وقال بأن الكتاب بالنسبة للنقد هو مثل الطبيعة بالنسبة للرسام، أو الحياة بالنسبة للروائي – بعبارات أخرى هو فقط مصدر إلهام. ولكن، إذا توقفت عن القراءة، أي عن الاحتكاك بأعمال فنية، من أين ستحصل على إلهامك؟! ولكن حتى فكرة الإلهام ليست بأهمية فكرة نفي أي شيء جميل في الكتاب، لم تعد الكتب أعمالاً فنية، ولكن أصبحت فقط أعذاراً لكي تتحدث عن نفسك. من جديد، يبدو أن بيير بيار متأثرٌ تماماً ببيئته، ويبدو أنه أيضاً متأثرٌ بالخوف من السرقة الأدبية! فهو يُفضل أن لا تتأثر بكتاب إطلاقاً وأن تعتمد على خيالك (وحتى كذبك) لكي تُبدع على أن تقرأ وتستمتع وربما تتأثر. بيار يجعل الإنسان معزولاً عن العالم، ويُضخِّم فلسفةً وجودية حول الإبداع تنفي كل شيء حولها، وهذا يقودنا للنقطة الثانية.

ثانياً، الكتب أعمال تحمل الكثير من الحقائق في داخلها، هي نوعٌ من التواصل الإنساني. بيير بيار لا يريد إقامة هذا التواصل، التواصل الوحيد لديه يقوم على الكذب عن الكتب التي لم تقرأها عند حديثك مع الآخرين! المشكلة هنا أنه يقول لك أهم شيء أن تتحدث عن نفسك، وتعبر عن نفسك، وتُبدع، وهذا هو ما يحقق لك وجودك في العالم ومحاولتك للتواصل مع الآخرين، ثم يقول لك فوراً: تجاهل كل ما كتبه الآخرون عن أنفسهم ولا تقرأ! كيف يعني؟! كل شخص يقوم بتأليف كُتب ويُخبئها تحت السرير؟! المفارقة هنا أن بيار يستمد غالبية مجادلاته من الكتب، يستند إلى الحقيقة الموجودة في هذا الكتاب أم ذاك، ثم يقول لك لا تقرأ والكتب ليست مهمة! مرةً أخرى: كـــيـــف؟! بيار طبعاً يحاول الهروب من هذا المأزق، أعني مأزق أن كتابه عن اللاقراءة مبني كله على كتب! وهو يفعل ذلك بأن يذكر أن هذا الكتاب لم يسمع به، هذا الكتاب سمع به، هذا الكتاب تصفحه بسرعة، هذا الكتاب نسيه. يضع هوامشاً ليحاول أن يُثبت أن كلامه غير متناقض، وهي هوامش لم أُتعب نفسي بالنظر فيها أبداً (أعني حين يقول هذا الكتاب لم أقرأه، أو ما إلى ذلك). ربما يمكن القول أن بيار، حين اعتمد على الكتب في تأييد وجهة نظره الزبالة، أثبت بأنه يستطيع الحصول على الحقيقة الموجودة داخل الكتاب دون قراءته. والرد على ذلك سيكون بذكر نقطتين: (1) هذا قد يكون صحيحاً، ولكنه يبقى محصوراً في بيئة بيار التي تغلب عليها الطبيعة الوظيفية للقراءة والثقافة، غاية هذه البيئة هي "التصنيف" وليست المعرفة أو الحوار أو التجربة. (2) بيار، في نهاية الكتاب، ينحرف عن الحديث عن "معرفة" الكتاب باللاقراءة إلى "تأليف" الكتاب بالخيال! الأمر يتحول من كيف تعرف كتاباً دون أن تقرأه فعلاً إلى الكتاب ليس مهماً على الإطلاق اخترعه كما تشاء. بهذا الشكل الحقيقة الموجودة في الكتاب تضيع، ولا يعود حتى أسلوب اللاقراءة مُجدياً.

التناقضات كثيرة في كتاب بيار، من ناحية يقول لك تستطيع معرفة كتاب معين عن طريق قراءة كتب أخرى عن نفس الموضوع أو لنفس الكاتب، فهو يعترف بوجود مرجعية قرائية تسمح لك بمعرفة الكتاب، لكنه يقول لك لا تقرأ! مما يعني أنك في المستقبل لن تكون لديك هذه المرجعية من الحقائق، وستكون مرجعيتك كلها هي من تأليفك! بيار يقول لك تفاعل الكتب في داخلنا مع أفكارنا ومشاعرنا تساهم في تكوين شخصياتنا، ثم يقول لك لا تقرأ لكي لا تتلوث شخصيتك بما تقرأه! يا رجل! كيف؟! بيار يقول لك كل واحدٍ منا لديه تصوره الشخصي عن الكتاب، ولديه مكتبة خاصة به ساهمت في تكوين شخصيته، وتفاعل مفاهيمنا الشخصية وتقاطع مكتباتنا الشخصية لهن دورهن في علاقتنا الإنسانية وتفاعلنا مع الآخرين، ثم يقول لك لكن لا داعي لأن تقرأ شيئاً، يمكنك أن تكذب على الآخرين، عادي. ماذا؟! فكيف ستفهمهم إذاً؟ كيف سيكون هنالك تواصل؟! من جديد، تتضح الطبيعة الزبالية للفكرة، ومشكلتها الرئيسة نقل سياق "وظيفي" إلى سياق "اجتماعي": عالمك الشخصي يفرض عليك أن تستطيع تصنيف الكتب والحديث عنها، حسناً، تحدث إذاً عن الأمر في ردهات الجامعة وقاعات المحاضرات ولا تطبق نظرياتك الزبالة هذه على علاقات الحب وعلى الإبداع وعلى قيمة الكتب! قيمة الكتاب بالنسبة لك أنت تكمن في ما تستطيع فعله به، لكن قيمة الكتاب بالنسبة لغيرك قد تكمن في غير ذلك.

أنت أستاذ جامعي، تريد من الكتاب فقط أن يعطيك فكرة تسمح لك بالاستمرار في التدريس وتصنيف الكتب في المكتبة الجمعية!

بالنسبة لغيرك فإن كتاب هذا الرجل المفضل الذي قرأه وحفظه قد يكون سبب وقوعه في حب امرأة هذا كتابها المفضل هي أيضاً. امرأة تقرأ كتاباً يغير تفكيرها وتقرر عيش حياتها بشكل مختلف. رجل وحيد يقرأ كتاباً يمنعه من الانتحار ويُهون عليه وحدته. أب يعطي كتابه المفضل من الطفولة إلى ابنه. صديقات يؤسسن نادياً للكتابة يكون كل كتابٍ فيه مناسبةً اجتماعية وفكرية...

الكتاب ليس مجرد رقم في أرشيف مكتبة كبيرة يجب عليك أن تعرف مكانه بالضبط، وعلى أي رف، وأن تتمكن من كتابة مراجعة عنه في أي وقت حتى بدون أن تقرأه. والكتاب ليس حيلة تضحك بها على الآخرين في سبيل أن تتواصل معهم عن طريق الكذب والحديث عنه وكأنك قرأته (على فكرة الرجل لا يُشجع الصراحة كحل لمشكلة عار اللاقراءة!). الكتاب ربما يكون مادةً للإلهام، وتستطيع أن تجعل من نقدك فناً يستغني عن مادته ويتميز بنفسه، ولكن لا يمكنك أن تقرر أن كل الكتب بلا معنى! لا يمكن لرسام أن يقول لا داعي للطبيعة يمكننا أن نحرق كل شيء المهم فقط أن نرسمها! إن فكرة بيار هذه غريبة لدرجة أنه لا مفر من أن تفكر في أن الكتاب ربما ساخر! لقد سألتني إحدى الصديقات عن ذلك أثناء قراءتي للكتاب، وبصراحة كان تفسير "مجرد كتاب ساخر" سيكون تفسيراً مريحاً جداً في مواجهة هذه الأفكار غير المقبولة.. لكن للأسف كتاب بيار كتاب جاد. الرجل يريد مواجهة الخجل المرتبط بالأمر ويريد توضيح أنك لن تستطيع الحصول على ثقافة شاملة لكل شيء، ولكنه يفقد عقله! إنه لا يقرر فقط الإشارة إلى أن الأمر عادي، إنه ينفلت ويدع أفكاره تتضخم وتتضخم وتتضخم لدرجة أن ضخامتها البلهاء تسحق تحتها الكتب والقراءة تماماً وتجعلهن مجرد أشياء عرضية في حياة الإنسان، والمهم هو فقط أن تتظاهر بأنك قرأت الكتب لأن هذا يشجع الإبداع ويحفز الخيال! حقاً؟! هذا المهم؟! هذه فائدة وغاية الكتب؟! إنه يحاول حل مشكلة عن طريق الاستغناء عن شيء مهم! الأمر كأن يقول لك شخصٌ ما: لكي لا تسمن عليك أن تتوقف عن الأكل، فقط، لا تأكل، وسوف ترى كيف ستصبح رشيقاً! إي والله ستصبح رشيقاً، رشيقاً لدرجة أنك ستظهر بمظهر جيد في أكفانك حين تموت ولن تكون ضيقة عليك! هذه ليست طريقة لحل المشاكل، لا تستغني عن أمر مهم وضروري، وأيضاً لا تحاول إقناع الآخرين بأن الحل المناسب لظروفك هو أفضل حل للجميع ويجب علينا كلنا الاقتداء بك، إنها مأساة أن تحاول تبرير وضعك الخاص بفرضه على الجميع، أنت أستاذ جامعي مثلاً أو مجرد شخص مجنون لا تستطيع إقناع الجميع في كل الظروف المختلفة بأن عليهم أن يفعلوا مثلك تماماً لأن الحقيقة العالمية المطلقة هي الحقيقة التي وجدتها أنت في ظروفك الخاصة وبأفكارك الخاصة! الأمر أشبه بأن يقترح شخص يتمرن في بناء الأجسام على الجميع بأن يأكلوا ست وجبات دسمة كل يوم! من يقدر على ذلك إن لم يكن متفرغاً لهذا الأمر ولديه القدرة المادية لتحمل تكاليفه؟! أو أن يقوم أحد المشردين الفقراء بأن يقترح على الجميع أن يأكلوا فقط الزبالة! وهذا ما يحاول بيارد فعله! إقناعنا بأن نأكل الزبالة!

حسناً، أحتاج لأن أهدأ قليلاً...

ما أريد قوله هو أن قراءة الكتب تجربة إنسانية غنية، تجربة فيها جمال، فيها تواصل إنساني، فيها حقائق تكتشفها عن العالم، عن الآخرين، وعن نفسك. القراءة تشبه السفر. نعم، الشخص الذي يريد فقط أن يعرف معلومات عن بلاد تُمكنه من الحديث عنها يمكنه أن يدخل إلى الإنترنت يشاهد بعض الصور ويقرأ بعض المقالات السياحية وتنتهي القصة. لكن الشخص الذي يسافر.. يا إلهي كم سيمر بتجارب! سوف يرى عالماً جديداً، سوف يقابل أناسٌ جُدد، سوف يأكل طعاماً جديداً، يسمع موسيقى جديدة، سوف يرى، ويسمع، ويتذوق، ويتنشق، ويلمس، ويمشي في عالم جديد. سوف يتعرف على ثقافات جديدة، سوف يتحدث مع أشخاص يمنحونه خلاصة تجاربهم وحقائقهم عن العالم، سوف يستمتع بالطبيعة، أو ينشغل بالتسوق والتكنولوجيا، أو يزور أماكناً صنعت التاريخ. ربما في هذه الرحلة سيلتقي بحبيبة حياته، ربما سوف يتغلب على أزمته الوجودية، ربما سوف يكوِّن أصدقاءً من كل أنحاء العالم، ربما سوف يجمع ذكريات وصور وقصص تؤانسه وتسمح له بالتواصل مع آخرين لهم ذكريات مشتركة، ربما سوف يتلقى الإلهام ليكتب كتاباً جميلاً يُسجل فيه هذه التجربة وحقيقتها ويتواصل بذلك مع كل شخص يقرأ الكتاب... هل سترمي كل ذلك وراء ظهرك وتنصح الناس بأن لا يسافروا؟ تستطيع أن تشاهد فيديو على يوتيوب، أو تابع هاوياً للسفر لديه سناب شات! لا داعي لأن تسافر، اقرأ مقالة على ويكيبيديا وتحدث عن البلاد وكأنك زرتها... يا إلهي كم هذا منطقٌ مُفزع! والقراءة لا تختلف عن السفر على الإطلاق، إنها فقط عالمٌ مختلف، السفر عالمٌ مبني على الإدراك الحسي المباشر، والقراءة عالمٌ مبني على الإدراك العقلي بالخيال. ولهذا السبب، لهذا السبب أفزعني منطق بيار! لأنه يريد أن يقنعك بأن تتخلى عن إحدى أجمل التجارب الإنسانية على الإطلاق: القراءة. يريد أن يقنعك بأن تتجاهل بعض أجمل الأعمال الفنية، أن تُهمل بعض أصدق التجارب البشرية وحقائقها، أن تتخلى عن أحد أعمق أشكال التواصل الإنساني: الكتب.

لهذا السبب صدمتني أفكار بيار، وسببت عندي ردة فعل غير مُصدقِّة، رافضة، غاضبة، مختنقة، متقززة... كل شيء تُصيبك به الزبالة...



18 نوفمبر 2016 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق