لستُ كاتباً. لستُ حتى مثقفاً (المظاهر تخدع أكثر
مما قد يتصور بعضنا...) كل ما في الأمر أنني أحب القراءة، ولو كنتُ متكاسلاً فيها
بشكلٍ مُفزعٍ مؤخراً! وبين الحين والآخر لا أُمانِعُ التفكيرَ قليلاً في بعض ما
قرأته، بالإضافة إلى أنني مُحاطٌ (لحسن حظي) بالكثير من المعارف والأصدقاء
الرائعين: مثقفون، مبدعون، كُتَّاب، شعراء، فنانون، فلاسفة... أوصاف كثيرة تليق
بهم، يكفي القول أنهم يضيفون إلى حياتي الكثير من المعرفة والجمال – حتى أن بعضهم
أعتبرهم مُعلمين لي.
إحدى الصديقات اللاتي أعدهن من بين المعلمين، أو
المعلمات (لغايات الدقة اللغوية، واحتراماً للحركة النسوية! هذه مزحة بريئة على
فكرة...) إحدى الصديقات/المعلمات كنتُ دائماً أتساءل لماذا لا تكتب. وقد ذكرتُ لها
مرةً ذلك، ولكن في سياق قولي بأنني كنتُ أتمنى لو تكتب لكنني أدرك بأن كل
مجهوداتها على مواقع التواصل الاجتماعي والإنترنت تساهم في نشر المعرفة والثقافة
والجمال بشكل عظيم، الأمر الذي يُغنيها عن الكتابة، فالهدف تحقق أضعافاً مضاعفة.
وقد ردت علي بأن قالت بأنها طالما نجحت في جعل النساء/البنات يقرأن فهذا إنجاز
يكفيها ويُسعدها كما لو كانت قد نشرت كتاباً. وأضافت شيئاً علق بذهني، فقد قالت
بأن من يكتب عليه أيضاً أن يُضيف شيئاً جديداً.
هذه الملاحظة الأخيرة أشعر بأنني أختلف معها
قليلاً، إلا أنني أتفق معها أكثر مما أختلف! ولذلك أجد نفسي أقف أمام هذا التساؤل:
هل لديك شيء جديد؟ ذكرتُ أنني لستُ كاتباً ولا شيء آخر قريب أو بعيد من الكتابة. وهنالك
عدة هواجس تحول بيني وبين الكتابة: هل تستطيع الكتابة بشكل جيد؟ هل أنت مُثقفٌ بما
يكفي؟ هل لديك ما سيرغب الآخرون في قراءته؟ لمن تكتب؟! لنفسك؟ حسناً، وماذا ستقول
لنفسك التي لست راضياً عنها أصلاً؟! هل لغتك جيدة؟ تحتاج لتحسين بلا شك! هل مازلت
تقرأ؟ عماذا ستكتب إذاً: لا تتابع الأخبار والسياسة، لست خبيراً في الأدب أو الفن
أو الطبخ أو كرة القدم، لست مجنوناً يمكنه أن يجعل من اللغة نوعاً من المخدرات ولو
كان يكتب عن تكدس القمامة في الشوارع! آه! هواجسٌ كثيرة تقول لك: دع عنك هذه
الأوهام، واذهب واغسل الصحون أو افعل شيئاً مفيداً في حياتك البائسة.
وإذا حدث وأقنعت نفسك بإحباط بأنك مجرد كاذب يريد
أن يكذب على الناس ويكتب تفاهات فقط لكي يشعر ببعض الرضى على نفسه، إذا نجحت في
إغماض عينيك عن كل تلك الهواجس، فسوف تُبصر ذلك السؤال في مخيلتك وداخل جفنيك
المغلقين: هل لديك شيء جديد؟
ولكن، الشيء "الجديد" يعني أن هنالك
معياراً خارج نفسك، أعني نظرة أخرى تحكم إن كان ما لديك جديدٌ مُدهش! أم قديمٌ
بالٍ.. وهذا يعني أن السؤال الأساسي هو: هل أكتب للآخرين؟ لا أظن ذلك... على
الأقل، لا أظن أنني أكتب للآخرين جداً، أعني للجميع. ربما أكتب لحبيبتي، لأهلي،
لأصدقائي – أي أكتب لنفسي، أو بالأحرى أكتب نفسي لكي يروني.. ربما هكذا يمكن للمرء
أن ينجو من معضلة "الجديد" الذي يجب أن يأتي به، فأنت حين "تكتب
نفسك" ستكتب شيئاً جديداً لنفسك، وستعرض على أحبابك وأصدقائك شيئاً جديداً عن
نفسك...
لم أستطع منع نفسي من التفكير في ذلك المقطع من
رسالة بعثها الصادق النيهوم إلى خليفة الفاخري (الكاتبان الليبيان الرائعان..
أبناء مدينتي.. بنغازي). يقول الصادق النيهوم في رسالته:
"حزن.. حزن
حقيقي ممتلئ الوجه بالعار.. حزن لا نهاية له.. يمتد في طريقي كله بين ميونيخ وبين
بيتنا في أفريقيا.. حزن.. حزن ابن عاهرة تنقله العربات ذات الأجراس النحاسية في كل
براميل الخشب، حزن.. حزن أيها الحبيب.. مد لي يدك، إنه حزن.. أخذ كل ما أملكه..
أكل ذلك حتماً، ابن العاهرة النهم.. وامتد في طريقي يلقي نكاته النشيعة، ويمسكني
كل يوم من قميصي:
هل لديك شيء جديد؟ قل..
أبداً.. لا شيء أيها
الحزن.. أنت أكلته كله، وفي بطنك هذه.. ويطلقني، يقول لي انصراف.. ولكن امشِ على
الرصيف وانظر يميناً وشمالاً قبل أن تعبر الطريق، حزن.. حزن حقيقي لا شك فيه.. حزن
يغلبني بالعركة، ومرةً أخرى: سني عن سني.. بيغلى على قلبي عهد الولدنه.."
هل لديك شيء جديد؟
أبداً.. لا شيء.. ولكن ربما لهذا سأحاول الكتابة، لكي
أقول لكل من يمدون أيديهم لي بأنه ليس لدي شيء جديد.. ربما ستمتد إلينا أيادٍ
جديدة، وربما نحن أنفسنا سنمد أيدينا لآخرين... أليست هذه عبرة كل شيء؟
7 أكتوبر 2016